الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


(16) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء غريب : حوار أجراه من ستوكهولم الأديب والتشكيلي صبري يوسف

أسماء غريب

2019 / 9 / 11
مقابلات و حوارات


صبري يوسف:
فوضى العالم وهمومه ويأس النّاس المرير فيه، كيف السّبيل إلى التَّخلّص من كلّ هذا؟
*
د. أسماء غريب:
فوضى العالم تنبعُ من الفوضى الفرديّة الّتي يعاني منها كلّ إنسان على الأرض قاطبةً. وهذه الحقيقة هي في حدّ ذاتها كارثة كونيّة، من الغباء حصرُها في منطقة جغرافيّة مُعيّنة، لكن الأهمّ من هذا كلّه السّعي الحثيث من أجلِ الخروج من هذه الدّوّامة!
هناك معاناة إنسانيّة على كافّة المستويات، السِّياسيّة منها والدّينيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، لدرجة أنّ الوجود النّفسي للإنسان أصبح مُشوّشاً برمّته. لقد خذلَ الجميعُ الإنسانَ؛ تجّارُ الدّين والسِّياسة والثَّقافة. تخيّلوا أنّ حتّى الكتبَ لم تعُد تنفعُ في شيءٍ، تاريخ الأفكار أصبح مسموماً ومدنّساً، والكتب القديمة بما فيها المقدّسة فقدتْ ذاك البريق الَّذي كانت تتمتَّع به منذ قرون مضت: لا أحد يخفقُ قلبُه أو ينتعش بمجرّد أن يقرأ آية من القرآن أو الإنجيل. لقد أصبح كلّ حرف في هذه الكتب بالنّسبة للكثير من النّاس مجرّد كلمات. لماذا يحدث هذا يا ترى؟ النّاس يكرِّرون كثيراً كلام الكتب المقدّسة، وهُم بكثرة تكرارهم هذا في حياتهم اليوميّة بدون فهم ولا استيعاب، يعلنون حالةَ الكذبِ الَّتي يعيشون فيها باستمرار. لذا فإنّه يجبُ فهم سبب هذا الكذب والتّشويش. ولكي يحدث هذا لا بدّ من وعي فائق ينقلُ الإنسانَ من حالة المفعول بهِ إلى حالة الفاعل، وهذا لن يتحقّق باللّجوء مثلاً إلى المعبد أو إلى المعلّم الرّوحيّ أو إلى الجمعيات الدّينيّة والأحزاب السِّياسيّة، والمؤسّسات الاقتصاديّة، أو إلى الكتب والثّقافة، لأنّ الأمر سيكون مجرّد هروب من حالة فرديّة إلى حالة أخرى تكون فيها السّلطة لمجموعة ما من البشر، لأنّ هذه المجموعات غالباً ما تُقدّم مصلحة نظام المجموعة على الفرد، ومصلحة المجتمع على الإنسان لأنّ المؤسّسة تُصبحُ أهمّ من الإنسانيّة نفسها. وكيف لا والكلُّ قد تخلّى عن القيم الرُّوحيّة والأخلاقيّة وأصبحَ يدين بقيمة الأشياء المصنوعة بالعقل واليد.
التّاريخ يُخبرنا دائماً عن أشخاص استطاعوا التَّغلّب على هذه الفوضى الدّاخليّة، الأنبياء مثلاً، والمعلّمون المتنوّرون. هذا أمر لا شكّ فيه، لكن الأمر الَّذي يبعثُ حقيقة على الحيرة، هو أنّ الفوضى ظلّت مستمرّة بعدهم، لماذا؟! أعتقدُ أن السرّ يكمن في تخلّي الإنسان عن دوره الفاعليّ والفعّال في العالم. لا يكفي الوجود فقط على هذه الأرض، ولكن لا بدّ من التّفاعل ومساعدة الآخرين من أجل الخروج من هذه الدّوّامة الآن، وليس غداً، لأنّ كلّ تأجيل لن يأتي معه سوى المزيد من الدّمار والحروب والبؤس والضّياع.
لنبدأ من البيت، من المدرسة من الحيّ والشّارع ثمّ المجتمع الواسع. لأنّ الوعيَ يجبُ أن يحدث في هذه اللّحظة، ولتتذكّر أنّ الغد هو للكسالى والبلداء وغير المهتمّين بالعالم. نعم، التّغيّرُ يحدثُ الآن، والتَّخلّص من المشاكل أيضاً، هكذا فقط يمكن لكلّ فرد أنْ يتجاوز موجة الدّمار التّسوناميّ الّذي يطرقُ الأبواب في كلّ لحظة وأوان.

