الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


(12) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء غريب : حوار أجراه من ستوكهولم الأديب والتشكيلي صبري يوسف

أسماء غريب

2019 / 8 / 27
مقابلات و حوارات


لو استعرضْتِ طفولتكِ الّتي ترعرعتِ فيها، كيف تبدو لكِ أهم فضاءات الطُّفولة حول السَّلام؟!
*
ربّما لأنّي وُلِدْتُ ونشأتُ في مدينة عريقة تاريخيّاً وجغرافيّاً، ومتعدّدة الثّقافات والدّيانات واللّغات، فإنّي وَجدتُ في قلبي منذُ البداية الاستعدادَ الكاملَ لولوج تعدّديّة الكون واختلافاته الَّتي تزيده ثراءً وعمقاً، إلّا أنّ هذا النّوع من التّجربة لا يُمكن تعميمه على الجميع، ولا يمكنُ حصر كلّ إنسان في طفولته البيولوجيّة فقط، لذا، فإنّ الطّفولة قد تكتسبُ معاني أخرى جديدة كامنة في قدرة الإنسان على التَّخلّص من رواسب بداءة العمر الّتي عادة ما تكون ممتلئة بالكليشيهات والأحكام الجاهزة والأفكار المُسبقة الّتي يرثُها الإنسان من والديْه وأسرته الصّغيرة ثمّ المجتمع الكبير. الطّفولة مفهوم فضفاض وواسع، يجب التَّعامل معه بحذر: الكلّ يدّعي أنّ أجمل ما في حياة المرء طفولته، في حين أنّ الحقيقة يجب أن تكون مخالفة تماماً؛ أعني أنّه من المُفترض أن يرى الإنسانُ طفولتَه كأصعب مرحلةٍ في حياته باعتبارها البداية والخطوات الأولى الخجولة والمتردّدة والمتعثّرة، وبالمقابل ينبغي أن تكونَ أواخِرُ العُمر هي أجمل مراحل حياةِ الإنسان باعتباره يكون قد اكتسبَ خبرةً واسعة، وعمِل على تصحيح أخطائه وتصويب مساراته وتعميق تجاربه وبالتَّالي الوصول إلى سدرة المنتهى وسعادة الرّوح والقلب، لكن الّذي يحدث هو العكس، إذ أنّنا نرى النّاس جميعاً تعساء جدّاً في شيخوختهم ويبكون أيّام فرح الطّفولة. ألا ترى معي أنّ الأمر فيه نوعاً من التّناقض والعبثيّة؟!
أنا مثلاً، أشعرُ أنَّني كلّمَا تقدّمَ بيَ العُمُر، ازدادَ فرَحِي، لأنّنِي أكتشفُ كلّ يوم شيئاً جديداً في تجربتي الرّوحيّة الدّاخليّة. إنّني كلّ يوم في شأنٍ، كلّ يوم أغوص في أعماقي، وأرحلُ في دواخلي بصبرٍ وسعادة وتأمّل، وهذا ما يُمكنُ أن أسمّيَهُ بسلوك طريق أهل الحركة والتّفاعل: لا يُمكنُ للإنسان أن يكتفي بعقله، لأنّ العقلَ خَدّاع كبير، ويجب الحذر منه جدّاً، لا سيّما وأنّه ليس لديه القدرة الكافية على إدراك الحقيقة في وجهَيْهَا، المُشرقِ والمُظْلم، وهو لأجل هذا لا يمكنه أن يدركَ ماهيّة الحياة وسرّ الوجود الأكبر.
لا بدّ من الحركة للوصول إلى طفولة القلب حينما يشيخُ الجسَدُ، لن يُجديَ في شيء أن يبحث الإنسانُ عن الحقيقة وهو مُعتزلٌ في قمّة جبل، ولا أن يذهبَ ليفكّرَ في شؤون الوجود في كوخ أو بيت مهجور داخل غابة نائية. الحقيقة تفاعلٌ وانفعالٌ، والطّفولة لا تقتضي منكَ أن تكون مفكّراً أو فيلسوفاً أو حتّى عالماً، وإنّما أن تكون رحّالة: على قلبكَ أن يرحلَ في أعماقه، عليه أن يكتبَ كثيراً، إذا كنتَ من أهل الكتابة مثلاً، وبهذا يكون قد دخل إلى الكون من باب الحرف، عليه أن يرسُم أيضاً أو يعزفَ إذا كنتَ من أهل الفنّ والموسيقى، وهلمّ جرّاً. القلبُ الرّحالة في فيافي الجسد والرّوح يكتشفُ أبهى معاني الطُّفولة، ولكي يحدثَ هذا يجبُ التَّحلّي بالجنون الواعي، الّذي أعني به هنا الوعيَ العرفانيّ، أيْ ذاك الّذي تكتشفُ به أنّ الحياةَ لا تكتملُ، والوجودَ لا يلتحِمُ إلّا في حضرة المتناقضات والمتضادّات. العقل الكامل لا ينفع، فماذا فعلنا يا ترى بهذا الكمّ الهائل منَ المفكّرين والفلاسفة في العالم؟! لا شيء، لا أحد فيهم يستطيع أن يقول لكَ إنّك حينما تُحِبُّ مثلاً فإنّك تتجّهُ أيضاً إلى الكراهيّة، أو إنّك حينما تكتسبُ صديقاً فإنّك تكتسبُ في الوقت نفسه عدوّاً، أو أنّك حينما تكون في حالة ِسلام مع نفسك فإنّ الحربَ تكون أيضاً على الأبواب! الأمر يُشبهُ حركةَ بندول السّاعة حينما تراهُ يتّجهُ نحو اليمين فاعلم أنّه في حركته هذه يستجمع الطّاقةَ الّتي ستدفعه بعد قليل نحو اليسار، لكنّ العقل لا يرى هذا الأمر، فهو لا يؤمن سوى بالحركة إمّا نحو اليمين أو نحو اليسار، كذلك بالنّسبة للحبّ، أنتَ حينما تحبّ لن تصدّق نفسكَ بأنّك أيضاً تتّجه نحو الكراهيّة، لكن الأمر هو هكذا حقيقة، وحينما تصادقُ إنساناً لا يمكنك أن تتصوّر أنّك أيضاً عدوّه في الوقت نفسه، هذه هي الحقيقة وإن لم تتقبّلها. لكن اسأل نفسك ماذا يمكن أن يحدث لو أنّك رأيتَ الحقيقة بوجهيْها المتناقضيْن؟ أعتقدُ أنّك ستكفّ عن التَّساؤل، لأنّك ستكون قد حلَّلْتَ لغزَ الحياة الّذي يقتضي منك أن تتقبّل السّرّ بقلبِ طفل، لا بعقل فيسلوف ولا مثقّف ولا عالِم!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السودان الآن مع عماد حسن.. دعم صريح للجيش ومساندة خفية للدعم


.. رياض منصور: تغمرنا السعادة بمظاهرات الجامعات الأمريكية.. ماذ




.. استمرار موجة الاحتجاجات الطلابية المؤيدة لفلسطين في الجامعات


.. هدنة غزة.. ما هو مقترح إسرائيل الذي أشاد به بلينكن؟




.. مراسل الجزيرة: استشهاد طفلين بقصف إسرائيلي على مخيم الشابورة