الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من يعيش ثمانين حولا لا أبا لك يسأم (احتفاء بعيد ميلاد محمد برادة)

محمد الداهي

2019 / 8 / 28
الادب والفن


احتفى أهل منطقة " لوغار" ومثقفوها، وبالضبط في كفر "لاليك"، بعيد ميلاد الكاتب المغربي محمد برادة- الذي ناهز ثمانين عاما بوم الثلاثاء 14 غشت 2018- تنويها بأعماله ومؤلفاته، وتقديرا لجهوده في إرساء دعامات القيم الإنسانية النبيلة، و سعيا إلى تعزيز حسن المرافقة وجميل الموافقة، وحفظ مقتضيات المروة والأخوة. أفعمني هذا الحدث-الذي واكبته عشرات المدعوين من الكتاب العرب والأجانب والأصدقاء والأقارب من مختلف مناطق المعمور - فرحا وغبطة، وحفزني على كتابة شهادة عنه على ما هي عليه من قصر وما فيها من تقصير مع صادق دعائي إلى الله العلي القدير أن يعيد الاحتفال على محمد برادة بالعمر المديد والعيش الرغيد.
الجسد وظله:
اضطر محمد برادة إبان عقدي الثمانينات والتسعينات من الألفية الثانية إلى التنقل بانتظام من الرباط إلى باريس ثم بروكسيل لزيارة زوجته ليلى شهيد التي كانت تشغل-على التوالي- سفيرة دولة فلسطين ثم ممثلة الدولة الفلسطينية لدى الاتحاد الأوروبي. كان-حينئذ- أستاذا للأدب الحديث بجامعة محمد الخامس وعضوا نشيطا في المنظمات الثقافية والسياسية سعيا إلى تحديث المجتمع المغربي ودمقرطته. وفي رسالة بعثتها إليه بتاريخ 1 شتنبر 1998، أدرجتُ هذه العبارة الموحية ." شعرت منذ مدة أن ظلكم يكبر تدريجيا في الضفة الأخرى". كنت أعرف -بحكم مؤهلاته الثقافية وقدراته التواصلية واللغوية- أنه سيثبت وجوده وجدارته في المجتمع الغربي دون أن ينسلخ عن هويته. وهذا ما تأكد لي مع مر الأيام إذ اختار هو وزوجته أن يستقرا جنوب فرنسا وبالضبط في ريف لاليك الذي يبعد عن مدينة أفينون ب60 كلم. وعندما تفقدته مؤخرا للمشاركة في الاحتفال بعيد ميلاده الثمانين عاينت مدى التقدير الذي يكنه له مثقفو فرنسا وأدباؤها وعلية قومها. جاؤوا من مختلف المناطق الفرنسية إعجابا بواسع ثقافته ورائع مؤلفاته، واعترافا بكريم فضائله ونبيل خصاله. وكل واحد منهم يحمل حكاية الصداقة التي توطدت بينه ومحمد برادة وزوجته ليلى شهيد، ونضجت-مع مر الأيام- على نار هادئة.
وإن كبر ظل محمد برادة في الضفة الأخرى، فقد ظل جسده شامخا هنا في المغرب وفي العالم العربي عموما. لم يجرفه تيار المنفى الاختياري كما جرف أمثاله إلى أن خبا نجمهم في مواطنهم الأصلية. بقى وفيا لمنبت نبْعته ومهبط وجدانه، محافظا على أواصر الصداقة ومقتضيات الأخوة التي تجمعه بمُجاليه وأهله وثلة من الشبان الواعدين، متابعا –من كثب- ما يجري في العالم العربي، حريصا على إشاعة الألفة في دعوة دائمة إلى التعايش والتآزر. لم يطْفُ هاجس الهجرة إلا مؤخرا في روايته " موت مختلف"، التي جسد فيها ما يقع في " الفضاء الثالث" من تناقضات ثقافية ولغوية ومفارقات اجتماعية حادة تؤثر سلبا في تنشئة المهاجر أو المنفي وتؤدي –مع مر الأعوام- إلى اضطراب هويته وتمزقها. وما عدا ذلك كرس محمد برادة رواياته جلها لتشخيص مصير المغرب ومآله بعد حصوله على الاستقلال السياسي، وبيان التقلبات التي صاحبته تاركة جراحا جسدية ورمزية في نفوس المناضلين والوطنيين الأوفياء الذين ضحوا من أجل مغرب حداثي وديمقراطي، وعاينوا -عكس ما توقعوه - توالي الإخفاقات المُمضَّة، وارتداد الأحلام إلى الدرك الأسفل، وانسداد الآفاق، وضياع الفرص. ذكرني ارتباط محمد برادة بالموطن الأصلي، وسعيه إلى إعادة تمثيله في نضارته ورُوائه بالمراسيم- التي اعتاد عليها محمد حسين هيكل إبان كتابة رواية " زينب"( ومن ضمنها: إسدال نوافذ حجرته، وإطفاء الأضواء)- ليرى في وحدته وانقطاعه عن حياة باريس مصر مرسومة في ذاكرته وخياله.
وإن وجدت روايات محمد برادة المترجمة صدى طيبا في الأوساط الصحفية والنقدية بفرنسا، لم يحفزه ذلك على ركوب غوارب التيار الفرنكفوني، والامتثال لضوابط " المؤسسة الأدبية الفرنسية" ومعاييرها تطلعا إلى " شهرة مصطنعة". ظل حريصا على الكتابة باللغة العربية التي هي بمثابة الرئة التي يتنفس بها، والرابطة الفكرية والآصرة الأدبية التي تربطه ببني جنسه.
في حضرة لاليك:
قضيتُ رفقة المدعوين أياما جميلة بكفر لاليك في ضيافة محمد برادة وزوجته ليلى. وانبهرنا بالتنظيم المحكم الذي تكلفت به ليلى مستثمرة خبرتها الميدانية ونبلها الإنساني. حرصت في الأمسية البهية- التي احتضنها فناء البيت التقليدي المرمم الذي تتوسطه شجرة الزيتون " سيدة السفوح المحتشمة "-على دقة الأشياء وتفاصيلها حتى تكون الترتيبات على أحسن ما يرام. وبين الفينة والأخرى تتفقد المدعوين، فرادى أو مجتمعين، للاطمئنان على أحوالهم وتلبية أذواقهم، والاستجابة لطلباتهم وحاجاتهم. وتحرص- بعناية فائقة- على تقديم الأطباق الفلسطينية الأصيلة والمتنوعة . كنت أعرف الوجه الإعلامي والسياسي لليلى من خلال البرامج الملتلفزة الفرنسية وهي تدافع عن القضية الفلسطينية بحجج دامغة وبلغة فرنسية أنيقة. واكتشفت - إثر احتكاكي بها مؤخرا - عمقها الإنساني، ونبلها الأخلاقي، ورهافة ذوقها، وارتباطها القوي برفيق عمرها محمد برادة، وعشقها للحياة الطبيعية، وعنايته باللياقة والرشاقة والأناقة وجودة الحياة.
تنتمي لاليك إلى جهة لوغار التي تستمد اسمها من نهر يخترق أرجاءها الفيحاء. وتعتبر مدينة نيم ، التي تبعد عن لاليك ب30 كلم، مقاطعة الجهة. وتشغل لاليك موقعا استراتجيا لكونها محاطة بمدن صغيرة مزدانة بالمآثر العمرانية والتاريخية الخلابة، وببساتين خضراء تتاخم سلسلة جبال سيفين. وما أثار انتباهي وأنا أقطع مبكرا مسافات على القدمين وجود علامات التشوير في مختلف الطرقات والمسالك الغابوية لإرشاد ابن السبيل أو الضال إلى الجهة المنشودة، و انتشار الأمن و الأمان إلى درجة أن السكان يتركون أبواب ونوافذ بيوتهم ومرائبهم وسياراتهم مفتوحة، ومرور أرانب على قارعة الطريق، وعدم وجود الأطفال بالأزقة وفي المراعي على النحو المعتاد في الريف المغربي.
الجواهر المحيطة بلاليك