////
صبري يوسف:
ماذا ينتابكِ وأنتِ وسط الغابة تنظرينَ إلى بهاءِ الفراشة وروعةِ الطَّبيعة، وتسمعين إلى تغريدِ البلابل؟
*
د. أسماء غريب:
الكون بكلّ ما فيه من طبيعة ونجوم وكواكب وأقمار وعوالم أرضيّة وسماويّة هو الجزء المكمّل لأكواننا الدّاخليّة، بل هو الصّورة المرئيّة لها في عالمنا المادّي، ولا فاصل أو مسافات تحدُّ بيننا، ومتى ما استوعبنا هذه الحقيقة ازداد حبّنا لأنفسنا واحترامنا للكون والوجود بأسره. الغابة هي الإنسانُ متى ما دخل إليها وجب عليه تحديد خرائطه ومواقع أسفاره وأماكن انطلاقه ووصوله، وإلّا تاه بين أدغالها، والتهمته سباعُها ووحُوشها. عليك أن تكون عارفاً أيّها الإنسان بغابتكَ السّرّيّة، وبأهلها وسكّانها من طيور وفراشات، وكذا من نمور وثعالب وذئاب، وحيتان وأسماك وما إليها. أمّا عن غابتي فهي مزيج من كلّ هذا وذاك فيها الشّموس والأقمار، وفيها الأنهار والبحار، وفيها الجبال والأشجار، تارةً أمشي فيها بدون أن تلمسَ قدماي التّراب، وتارة أغوص في محيطاتها بكلّ بهجة وفرح وسرور، وتارةً أحلّق مع نسورها، وتارات كثيرة أغازل طواويسها البيض والحُمر والخُضر، ولي فيها إخوةٌ وأصحاب، فالشّجرة أمّي مثلاً، وطائر العنقاء جدّي، لأجل هذا كلّما رأيتُ شجرة في عالم المادّة جلستُ عند قدميْها، وكلّما سمعتُ أو رأيتُ طائراً دعوته ليجلس إلى مائدتي لنتدارسَ معاً أمور الحرف والفرح. ويا لسعادتي حينما أرى الأشجارَ تمشي مُقْبلةً عليّ باسمةً ضاحكةً تغنّي لي أناشيد المحبّة والسّلام. غابتي كلّها خير، تمدّني كلّ يوم بطاقة تتجدّدُ على الدّوام، تدعوني إلى الكتابة وتقول لي، إنّ حروفي هي الحَبُّ الّذي يبحثُ عنه اليمام، وهي المنّ والسَّلوى الَّذي يقصده الكثيرُ مِن الأنام. غابتي تدعُوني إلى محبّة الكون، وتُعَرّفني كلّ يوم بأصحاب جُدُد، يأتون للقائي كلّما تنفّسَ الصُّبح، وتأخذ بيدي وتربِطُ على قلبي وتُطَمْئِنُ روحي، وتقول لي إنّنا كلّنا إخوة في الخلق والخليقة، وإنَّنا كلٌّ إلى الحبيبِ أوّاب!
((حينمَا دخلتُ إليّ
وجدتُ في انتظاري حديقتِي السِّرّيّة
ونهراً عظيماً من المسكِ المُتَدَفّقِ
شربتُ منهُ حتّى أغميَ عليَّ
من شدّة الوجد والانتشاء
وحينمَا أفقتُ
رأيتُ أمامي أعمدةً من النّور
ونفقاً فضّيَّاً
حينما ولجتُهُ
طالعني كوكبُ زُحل
وتوقّفتِ الأرضُ عن الدَّوران
يا للسّذاجة
مَن قالَ إنَّ الأرض تدورُ
هي فقط دموعيَ الّتي تتدفّقُ
وتلكَ الوردة الصّوفيّة الحمراء
مازالتْ تنظرُ إليّ
وهي تتفتّحُ ببطْءٍ شديد
لتكشفَ للمُريدِ
سِرَّ الشّيْخِ
والسّماءُ تبكي بدموع من الألماس
أراهَا مطراً ينهمرُ في صمتٍ
هل رأيتَ أنت أيضاً
هذا الألماس
وأنت هناكَ بعيداً عنّي
في كوكب المشتري
الضّوء أزرق
وأعمدةُ النّور فضّية
ادخلْها لُطفاً
لتحملكَ إليّ
قطراتٍ من ندىً بنفسجيٍّ
تتساقطُ فوق الوردة الحمراء)).
///
صبري يوسف:
كيف يُمكنُ للمبدع أن يُحقّق السّلام مع ذاته ومع روحه ولماذا على الرّغم من كثرة المثقّفين والمبدعين من حولنا لم يتحقّق بعد هذا السَّلام المنشود؟!
*
د. أسماء غريب:
الوصولُ إلى السّلام مع الذّات والرّوح ليس بالأمر الهيّن أبداً، وهو ليس شأن المبدعين فقط، أمّا عن المثقّفين على وجه التّحديد فهُم أبعد النّاس عن هذا المسار التَّطوّري، لأنّ الثّقافة في حدّ ذاتها تُنَاقِضُ مفهوم السّلام نفسه، وأنّى لها أن تسمحَ للإنسان بتحقيقه وفي أبراجها يتمسّكُ النّاسُ بكلّ ماورثوه عن الأجداد ويتناقلونه من جيل إلى آخر دونما أدنى تساؤل أو محاولة للتّجديد أو الغربلة! ألا ترى معي عزيزي القارئ أنّ الإنسانَ في الثّقافة مسجونٌ داخل قضبان الكليشيهات الَّتي تُفرضُ عليه تارةً باِسم الدّين وتارة أخرى باسم الفكر أو الفلسفة أو الأدب أو العلوم؟! والسّلام الحقّ لا يعنيه كلّ هذا بتاتاً لأنّه شأنُ الفرد بذاته وروحه، في الوقت الَّذي تكون فيه الثّقافة شأنُ الجماعة والقبيلة والعشيرة ثمّ المجتمع، لأنّ بها تتأسّسُ المنظومات السِّياسيّة والدَّساتير والقوانين والأديان وما إلى ذلك. والسّلام هو حالة عميقة من التَّنوّر والتّفتّح الرّوحيَيْنِ، وهو أمر لا يحدث بالبساطة الّتي يتخيّلها الجميع، وأهل السّلام الأحقّاء قليلون جدّاً، وهو الأمر الّذي يدفعنا إلى التَّساؤل عن المعوّقات الَّتي تحول دون تحقيق حالة الصّفاء والوئام والانسجام لدى كلّ إنسان، أيْ لماذا لا يحدث التَّنوّر إذن؟
هل رأيتَ عزيزي القارئ القمرَ ليلاً وهو يعكسُ ضوءَه فوق البحيرة؟ هل تساءلت كيف يحدثُ هذا؟ الأمر لا يتطلّب أيّ جواب من أيّ نوع، هو يحدثُ وكفى، لا البحيرةُ تطلبُ ذلكَ من القمر، ولا القمرُ يتوسّلُ البحيرةَ بأن تسمح له بالانعكاس فوقَها. والسّلام هكذا، لا يوجد أحد في الطَّبيعة يتآمر ضدّه أو يعوقه، فأنتَ البحيرةُ، وضوءُ القمر المنعكس فوقها هو حالة السّلام المنشودة، لن تطلبَه ولا هو سيركضُ خلفَك، إنّما إذا تحقّق ستصبحُ أنت وهو تشكّلان أجمل لوحة في الوجود. لكن والحال أنّ الإنسان قد هجرَ حالة البحيرة وأصبح بحراً هائجاً، فإنّ ضوء القمر يتكسّرُ فوقَه وتتجعّدُ أشعّته ولا يمكنه أبداً أن ينعكس بكلّ صفاء وبهاء ونقاء. أتعرف ما الّذي حوّلكَ أيّها الإنسان إلى بحر تصرخُ فيه الأمواج: إنّها الأفكار، أو الثّقافة الَّتي حشوا بها عقلكَ باسم الدّين والسِّياسة فحرموا القمرَ من أن ينعكس فوقك، وحرموكَ من أن تكون بحيرةً أو مرآة صافية. لقد فُرض عليك كلّ شيء حتّى أنّك لم تعُد قادراً على التّمييز بين ما ينبغي أن تكون عليه، وبين من تكونُ أنتَ فعلاً. لا أحد اليوم يعرفُ من هو حقّاً وحقيقةً، لا أحد يستطيع أن يصدّقَ أنّه في الواقع بحيرة ساكنة وبديعة الجمال حدّ النّشوة، والرّوحُ فوقها زنبقة بيضاء تتألّقُ تحت ضوء القمر، لكن ما العملُ والكلّ أصبح ضحيّة الثّقافة بل الثّقافات العالميّة، ضحيّة الآباء والمدارس والجامعات والمؤسّسات وهلمّ جرّاً! جرّب عزيزي القارئ أن تستعيدَ حالةَ البحيرة، سيكون الأمر في البداية صعباً، وستشعرُ أنّك أصبحتَ فارغاً من كلّ شيء، وستفتقرُ إلى ثقافة المجتمعات من حولك بل ستشتاقُ إليها، لكن في المقابل ستكون قد تخلّصتَ من كلّ النِّفايات الفكريّة والإيديولوجيّات المريضة، وحتّى إن أصبحتَ فقيراً فإنّك ستكون غنيّاً بنفسك وببحيرتك الجديدة، بل بفكرك المستقلّ عن الجميع. أن تكون في حالة سلام، يعني أن تعود إلى طبيعتك الأولى، إلى فطرتكَ الَّتي عليها وبها خُلقتَ:
((زهر النّارنج أنا
تحت ضوء القمر
سحرٌ يفوق الخيال
سأطلبُ من الرّيح
أن تحمل عطري
وتنثره فوق الجبال
سأصاحبُ الغيمة
وسأركض مع النّهر
فأنا أقيم هناك
في قطرةِ المطر
وعطرِ النّارنج
لأنّي سلام معتّق)).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هدنة غزة وصفقة تبادل.. تعثر قد ينذر بانفجار| #غرفة_الأخبار


.. إيران والمنطقة.. الاختيار بين الاندماج أو العزلة| #غرفة_الأخ




.. نتنياهو: اجتياح رفح سيتم قريبا سواء تم التوصل لاتفاق أم لا


.. بلينكن يعلن موعد جاهزية -الرصيف العائم- في غزة




.. بن غفير: نتنياهو وعدني بأن إسرائيل ستدخل رفح وأن الحرب لن تن