الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كل الصيد في جوف الفرا

محمد الداهي

2019 / 9 / 10
الادب والفن


شهدت المكتبة الوطنية المغربية مؤخرا تقديم الأعمال القصصية والروائية لأحمد المديني بعد أن فرغت وزارة الثقافة من طبعها. وهي سنة محمودة نهجتها الوزارة الوصية منذ عقود تقديرا لجهود ثلة من المبدعين المغاربة، وتطلعا لتوفير أعمالهم مجموعة حتى يطلع عليها القراء ويتيسر على الباحثين العثور عليها. وشارك في التقديم، علاوة على حضورالمؤلف، عبد الحميد عقار وعبد الفتاح الحجمري ومحمد الداهي.
-----
أستحضر- في تقديم المجموعات الروائية والقصصية لأحمد المديني- قولين قد تسعفان على تعرُّف طبيعة المؤلف وموقفه من الوجود. قال ميشيل بوتور" الإنسان متعلم مدى الدهر" ، وقال نابليون بونابرت " ليست هناك رواية أكثر إثارة من حياتي". ظل أحمد المديني، خلال مساره الثقافي، وفيا للتعلم من الحياة، ومما تجود به من تجارب أكانت سارة أو محزنة. فالخمول أو الجمود يؤدي ، في نظره، إلى خريف الكتابة، وشيخوخة مبكرة، وبوار السلعة الأدبية. ولهذا كان ديدنه التفاعل إيجابا أو سلبا مع غوارب الحياة الهوج، والبحث عن التجريب في كل اتجاه، ورفض المألوف والمستقر، والمراهنة على التجديد والتأصيل. فكل ما كتبه، خلال ما يربو على خمسة عقود، يستمد نسغه مما عاشه وقاساه وهو يواجه الحياة في مختلف معارك العمر ومحطاته. وأحيانا يستحضر وقائع تبدو في حلتها الأدبية أكثر غرابة ودهشة من الخيال.
كان أحمد المدني ذكيا في استبعاد صفة "كاملة" من أعماله لكونها لا تشمل إلا ما كتبه في جنسيْ القصة والرواية إلى حدود عام 2010. كما أنها لا تستوعب أعماله الأخرى في مجال الرحلة والشعر والترجمة والنقد والبحث الأكاديمي. فمجموع ما كتبه منذ عام 1971 إلى غاية 2010 يصل إلى أربعة وأربعين عملا بمعدل 1,12 % كل سنة ( أي عمل مكتمل وجزء يسير من المشروع الموالي).
تمتد الأعمال الروائية زمنيا من عام 1976 ( زمن بين الولادة والحلم) إلى عام 2009 ( هموم بطة) ، وتستوعب اثنتي عشرة رواية، جُمِّعت مؤخرا في خمس مجلدات من 2574 صفحة، بمعدل 514,8 صفحة في كل مجلد على حدة.
استغرق إنتاج المجموعات القصصية تسع وثلاثين سنة ( "العنف في الدماغ" (1971)، "عند بوطاقية" (2010)). ووصل عددها الإجمالي إلى إحدى عشرة مجموعة قصصية، استوعبتها أربعة مجلدات من 1527 صفحة، بمعدل 381,75 صفحة في كل مجلد.
نستخلص من هذه الأعمال ما يلي:
أ-استطاع أحمد المديني أن يحافظ على حضوره في الساحة الثقافية المغربية خصوصا والعربية عموما، ويواكب مختلف المستجدات الإبداعية والمعرفية على خلاف بعض الأسماء التي توارت إلى الخلف لأسباب مختلفة أو تصدر كتبا على فترات متباعدة جدا.
ب-إنه غزير الإنتاج، ممسوس بجنون الكتابة إلى درجة أنه لا يطيق العيش دون أن يقرأ ويكتب. فما يتمتع به نشاط وحيويته يستمده ، وفق الميتلوجيا الإغريقية، من "نبع الفتوة fontaine de jouvence"، وهم ما أهله إلى الحفاظ على عنفوان شبابه، ومعايشة الأجيال الصاعدة، ومواكبة الحساسيات الثقافية والأدبية المختلفة.
ج- تنم كتابته عن جهد ومثابرة. وهذا يتضح بالنظر إلى حجم كل مؤلف من مؤلفاته، وطراوة محتوياته، وطرائق إخراجه، وتأثيث فضاءاته الداخلية مع الحرص على تنقيح اللغة حتى تكون خلوا من الأخطاء المطبعية، إلا ما جاء سهوا وفوق المستطاع.
د-راهن على التجريب سعيا لتطوير شكل القصة أو الرواية العربية. ما كتبه قبل رواية " رجال ظهر المهراز2007" كان مغرقا في التجريد، مما جعله مختلفا عن محيطه الأدبي، ومنقطع الصلة عنه. كانت تبدو كتابته، رغم الجهد المبذول فيها، غريبة وعصية على فئات عريضة من القراء، إن لم نقل مخيبة لتوقعاتهم بالنظر إلى ما اعتادوا عليه واستأنسوا به. وكثيرا ما كان أحمد المديني يصرح أنه " يقدم قصة تمشي على رأسها"، ويعرض مشروعات وتداعيات وهذايانات حكائية تتطلب من القارئ بذل قصارى جهوده لتعليل ما يجمعها ويوحدها ويؤطرها ضمن الكل المنسجم والمتناغم. لكن أحمد المديني نزع بعد هذه الفترة إلى مخاطبة تنظُّر القارئ ، وحرص على توسيع قاعدة مقروئيته ، مما اضطر إلى النزول من عليائه والتخفيف من شطحات التجريب حتى تتوالى الأحداث في سلاسة أكثر مما يغري أكثر على قراءتها والإقبال عليها. وتوجت هذه المرحلة بحصوله على جائزة المغرب عن مجموعته القصصية " خريف وقصص أخرى" مناصفة مع عزالدين التازي في صنف السرود والمحكيات عام 2008، وترشيح روايته " ممر الصفصاف" ضمن اللائحة القصيرة لجائزة البوكر العربية 2015 لما تتضمنه من سمات فنية متميزة.
