الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التيه بين اغتراب الواقع و ماض مغترب قراءة في مجموعة قصائد ( حكايات لجبين كاترين ) للشاعرة نداء عادل ( القراءة : عبدالله بير)

عبدالله بير

2019 / 9 / 8
الادب والفن


"لا شيء يجعلنا عظماء غير ألم عظيم " توفيق الحكيم .
هل هناك ألم أعظم من ضياع الوطن ؟ يتبادر هذا السؤال الى ذهن القارئ حينما يتمعن في قراءة مجموعة قصائد الشاعرة العراقية المغتربة ( نداء عادل ) ، التي صدرت من قبل الهيئة العامة للكتاب في جمهورية مصر العربية في شهر أغسطس و 2019، و تتألف المجموعة من عشرين قصيدة جميلة ، وهي بمثابة لوحات فنية لغوية في منتهى الروعة ، استخدمت الكاتبة اساليب مختلفة في بنية هذه القصائد و اثارت تساؤلات عدة . فالاغتراب أيا كان نوعه يعتبر من الآلام العظيمة التي تجعل من الانسان ضائعا في الحياة . لذلك لجأت الشاعرة الى عالم الكتابة للتعبير عما يجول في خاطرها و التفكير في الاغتراب كعملية قيصرية للعيش. و الكتابة نفسها فعل اغترابي يحمل معه اخطار كثيرة ، و يحمل في طياته الكثير. ينظر العلماء و الفلاسفة الى الكتابة كثورة كوبرنيقية في مجال الوعي الانساني ، و التي ادت به الى الهروب من المواجهة المباشرة و التخفي وراء الكلمات .
من هنا و بطول التاريخ الانساني نجد ان الكتابة فعل خطير، مُنعت كتب و أحرقت و نهبت مكتبات. مع ذلك بقت الكتابة من اروع ما ابدعه الانسان خلال مسيرة تاريخه الطويل في الارض . لا يتم فعل الكتابة إلا بفعل اخر و هو بدوره لا يقل خطورة و اهمية منها وهو فعل القراءة ، اي أن عمليتي القراءة و الكتابة من اخطر العمليات التي تتخوف منها السلطات مهما كانت نوعها ، لذا يعتبر { الكتاب (النص ) و القراءة} من الاشياء المهمة في بناء الوعي الانساني و التأثير في رؤية الانسان للواقع الذي يعيش فيه .
( حكايات لجبين كاثرين ) مجموعة قصائد ، تتناول قضية الاغتراب ، باستذكار الماضي و التعايش معه في حاضر مغترب بأسلوب شعري جميل ، حيث استخدمت الشاعرة كلمات تضج بالألم و البعد عن الوطن و مراتع الطفولة . فالقارئ يجد كلمات محددة استخدمت للتعبير عما يجول في خاطر الكاتبة مثل ( غريب ، اصفر ، ارصفة ، حقيبة ، كاس فارغ ، الافق ، قفص الصمت .... الخ ) من الكلمات التي تؤكد ازمة الاغتراب لدى الشاعرة . الالتجاء الى الاهل و خصوصا الاب الذي يعبر عن الملاذ الامن في خضم امواج الحياة العاتية التي تتقاذف الإنسان يمينا و شمالا و تجعل منه ريشة في مهب الريح ،حيث لا يمكن التنبؤ بما سيحدث في المستقبل لأنه منزوع الجذور و يطير بلا وجهة معينة .
استخدمت الشاعرة ( الاب ) كرمز عن الوطن او السلام او الهدوء و الطمأنينة و مناجاته من خلال القصائد كتعبير مجازي و كناية عن الحامي عندما تقع الشرور و تصبح حياة الانسان مهددة.
وصف الواقع الاغترابي بأسلوب شعري جميل ، عملية صعبة لان التفكير و البحث عن مسكن او لقمة عيش قد يشتت فكر الانسان و لا يمكّنه من جمع افكاره و صبها في القوالب الادبية كالشعر او القصة ، فالشاعرة ( نداء عادل ) خرجت من هذا الاطار الضيق الى رحابة الادب و كتبت كلماتها في منتهى الرقة و منتهى العذوبة لتصور واقعها المرّ ، ملتجئة إلى ذكريات طفولتها و ومقارنة ذلك الماضي المر بالحاضر الأمرّ .
( عندما حل المساء
مثلي غريبا
بكيت
صار الورد اصفرا كالموت ......)
في هذه الصورة الشعرية يتبين للقارئ كيف ان كلمات مثل ( المساء و غريب و اصفر و موت ) كلها تعبر عن الضياع و الغربة ، ولكن السؤال هو هل هذا الجمع بسيط ؟ هل يستطيع ايا كان ان يجمع هذه الكلمات معا في نصي ادبي؟ ابداً فجمع هذه الكلمات تحتاج الى مهارة و شعور بألم كبير كي يتمكن الشخص من ان يجدل كل هذه المعاني معا .
( في شوارع المدينة
بعدها صرنا نقيس دربنا للمدرسة
بجثث تلفها الاعلام ....)
الن يكون الانسان معذبا في الارض لو كانت ذكرياته اقسى من حاضره ؟ و هذا ما نراه في قصائد الشاعرة و كيف مرت بتجربة طفولة مرَّة، فلم تكن لها ذكريات مع الفراشات او الازهار بل مع الموت و الجثث و الخوف ، لذلك تصبح الطفولة اكثر اغترابا من الحاضر ، اذاً اين المفر من كل هذا؟ القصائد و الكلمات و الجمل و العبارات التي تنقل الانسان للعيش في فردوس يوتوبي جميل يحمل عنه بعضاً من مآسيه .
( ما قيمة شعراء بلا ذاكرة ؛
غريب بلا حنين
حبيب لا يتنظر عودة غائب ؟
سيهدأ زجرها في بحر بلا قوارب
هناك ....)
ترتكز جمالية القصائد على كثرة انزياحات اللغة التي تبنتها الشاعرة للتعبير عما تريد توصيله للقارئ من آلام الغربة و مرارة الفراق عن الحبيب ، او الوطن او الاهل ، لذا نجحت في ربط ماهو متناقض و غير متوقع ، حيث شكلت لوحات جميلة من خلال تلك الانزياحات التي تشكل في النهاية لوحة كبيرة ، فسيفسائية صنعت بيد ماهرة على ذاكرة القارئ .
(بعض الصباحات لا تأتي برفق
ثائرة هي في وجوه نجمات المساء ،
عاجزة عن تأنيث الغياب .
و القمر لم يزل هنا ،
يأبى الرحيل عن حوائط القبرات التي حنطنا سويا
يشي بنا للشمس
و الجليد بيننا يعلو همسة تلو اخرى .)
جمالية القصائد في هذه اللوحات اللغوية التي تثير تساؤلات عديدة في روح القارئ ، هل يمكن للمعاناة ان تصل الى الحد الذي يفقد فيه الانسان الامل ؟ و كيف للإنسان ان يكون متوحشا لدرجة ان يجعل حياته و حياة غيره اشبه بغابة كبيرة لا تحكمها سوى قوانين الوحوش ؟ و كثيرة هي تساؤلات نداء في هذه المجموعة ، و نستطيع ان نتلمس من خلال القراءات المتكررة كيف أن لها الخبرة و التمكن من التلاعب بالكلمات كي توصل رسالتها المليئة بالألم و الفقدان و تكون صوت معبر لكل غريب في هذا العالم المليء بالشرور و الغربة و الضياع .
(حكايات لجبين كاثرين) هي في الحقيقة لوحات فنية جميلة ، نسجت بأنامل ماهرة ، و دراية تامة بما يشغل نفس الانسان, حين يحس بالضياع في هذا العالم ، وقد استطاعت تطويع اللغة لإيصال رسالتها الانسانية الى العالم ، و التعبير عما يجول في كمائن روحها، إظهار مواساتها من خلال جمل شعرية مستخدمة اسلوب التناقض او الانزياح او التغير في وظائف الكلمات ، حيث يدخل القارئ في متاهات و دهاليز شعرية في منتهى الروعة و يجد نفسه واقفا في احدى محطاتها او يرى نفسه كانه هو الذي سرد كل هذه الحكايات .









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الممثل الباكستاني إحسان خان يدعم فلسطين بفعالية للأزياء


.. كلمة أخيرة - سامي مغاوري يروي ذكرياته وبداياته الفنية | اللق




.. -مندوب الليل-..حياة الليل في الرياض كما لم تظهر من قبل على ش


.. -إيقاعات الحرية-.. احتفال عالمي بموسيقى الجاز




.. موسيقى الجاز.. جسر لنشر السلام وتقريب الثقافات بين الشعوب