اعتاد محمد برادة على تفقدنا في مقر إقامتنا بلاليك في منتصف النهار، مقترحا علينا اكتشاف مدينة بعينها وتناول وجبة الغداء. لا تستطيع السيارة أن تستوعبنا لكثرتنا . ولذا تفتق ذهن يوسف فاضل عن إزالة الكراسي الخلفية، فتكدسنا متراصين كأننا كتلة واحدة. وهو ما كان يثير فضول المارة الذين كنا نصادفهم في طريقنا. ورغم حرارة الحيز وضيقه كنا نشعر في صحبة القائد والسائق محمد برادة بغبطة فائقة، نستمتع بالمآثر العمرانية والتاريخية ، وبالبساتين الممتدة والمترامية الأطراف، ونصغي إلى أحاديث سعيد الكفراوي ومستملحاته وطرفه. وبين الفينة والأخرى يتدخل محمد برادة ليشرح لنا معلمة من المعالم، ويقدم لنا معلومات دقيقة عن عادات المدينة وتقاليدها وأعلامها وأطباقها المحلية. ومما أتذكره حديثه عن قصر دوفان الذي يوجد على مقربة من مدينة لوسان. بناه كاصبار دوديبير عام 1550- مستوحيا هندسته من البناء الإيطالي- على ضفاف نهر يحمل الاسم نفسه (وهو مشتق من لفظ "Fanum" التي تعنى "المعبد"). من الطرف التي تحكى عن القصر أن جد الروائي أندريه جيد ( توفيل جيد) عين- بعد خلع روبسبير، رئيس المحكمة بأوزيس ومالكا للقصر. وكان أندريه جيد يتردد على القصر ومدينة أوزيس لزيارة عمه شارل جيد خلال عطل الفصح. أصبح القصر عام 1920 ملكا عموميا تابعا للبلدية، وهو اليوم عبارة عن بناية مقسمة إلى شقق، محافظة على عبقها التاريخي.
تجولت صحبة الأصدقاء في مدينة أوزيس ملتقطا صورا إلى جانب قصورها وأبراجها وبناياتها العتيقة. حصلت هذه المدينة الصغيرة والعتيقة عام 1974 على " الجائزة الوطنية للتنمية المتناسقة". وتنظم بها- على مدار العام- أنشطة ثقافية وحفلات الأرغن (ليالي أوزيس). ذهبنا إلى "الحديقة القروسطية" ، وتسلقنا أدراج أحد أبراجها (برج الملك) بعناء لضيقها والتوائها إلى أن وصلنا إلى السطح للتمتع بمنظر بانورامي عن سطوح المدينة الزاهية بقرميدها الروماني، و على مرمى البصر تمتد- في الجهة الشمالية الشرقية- سلسلة جبال سفين الخضراء.
تذكرت وأنا أودع هذه المدينة مساء ما عاشته من مآس وإحباطات وكوارث خلال نصف قرن ( الطاعون، والفقر المدقع، والحروب الأهلية، والفوضى بسبب قطاع الطرق والمرتزقة، وتدمير الكاتدرائية عام 1563، وكنيسة سانت فيرمين عام 1578، والجرائم، ومشانق الإعدام..). وها هي الآن تنعم بالطمأنينة والرخاء والهناء والبهاء، وتستقطب الزوار من كل فج عميق كأن شيئا لم يقع من قبل. فمتى تندمل الجراح العربية، ويقطع الإنسان العربي مع عهد التسيب والدمار والارتداد، ويسترجع طمأنينته وكرامته المفتقدتين، ويعيد للأمكنة بهاءها وعبقها؟ وفي انتظار أن يكتمل الحلم ما علينا إلا أن نردد المثل العربي السائر: كل إناء يرشح بما فيه.
اقترح علينا محمد برادة- في اليوم الموالي- الذهاب إلى مدينة لوسان التي تجثم فوق ربوة صخرية تشرف على الأدغال وأشجار السنديان الأخضر والنباتات المتعرشة. أدرجت هذه المدينة الصغيرة عام 2016 في قائمة المدن الفرنسية الأكثر جاذبية وجمالا. أول ما صادفنا عند مدخل المدينة هو قصرها البهي الذي بني في القرن التاسع عشر، وأضحى اليوم قصر البلدية الذي يحضن بانتظام أنشطة ثقافية ومعارض فنيه. جابت بنا سيارة محمد برادة الشوارع الضيقة بمحاذاة المعبد الذي بني على أرض كان يمكلها تيوفيل جيد، وكنيسة سان بير ( ساحة أندريه جيد). وهذه المباني وغيرها أصبحت مصنفة في قائمة المآثر التاريخية المعتمدة.
عرج بنا محمد برادة إلى مدينة صغيرة تسمى وميجان لو كلا (Méjanne le clap) التي تبعد عن لوسان بعشرة كلمترات مرورا بلاليك في منتصف الطريق. وهي توجد في قلب وهْدة لاسيز محافظة على طابعها الهندسي الروماني، ومتميزة طوال العام بمناظرها النضرة، و محمياتها الطبيعية، وأعشابها البرية (الصعتر، الندغ ، الخزامى، إكليل الجبل)، وأشجارها الكثيفة (السنديان الأخضر، العرعر، القطلب، البهشية، التوت البري). وهي الوجهة المفضلة للسياح الذين يتوافدن عليها- على طول العام- لممارسة رياضتهم المفضلة ( المشي، التنيس، ركوب الخيل، اكتشاف الكهوف والمغارات، سباق الدراجات ).
حدثنا محمد برادة عن سكينة المدينة وهدوئها، التي يقصدها - في الغالب -المتقاعدون للاسترواح والتسرية والابتعاد عن ضغط المدن الكبيرة وضجيجها. وتتوفر- أسوة بالمدن الفرنسية -على فضاءات خاصة يقصدها الزوار لتناول الوجبات المتنوعة والطرية.
بعد جولة طفيفة على مشارف المدينة قادنا محمد برادة إلى أحد المطاعم الأثيرة لديه لجودة خدماتها وتنوع أطباقها ووجباتها . وما زاد من تتبيل الجلسة بملح من التزيين سرديات سعيد الكفراوي المثيرة والساخرة، وخفة ظل محمد برادة وملاحظاته النفاذة، وقفشات يوسف فاضل باللكنة المغربية، وتمتع فاروق مردم باي بحافظة قوية في تذكر الأسماء والتواريخ وعناوين الروايات، وإطلالات جبار ياسين على المشهد العراقي المأساوي.
عندما أقلعت الطائرة يوم الخميس 16 غشت من مارسليا إلى الدار البيضاء استرجعتُ شريط الأيام الجميلة التي قضيتها –صحبة المدعوين- في ضيافة محمد برادة وكنفه بريف لاليك الخلاب والفاتن احتفاء بعيد ميلاده الثمانين. انتابني هذا السؤال : لم أعز برادة؟ إنه السؤال نفسه الذي طرحه ألان روب غرييه بصدد رولان بارث إبان تكريمه والاحتفاء بمساره الزاخر في سيروزي لاصال عام 1977: لم أحب بارث؟ أتجنب- في هذا السياق- أن أبين ما يشد برادة إلى بارث، وما يقربه منه لشدة إعجابه بعمق مؤلفاته وناصية بيانه. ما يهمني أساسا- مقتفيا أثر ألان روب غرييه ، ومستثمرا جوابه في سياق مماثل- استبعاد اسم الكاتب وإحلال مؤلفاته محله. وهذا لا يعني تحليلها ( ما قمت به في سياقات أخرى كان آخرها إصدار كتاب جماعي عن مجمل مؤلفات محمد برادة وإسهاماته " البحث عن الذات بين جيلين" 2016) وإنما استظهارها عن ظهر قلب. استطاع برادة- أسوة بكتاب عرب كبار- أن يبتدع ويستحدث أسلوبه الخاص الذي يستحق أن يستظهر لأناقته وأصالته وجدته ورقته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: كان نفسي أقدم دور


.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: -الحشاشين- من أعظم




.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: خالد النبوي نجم اس


.. كل يوم - -هنيدي وحلمي ومحمد سعد-..الفنانة دينا فؤاد نفسها تم




.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: -نجمة العمل الأولى