ه- يتمرد على السرد التقليدي مجربا أشكالا فنية جديدة في تمثيل الواقع. لا تستهويه مغامرة السرد التي تحث على سرد قصة من الحياة مع الحفاظ على زمنيتها ( التتابع الكرنولوجي للأحداث)، وإنما يراهن على سرد المغامرة لإعادة تمثيل الواقع وتشخيصه بطرائق فنية ( من قبيل التخييل الذاتي، والإرصاد المرآتي، والتمثيل المضاد، والنصوص النقدية الواصفة، والتوليف، والتصوير الشعري).
لا يمكن أن نتحدث عن تجربة أحمد المديني دون أن نستحضر المقدمة التي صدر بها مجموعته القصصية الأولي ( العنف في الدماغ 1971)، وقد عاود التطرق إلى محتوياتها بعد مرور أربعين سنة كما لو كان يشعر بعدم إيفائها المكانة المستحقة في ضوء المتغيرات الثقافية والاجتماعية التي شهدها العالم العربي إبان "الربيع العربي" وبعده. وفي هذا الصدد نشر مقالا موسوما ب" صنعة التجريب ، ومسار الكتابة" في جريدة "القدس" بتاريخ 21-02-2012. استعاد فيه الأجواء التي حفزته على كتابة مغايرة ، وساعدته على طبع مجموعته الأولى بعدما توطدت علاقته مع محمد شبعة ( أحد أعضاء مجموعة "أنفاس") الذي أسس منشورات "أطلنط".
ويمكن أن نقسم المقدمة/ البيان إلى مستويين:
أ‌- يدافع أحمد المديني، في المستوى الأول ، عن ضرورة التزام الكاتب حتى يؤدي رسالته الإنسانية على الوجه المطلوب، ويبلور سياسة ثقافية وطنية ترتكز على أسس دينامية تجمع بين المساءلة والفضح سعيا " لزحزحة التراكمات الجليدية التي ما برحت تتكدس في ميدان الثقافة والكتابة من أثر مضامين الكتابة التزييفية والتحريفية، والتي تتعامل مع الواقع والإنسان تعاملا ديماغوجيا" ص9. كان، في هذه الفترة، شابا في العشرين من عمره، متأثرا بصحوة الأدب الطلائعي و بمجموعة "أنفاس"، مما جعله يتطلع إلى دور الأدب في التغيير والتجاوز، و يتوق إلى استعمال الكلمة سلاحا حادا في مساءلة الواقع وخضخضته، " خاصة إذا كانت منطلقة من ممارسة علمية ومعاناة عنيفة داخل تشنجات الواقع وما يزخر به من استلابات وانسحاقات جماعية" ص13
ب‌- ويتوقف، في المستوى الثاني، عند السمات المائزة التي تتسم بها مجموعته القصصية مما يؤشر على تجربة إبداعية مغايرة للقصة التي خرجت من " معطف " غوغول. ومن ضمن هذه السمات نذكر أساسا : البناء المضاد، والتصوير الشعري، والكتابة الهذيانية، والمغامرة في اللغة. وهي ، علاوة على عناصر أخرى، من خاصيات القصة- اللحظة(Nouvelle-instant) التي تحتفي بكل ماهو حاسم في الحياة بحكم مثاليته وطابعه الاستثنائي، كما أن كل شيء في القصة يدرك باعتباره " الوحدة النوعية للحظة".
يعرف أحمد المديني- الذي يمثل جيلا من الأدباء المغاربة- أن العبرة بالخلف. فهو يتوجه في آخر بيانه إلى الجيل الجديد آملا أن يعيش في ظروف حسنة، ويواصل أداء رسالته الأدبية مبتكرا مجددا، ومتطلعا للخروج من حصار العقم والاتباع ونسخ التجارب المكرورة. " المغامرة في اللغة، في البناء، في الرؤية. كل ذلك في حدود التجريب. أجرب، أومن بالمستقبل، أومن بجيل جديد يصنع مصيره بحد أظافره وأسنانه، يجرب، يخلق، يكون" ص19.
قد تكثر الوسائط في تقديم الأعمال القصصية والروائية،لكن الأفيد والأجدى هو أن نحفز القراء على قراءتها للتأكد من أصالتها وجدتها والاستمتاع بعوالمها الخيالية. فكل الصيد في جوف الفرا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي


.. تسجيل سابق للأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن يلقي فيه أبيات من




.. الفنانة غادة عبد الرازق العيدية وكحك العيد وحشونى وبحن لذكري


.. خلال مشهد من -نيللى وشريهان-.. ظهور خاص للفنانة هند صبرى واب




.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس