الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة// الحكمة القبيحة

عماد نوير

2019 / 8 / 22
الادب والفن


تمرق مثل شُهب خاطفة، لحظات السّعادة حينما يطاردها غول الهجر، يجعل للموت اشتهاء مُلحّا، و طعما لذيذا، فليس هناك ما هو أمرُّ من تطويق الرّوح بكذبة، و انقياد القلب لأمل ألفهُ أدلّاء الصحراء القاحلة، أمل ليس له قرار وصول، قرأناه و عشناه في نجوى العشّاق، و في كل مرّة تنقبض القلوب خشية مواجهة ذات المصير يوما ما!
كانت تزدرئ فكرة الانتحار، فالضّعيف وحده من تراوده الحلول في نهاياتها، فيما تعجزه المعضلات من بداياتها، قالت مرّة لطلّابها في موضوع القوة الإيجابية:
- يجب أن تدركوا من اليوم أن التّفكير في إنهاء الحياة قبل أوانها يعدّ انهزاما و تفكيراً لا يرتقي لجنس متقدّم من المخلوقات!
سمحتْ لنفسها بالابتسام بعد عشر سنوات، تستذكر الامتعاض الذي كساها من ردّ أحد طلابها آنذاك:
- لكن يا أستاذة هذا يعدّ أرقى حالات التقدّم البشري، حينما تتاح لك حرية إنهاء حياتك وقتما تشاء.
نظرت إلى الوضع الذي يحيط بها، حيث كل شيء منوط برحمة الأجهزة المعالجة، و تصديقا اضطراريا لعداداتها، تُطبق عليها هذه الآلات المتطوّرة مطلقة بين فينة و أخرى أصواتا استفزازية، كأنها تتباهى بسيطرتها الكاملة و استسلاما مماثلا للمريض تحتها، هكذا كان الوضع يشغل نصف وقتها هنا.
هي ليست مريضتي الوحيدة، كما أنها ليست المرّة الأولى التي أتطفّل على حياة مرضايّ في نهاياتها، شعور غريب يلازمني أن أتابع المرضى ذوي الأفكار الخارقة، أو المختلفة على أقلّ تقدير، أراقب كيف يمضون لحظاتهم الأخيرة، كيف يصدّقون أنهم سيغادرون قريبا، فيما يملؤون علينا صالات المشفى بهجة و سعادة، حِكم و مواعظ، و أتساءل إن كانوا يصدّرون إلينا خلاصة حياتهم السابقة خارج مشفانا، أم هي مثاليات كانوا يمقتونها سابقا و قد غيرتها ظروف الإقبال على الموت حاليا!
أخجل أحيانا من استراق السّمع لها حين تكلّم مرافقتها الجميلة، فهمسها رقيق شاعري، يجعلني أحسد من رافقتْه حبيبة أو زوجة طيلة حياتها، نظراتها تشتعل بلهيب حياة أبدية، أرى الموت أحيانا يرتجف حين القدوم إليها، فيؤجل عمله لليوم التّالي علّه يزداد جرأة و حزما لملاقاة هذا الجمال و سلبه نبض الحياة بكل قسوة.
استراق السمع لشخص مجاور يحدّث خواصه صفة يمقتها الجاهل قبل المتعلّم، فلا يليق بي أن أكوّن فكرة عن حياة مرضاي المغادرين و استخلاص الدروس منهم بممارسة هذه الحركة الخسيسة، لكن ما جعلني أبرر لنفسي عملي الشّائن هذا هو أن وصلني دونما تلصص، هكذا بالصّدفة، حينما دخلتُ لمتابعة علاجها، همستْ لرفيقتها، و جانب من عينها تجاهي:
- كم هو غبي هذا الطبيب!
حاولتْ رفيقتها أن تغيّر الجو كي لا يصلني منها شيء في جو هادئ جدا، يسمح بانتقال الهمس معلنا فضيحة ما.
لم التفت صوب ما وصلني إلّا بعد أن امتصصت الصّدمة، فلم أحسب أن يبدر منها هذا التّصرّف أبدا، فطيلة وجودها عندنا كان مثابة خلق مثالي!
خامرني شك ضعيف أنها من الذّكاء ما أرادت به أن يصل إليّ ما وصل.
حاولتُ أن أسأل مرافقتها بعد أن تقربتُ منها أكثر عن عدم حضور زوجها، إلّا أني أحجمت في اللحظة الأخيرة خشية أن أسبب انتكاسة علاجية لا يسمح بها القانون الطبي و الأخلاقي.
كان وجهها يزداد بريقا كل يوم كأنها تتماثل للشفاء و معانقة الحياة من جديد، فيما كانت الأوراق أمامي تنذر بغير ذلك، تتزيّن كل يوم للقاء لم يحصل، مكحلتها لا تفارقها، تجرّأتُ يوما بصفتي طبيبها الخاص، أن أبعد عنها بطريقة مازحة علبة الكحل هذه، لكنها نظرت إليّ نظرة عتب، كأنها تقول لي: مازلتَ غبيا!!!
- لك ذلك سيدتي، دعيها معكِ، فهي حتما غالية الحضور عندك.
- يا دكتور، هي الوحيدة التي أصدّق أنني أبدو بها جميلة، فلا أدوات زينة عندي غيرها.
و أعقبتها بضحكة رائعة، كانت سبب ابتسامتي لنهار كامل.
لن أنسى أبدا هذه المريضة، أفردّتُ لها أيقونة في مدونتي المتواضعة، سجّلت فيها لحظات شاعرية لامرأة تقارع المرض بالحيوية و النّشاط و الأدب و الابتسام، اسمها إيماني، شكلها سومري، حديثها شهواني، غجري، موانئ عينيها تتسع لأساطيل من الجد و الهزل و البوح و الهرطقات، ذكاؤها الذي تسميه غباء كان أمنية لكل طموح، جمالها الفطري المجرّد من زيف النسوة يشعرك بالصّدق، كلامها كان فهرسة لكل معاني الأناقة.
دخلتُ غرفتها للمتابعة اليومية، هل أنا غبي حقا؟ أم أن هناك خطبا ما؟
المرأة متزيّنة بكل بساطتها فبدت كعروس قبائلية، الحنّاء ترقص على يديها، و لا أعرف كيف وصل إليها، فستان شعبي لا يذكرني اسمه و صيغة ذهبية متواضعة، تناثرت بمرح على صدرها و وجهها المكتنز حمرة و مسحة خفيّة من خجل، على جيدها العاجي يتسيّد الحفلة (بوزلوف) هكذا تسميه النسوة، و قد حفظتُه اضطرارا كي لا أغضب زوجتي بنسيانه.
- كيف حالكِ اليوم؟
- الحمد لله يا دكتور.
- هل لديك احتفال هذا اليوم سيدتي؟
قلتها بطريقة المزح.
- نعم... عزمت على الزواج يا دكتور...
ثم أردفتْ:
- هل تتزوجني يادكتور؟
ارتبكتُ، حاولتُ أن أتكلّم، أمزح، أي شيء، لكن جدّيتها، تعابير وجهها تنتظر جوابا، أسعفتني ذكرى قريبة:
- ألستُ غبيا، هل تقترنين بغبي؟
- أثبتْ لي أنكَ لستَ غبيا و لبِ رغبة امرأة تحتضر.
نعم تذكّرتُ مخرجا آخر:
- سيدتي، أنتِ تمزحين حقا، فأنتِ متزوجة، هذا ما يعلمه الجميع.
- نعم، لكني انفصلتُ أثناء فترة مكوثي هاهنا...هاه ماذا قلت؟
هززت رأسي موافقا، أخرجتْ مكحلتها و اكتحلت بلا مرآة كأنها اعتادت هذا الأمر، ثم طلبت هاتفي، ضبطتْه على وضع التّصوير، قالت اقترب مني و نادتني باسمي بلا لقب دكتور:
- اقترب، اقترب مني أكثر، ابتسمْ، لا داعي أن نشرح الحكمة أحيانا، و لكن تذكّر بأن الذين يخلعون السّعادة ليعيشون حياة مفروضة، لا يشبهون مَنْ يلاقون الموت بفستان عرس.
شهقَ الهاتف معلنا لقطة أبدية، سجّلتْ ومضة زمنية فاقت وقتها البسيط، خلدتْ عندي أجمل ذكرى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا