الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كتاب -الساق على الساق-

سليمان جبران

2019 / 8 / 19
الادب والفن


سليمان جبران: كتاب "الساق على الساق"
ننشر أدناه الفصل الرابع من الباب الأوّل، أو الكتاب الأوّل بلغة الشدياق، من كتاب الساق. وهو فصل كنّا اخترناه في كتابنا الذي تناول الساق في دراسة مستفيضة. هذا الفصل القصير نسبيّا يكاد يتضمّن كلّ الخصائص المضنونيّة والأسلوبيّة في الكتاب المذكور، ومن هنا قيمته في نظرنا.
يتضمّن هذا الفصل وصفا مفصّلا لمقطع هامّ من حياة الفارياق، أو الشدياق الطفل؛ ما يبيّن بوضوح أنّ كتاب الساق على الساق هو سيرة ذاتيّة؛ بل أوّل سيرة ذاتيّة في الأدب العربي الحديث! وإنْ كان سيرة ذاتيّة "شدياقيّة"، كتبه الشدياق على هواه مستغلا هذا الجانر الفضفاض ليضمّنه كلّ ما شغله يومها.
يمثّل هذا الفصل القصير كلّ المميّزات الأخرى في الكتاب: السجع دونما الإفراط فيه، والمادّة اللغويّة الثرّة، بمناسبة وبغير مناسبة أحيانا، والأسلوب الحديث السهل. بالقياس إلى أسليب تلك الأيّام البعيدة من بدايات الأدب العربي المعاصر
لا ننسى أخيرا السرد الكرونولوجي، أبرز خواصّ السيرة الذاتيّة. وإن كان يختفي أحيانا في ثنايا الاستطرادات الكثيرة.
ليس لدينا شكّ أخيرا في فرادة هذا المؤلّف الرائد، الذي لم يحتلّ في رأينا المكانة التي يستحقّها، حتّى في هذه الأيّام. لا يمكننا طبعا، في هذا المجال الضيّق، التعريف الوافي بهذا الكتاب "الفريد"، بأسلوب صاحبه، ومن شاء تحليلا مستفيضا للكتاب، مضمونا وأسلوبا، يمكنه مطالعة الكتاب ذاته، وهي مهمّة غير بسيطة، أو قراءة دراستنا المطوّلة : "كتاب الفاريق، مبناه وأسلوبه وسخريته"، الصادرة عن جامعة تل أبيب عام 1991.

1/4 - في شرور وطنبور
قد كان أبو الفارياق آخذا في أمور ضيّقة المصادر، غير مأمونة العواقب والمصاير، لِما فيها من إلقاء البغضة بين الرؤوس، وشغْب أهل البلاد ما بين رئيس ومرؤوس. فقد كان ذا ضَلع مع حزب من مشايخ الدروز، مشهور بالنجدة والبسالة والكرم، غير أنّهم كانوا صفر الأيدي والأكياس والصندوق والصوان والهميان والبيوت. ولا يخفى أنّ الدنيا لمّا شكلها كرويّا كانتْ لا تميل إلى أحد إلّا إذا استمالها بالمدوّر مثلها وهو الدينار. فلا يكاد يتمّ فيها أمر بدونه. فالسيف والقلم قائمان في خدمته، والعلم والحسن حاشدان إلى طاعته. ومِن كان ذا بسطة في الجسم، وفضل في المناقب، فلا يفيد طوله وطَوله بغير الدينار شيئا. وهو على صغر حجمه يغلب ما كان كبيرا ثقيلا من الأوطار ولُبانات النفس. فالوجوه المدوّرة المدنّرة خاضعة له أيّان برز، والقدود الطويلة منقادة إليه كيفما دار، والجباه العريضة الصليتة مكبّة عليه، والصدور الواسعة تضيق لفقده.
فأمّا ما يقال من أنّ الدروز هم من ذوي الكسل والتواني، وأنّهم لا ذمّة لهم ولا ذمام، فالحقّ خلاف ذلك. أمّا وسمهم بالكسل فأحرى أنْ يكون ذلك مدحا لهم. فإنّه ناشئ عن القناعة والنزاهة والزهد. غير أنّ الصفات الحميدة التي يتنافس فيها الناس، متى جاوزت الحدّ قليلا التبستْ بنقيضها. فالإفراط في الحِلم مثلا يلتبس بالضعف، وفي الكرم يلتبس بالتبذير، وفي الشجاعة بالتهوّر والمغامرة. لا بل الإفراط في العبادة والتديّن يلتبس بالهوس والخبال. هذا ولمّا كانت الدروز مفرطين في القناعة، إذ لا ترى من بينهم أحدا يقتحم القفار، ويخوض البحار في طلب الإزاء ، وفي التأنّق في الملبوس والمطعوم، ولا مَن يُسفّ للأمور الخسيسة ويدنّق فيها، أو من يباشر الصنائع الشاقّة، ظُنّ فيهم الكسل والتواني. ومعلوم أنّه كلّما كثر شره الإنسان ونهمه، كثر نصبه وكدّه وهمّه. فالتجار من الإفرنج على ثروتهم وغناهم أشقى من فلّاحي بلادنا. فترى التاجر منهم يقوم على قدميه من الصباح إلى الساعة العاشرة ليلا. وأمّا أنّ الدروز لا عهد لهم ولا ذمّة فإنّما هو محض افتراء وبهتان. إذ لم يُعرف عنهم أنّهم عاهدوا بشيء ثمّ نكثوا به من دون أن يحسّوا من المعاهد إليه غدرا، أو أنّ أميرا منهم أو شيخا رأى امرأة جاره النصراني تغتسل يوما فأعجبته بضاضتها وبَتيلتها وبوصها، فبعث إليها مَن تملّق لها أو غصبها. وأنتَ خبير بأنّ كثيرا من النصارى عائشون في ظلّهم، ومستأمنون في حماهم، وأنّهم لو خُيّروا أن يتركوا مستأمنهم هذا ليكونوا تحت أمن مشايخ النصارى لأبَوْا. وعندي أنّ من كان يرعى حرمة الجار في حرمته كان خليقا بكلّ خير، ولم يكنْ ليخونه في غيرها. فأمّا ما جرى من التحزّب والتألّب بين طوائف الدروز وغيرهم فإنّما هي أمور سياسيّة لا تعلّق لها بالدين. فبعض الناس يريدون هذا الأمير حاكما عليهم وبعضهم يريد غيره.
وكان أبو الفارياق ممّن يحاول خلع الأمير الذي كان وقتئذٍ واليا سياسة الجبل، فانحاز إلى أعدائه، وهم من ذوي قرابته. فجرتْ بينهم مهاوش ومناوش غير مرّة. وآلَ الأمر بعدها إلى فشل أعداء الأمير، ففرّوا إلى دمشق يلتمسون النجدة من وزيرها، فوعدهم ومنّاهم. وفي تلك الليلة التي فرّوا فيها هجمتْ جنود الأمير على وطن الفارياق، ففرّ مع أمّه إلى دار حصينة بالقرب منها لبعض الأمراء. فنهب الناهبون ما وجدوا في بيته من فضّة وآنية، ومن جملة ذلك طنبور كان يعزف به أوقات الفراغ. فلمّا أن سكنتْ تلك الزعازع رجع الفارياق مع أمّه إلى البيت فوجداه قاعا صفصفا، ثمّ رُدّ الطنبور عليه بعد أيّام، فإنّ من نهبه لم يجد في حمله منفع، ولم يقدر أن يبيعه، إذ العازفون بآلات الطرب في تلك البلاد قليلون جدّا، فأعطاه لقسّيس تلك القرية كفّارة عمّا نهب، فردّه القسّيس على الفارياق.
وكأنّي بمعترض هنا يقول ما فائدة هذا الخبر البارد. قلتُ إنّ وجود الطنابير في الجبل عزيز جدّا كما ذكرنا، فإنّ صنعة الألحان والعزف بالملاهي يَسِم صاحبها بالشيْن، لما في ذلك من التطريب والتصبّي والتشويق، والقوم هناك يغلون في الدين، ويحذرون من كلّ ما يلذّ الحواسّ. لذلك لا يشاؤون أن يتعلّموا الغناء والعزف بإحدى آلات الطرب، أو يستعملوا في معابدهم وصلواتهم كما تفعل مشايخ الإفرنج، خشية أنْ يفضي بهم ذلك إلى الإلحاد. فعندهم أنّ كلّ فنّ من الفنون اللطيفة كالشعر والإيقاع مثلا والتصوير مكروه. ولكنْ لو أنّهم سمعوا ما يتغنى به في كنائس مشايخهم المذكورين من الموشّحات، أو ما يُعزف به على الأرغن، من اللحون التي ولع الناس بها في الملاعب والمراقص ومحالّ القهوة، استجلابا للرجال والنساء، لما رأوا في الطنبور إثما. فإنّ الطنبور بالنسبة إلى الأرغن كالغصن من الشجرة، وكالفخذ من الجسم. إذ لا يُسمع منه إلا طنطنة، وفي الأرغن طنطنة ودندنة وخنخنة ودمدمة وصلصلة ودربلة وجلجلة وقلقلة وزقزقة ووقوقة وبقبقة وفقفقة وطقطقة ودقدقة وقعقعة وفرقعة وشخشخة وخشخشة وجرجرة وغرغرة وخرخرة وقرقرة وبربرة وطبطبة ودبدبة وكهكهة وقهقهة وبعبع وبعبعة وزمزمة وهمهمة وحمحمة وغطمطمة وتأتأة ودأدأة وضأضأة ويأيأة وقأقأة وصهصلق وجلنبلق وغطيط وجخيف وفحيح وحفيف ونشيش ورنين ونقيق وطنين وعجيج وأرير ودويّ وخرير وأزيز وهرير وصريف وصرير وشخب وصيّئ وموا وغاق غاق وغق غق وطاق طاق وشيب شيب ومي ميء وطيخ طيخ وقَيق قيق وخازبار وخاق باق. فأين هذا كلّه هداك الله من طن طن. فإن قيل إنّ الرغبة عن العزف به إنّما هو لكونه يشبه الألية، قيل فما بال النساء يدخلن الكنائس على رؤوسهنّ هذه القرون الفضّة، وهي تشبه فنطيسة الخنزير أجلّك الله عن ذكره، وفنطيسة الخنزير أجلّك الله عن ذكره تشبه كذا وكذا. فقد تبيّن لك أنّ اعتراضك غير وارد، وأنّ ذكر الطنبور كان في محلّه. فإن أبيتَ إلا العناد ، وتصدّيتَ لأن تخطّئني وتعقّبني، بزلّة وبغير زلّة، ورُمتَ أن تبدي للناس براعتك في الانتقاد عليّ أمسك عن إتمام هذا الكتاب. ولعمري لو أنّك علمتّ سبب شروعي فيه ، وهو التنفيس عن كربك وتسلية خاطرك، لما فتحتّ فاكّ عليّ بالملامة في شيء. فقابل الإحسان أصلحك الله بالإحسان، واصبر عليّ حتّى أفرغ من غزل قصّتي. وبعد ذلك فإن عنّ لك لخاطركَ أن تلقي بكتابي في النار أو الماء فافعلْ.
ولنعد الآن إلى الفارياق فنقول إنّه أقام مع والدته في البيت يتعاطى النساخة. وإنّه لم يلبث أن ورد عليه نعي والده في دمشق، فتفطّر قلبه، وودّ لو بقي الطنبور عند ناهبه. وكانت أمّه تنفرد في كلّ صباح وتندب زوجها وتتحسّر عليه، وتذرف المدامع لفقده. فإنّها كانت من الصالحات المتحبّبات لأزواجهنّ، عن خلوص وداد وصدق وفاء. وكانت تظنّ أنّ ابنها لا يراها في انفرادها، حتى لا يزيد حزنها برؤيتها إيّاه يبكي لبكائها. لكنّ الفارياق كان ينظرها في خلوتها، ويبكي لوحشتها ووحدتها أشدّ البكاء. فإذا رجعتْ كفكف عبراته، وتشاغل بالكتابة أو بغيرها. ومذ ذلك الوقت عرف أنّه لا ملجأ له بعد الله إلا غير كدّه، فعكف على النساخة. غير أنّ هذه الحرفة مذ خلق الله القلم لا تكفي المحترف بها، ولا سيّما في بلاد لوقع قرشها طنين ورنين، ولرؤية دينارها تكبير وتعويذ. إلا أنّ ذلك جوّد من خطّه، ورقّق من فهمه.
[ الكتاب الأوّل، الفصل الرابع من "الساق على الساق في ما هو الفارياق"، دار مكتبة الحياة، بيروت 1966، ص. 96 – 99].
هذا الفصل يكاد يجمع، على قصره نسبيّا، كلّ مميّزات كتاب الساق المضمونيّة والأسلوبيّة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا