الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


موظف خارج ملاك الوزارة ... قصة قصيرة.

عامر حميو

2019 / 8 / 28
الادب والفن


أنا مجبر على ارتداء الملابس الرثّة، وإن بُليت وما عادت تصلح، أبلدتها بغيرها، وهذه إن كانت مهندمة توجب عليّ أن أدعكها وسادة لي لليلة كاملة، ثم أفتق جوانبها قليلاً وأرتديها في الصباح. أمّا لو شدّتني الرغبة للتنعم ولبس الثياب النظيفة، فما عليّ غير أن أفعل فعل البنت الشابة التي تقفل عليها باب غرفتها، وتستعرض ثيابها أمام صورتها في المرآة.
وأشقّ ما أجبر عليه في أول الصباح أنني أنتبه لتصفيفة شعري، وأحرص أن يكون شعري مبعثراً كأنني طفل خرج لتوه من عراك صاخب. أقدامي إن كانت نظيفة فعليّ أن أجرها خلفي كل صباح لتغبرّ بما تثيره من غبار حولهما، ونعلاي لا ألتفت للمعانهما، وأحرص دوماً أن أتركهما مساءا عند عودتي لغرفة الصفيح، بعيدتان عن صنبور المياه ليبقيا على اتساخها إلى صباح اليوم التالي.
أحلم بما يحلم به كل الناس.
أحلم بحياة مرفّهة، وبالعيش في بيت نظيف، وفي ركوب أحدث موديلات السيارات. أحلم مثلهم في الارتباط بفتاة أتخيّل شكلها الجميل كل ليلة أنهي بها يوم عملي، وإن رغبت مثلهم التنعّم بوجبة عشاء فاخرة، فأنا لا أسمح لنفسي بارتياد أفخر المطاعم وأشهرها، بل يتوجّب عليّ أن أبتعد عن محل سكناي ومكان عملي، قدر ما أستطيع، ثم وسط دهشة عمّال المطعم الفاخر آخذ ما أرغب بأكله تلك الليلة، وأنا أخبئه بين طيات ملابسي الرثة، كأنني سارق يريد سد جوع بطنه على غفلة من العيون، رغم أنني دائماً ما أدس للعامل الذي سلّمني كيس أكلتي، إكرامية يحلم أن يمنحه إياها أغنياء المدينة.
هي لحظة تباهٍ دائماً ما أرغب أن أعيشها مع عامل المطعم، لا تستمر غير لحظات قصيرة، لحظات تستغرق مدة الزمن التي يحتاجها عامل المطعم ليمد لي يده بالطعام، وسؤاله عن ثمنه، ثم قولي له:
- خذ، واترك الباقي لك.
دهشة تلمع بتقطيب ما بين حاجبيه، وارتعاش لا يستغرق غير ثوان معدودة على شاربيه. فيهما مرة أقرأ امتناناً منه أفتقده بين الناس على فعل أؤديه، ومرة أقرأ فيه احتجاجاً على مهانة يشعر بها إذ تكون الإكرامية ممن هو مثلي! لكنها في النهاية، وبين هذا الفعل وذاك، تبقى لحظة تباهٍ وانتشاء تجتاحني حد البكاء. فيها أحن لآدميتي، وأثور لكرامتي المهدورة تحت إغراء الطمع.
بتوالي الوقت على عملي نسيت الكثير من قدرتي على الاستجابة للاستفزازات من حولي. نسيت أن أرد الشتيمة، ونسيت أن تثيرني السخرية، ونسيت أن يثبت جسمي متماسكاً على قدميه لو دفعتني يد شاب قوية بعيداً عنه، ولو أردت الحق فأنا لم أنس، بل كنت أتناسى مثل هكذا مشاعر. فلقد تعلّمت لكي أستمر بالجَلَد والصبر علي أن لا ألتفت كثيراً لما يجري بداخلي، وشيئاً فشيئا ماتت ثورة العمر فيّ عندما استطعت أن أقتل الكرامة خنقاً بين أصابعي.
قُتِل والدي في الحرب. قُتِل في ذات السنة التي تخرّجت بها من الجامعة، وفي اليوم التالي لموته صحوت على حقيقة أنني مسؤول عن عائلة تتكوّن من أم كبيرة في السن وأربع فتيات، أكبرهن شارفت أن تتجاوز سن الزواج وما من رجل يتقدّم لخطبتها، فهي بالإضافة لدمامة وجهها، هي تنحدر من أسرة كان ربها يعمل اسكافياّ، بالكاد يسد رمق أسرته من جهد يومه. بناته ألزمهن البيت من أجل أن يصرف على تعليمي، عسى أن أساعده بشيخوخته لو تخرجت وصرت موظفاً حكومياً.
وفي يوم قبل سنين مضت، قرّرت بلحظة عناد، بعد أن يئست من ايجاد عمل، أن تكون وجهتي إلى صخب العاصمة، ولحظتها أذكر أنني قلت على مسمع من والدتي وأخواتي:
- لن أعود هذه المرة إلّا وقد عملت.
في العاصمة عشت التشرّد بعينه، فبعد أن صرفت آخر درهم بجيبي، عشت يومين كاملين دون أن تدخل بطني لقمة أكل واحدة، ومن وجع الجوع قدحت الفكرة في ذهني، وتراقصت أحلام الغنى والرفاهية لشكل الحياة التي ستعيشها أمي وأخواتي الأربع.
فبسبب جوعي اكتشفت أن التسوّل مهنة لا تحتاج لآلة تندثر أجزائها، ولا هي مهنة تجارة تحتاج إلى رأس مال قد تفقده لو خسرت. في العوز تشفق عليك الناس وأنت تستعطيهم، وفي الرخاء تثير شفقتهم وعطاياهم، فيها لا يبلى من جسدك غير تورّم قدماك من أثر السير الطويل، وبها أنت سيدك ساعات يومك، فلا أحد يجبرك على الالتزام بوقت ولا التقيّد بنظام. فقط أنت مجبر على شكل من الحياة العلنية توحي للناس أنك تعيش الفقر والفاقة الشديدة.
ومن يومها وأنا أعمل متسوّلا طيلة أيام الأسبوع، أنا باختصار شديد أعمل موظفاً لكنني خارج ملاك أية وزارة! وفي أخر يوم من كل أسبوع أسافر لأمي وأخواتي، وفي قبضتي رزمة نقود يحلم بها الخريج الذي كنت، لو حدثت معجزة وأصبح موظفا حكوميا!.

(عامر حميو/ روائي وقاص عراقي)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع


.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو




.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05


.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر




.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب