الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللآلىء والخنازير

صبحي حديدي

2006 / 5 / 16
الادب والفن


في شباط (فبراير) 1890 كان من المحال على السيدة ماري جينو، صاحبة "مقهى المحطة" المطلّ على ساحة لامارتين في بلدة آرل الفرنسية الجنوبية، أنّ تتخيّل أنّ نهاراً سوف يحلّ ذات ساعة ـ بعد 116 سنة في الواقع! ـ فيشهد بيع صورة لها مرسومة بالزيت على القماش، بمبالغ طائلة هائلة تُعدّ خرافية تماماً في مقاييس ذلك الزمان، وهذا الزمان أيضاً. والأرجح أنّ مدام جينو كانت تتسلى مع هذا الرسّام الطيّب، العصبيّ الحساس الرقيق الموشك على الإنهيار العصبي أو ربما الجنون، حين جلست ذلك اليوم أمام فرشاته وقماشه ونظراته الثاقبة، واضعة يدها على خدّها، مبتسمة قليلاً، وأمامها كتابان: "أقاصيص عيد الميلاد" للروائي البريطاني شارلز ديكنز، و(كما يرجّح الكثيرون) "كوخ العم توم" للأمريكية هارييت بيشر ستو.
كانت اللوحة تلك خامس ـ ويُتفق عموماً أنها أجمل ـ عمل في سلسلة بعنوان "الآرليات"، نفّذه الفنّان الهولندي الكبير فنسنت فان غوخ (1853 ـ 1890) على سبيل التحيّة والتقدير لصديقه الفنّان الفرنسي الكبير بول غوغان (1848 ـ 1903)، بعد فترة خصام شخصي بينهما، وخلاف أسلوبي، وتباعد في المزاج الجمالي. ومنذ أيام، كما هو معروف، بيعت هذه اللوحة بمبلغ يقارب 40 مليون دولار أمريكي، في مزاد علني لم يخل من الطقوس المعتادة في التكتّم والتنافس والتصارع والتجارة الصرفة.
وذلك العمل بالذات كان تتويجاً لطور من الحنين الجارف إلى زمن التعاون المشترك والصداقة الجميلة بين غوغان وفان غوخ، قبيل إحالة الأخير إلى مصحّ عقلي؛ وكانت سلسلة "الآرليات" ذروة صراع الفنّان العبقري من أجل استرداد وجوده الآخذ في الاهتزاز والتلاشي. ولقد كتب إلى غوغان يصف لوحة "مدام جينو" كما يلي، بتواضع مذهل: "لقد حاولت من خلالها أن أحترم رسمك، وأكون مخلصاً له (...) ولك أن تعتبر العمل منتمياً إليك، بمثابة تلخيص لأشهر من تعاوننا المشترك".
وقبل ثلاث سنوات شهدنا حكاية بهيجة أخرى تخصّ أعمال فان غوخ، حين شاءت الصدفة أن تكتشف إحدى دور المزاد اليابانية لوحة له كانت ضائعة، أو بالأصحّ غير معروفة أساساً. اللوحة زيت على قماش، غير موقّعة، صغيرة الحجم (12 x 14 بوصة)، تصوّر فلاحة فرنسية عابسة، متوسطة العمر، ترتدي قلنسوة بيضاء؛ وكانت ملك الرسام الياباني كازوماسا ناكاغاوا، الذي توفي سنة 1991. وحين تقرر بيع مقتنيات الأخير، قُدّرت هذه اللوحة الغامضة بمبلغ يقلّ عن 90 دولاراً، وكادت أن تُباع بأقلّ من هذا السعر لولا أنّ أحد العاملين في المزاد راوده الشكّ في أن تكون اللوحة أصلية، وأن يكون صاحبها فان غوخ دون سواه. وهكذا، أُرسلت اللوحة إلى متحف فان غوخ في العاصمة الهولندية أمستردام، لتُعرض على الخبراء هناك. وبعد فحص وتدقيق أرسل المتحف فاكساً يقول إنّ العمل أصلي بالفعل، وهو بريشة فان غوخ، ويعود إلى العام 1885.
وبالطبع، قفز سعر اللوحة من 83 دولاراً إلى 550 ألف دولار. الأكثر إثارة أنّ فان غوخ، وجرياً على عادته، كان مستعداً لبيع هذه اللوحة لقاء قبلة واحدة من الفلاّحة صاحبة الصورة، أو من أيّة أنثى، ولم يفلح! وذاك البائس التعس الجائع انقلب دفعة واحدة إلى ميدان تنافس مالي محموم: في عام 1990 بيعت لوحته «صورة الدكتور غاشيه» بمبلغ 82,5 مليون دولار، فانفردت بالرقم القياسي لأعلى مبلغ دُفع في أية لوحة؛ ومنذ سنوات معدودات باع مزاد بريطاني عملاً مائياً له (مرسوماً على الورق!) بمبلغ 14,7 مليون دولار...

حكايات مفرحة ومزادات مثيرة في سجلّ فنّان عاش فقيراً ومات خالي الوفاض، وظلّ على الدوام أسير تجربة ممضة معقدة بدأت بطفولة مضطربة، وتتابعت فصولها سنة إثر أخرى من اضطرام الوجدان وتفتُّق الموهبة وغربة الروح، حتى لكأنّ هذه النفس ناءت بثقل ما تزاحم في داخلها وحولها من عذابات أحجيات، فتوقفت عند سنّ السابعة والثلاثين. عمر قصير صاعق، صاخب، مفعم بالألم والطموح والتحرّش بالحياة وعشق الطبيعة، وإعادة إنتاج ذلك كله في الذهن كما على القماش.
أكثر من 2500 عمل على مدار تسع سنوات، ومقالة نقدية واحدة أظهر فيها ألبير آمييه حماسه لهذا «الفنان التعس في روحه، المتفائل في أعماله». لوحتان مباعتان لا ثالثة لهما. رؤية للكون طافحة بضياء الشمس، ودفء الحقول، وحرارة الألوان الصفراء. محاولة متواصلة للخروج من «القفص المرعب، المرعب» كما سيكتب. وبحث جارح دائم عن الحب، في مناشدة أشبه بالتضرّع المرير النبيل الذي أطلقه بدر شاكر السياب ذات يوم: «أحبّيني!/ فإني كلّ من أحببت قبلك ما أحبّوني»!
«من أنا في أعين الناس؟ نكرة، أم معتوه منفّر»؟ هكذا تساءل ذات نهار حين تفاقمت وطأة اكتشافه لتلك الحلقات الجهنمية التي تجعله مغترباً عن مواضعات شرط بشري عسير، في عالم يراه رغم ذلك جميلاً ورحباً وجديراً بالعيش. وأما آخر كلماته التي عُثر عليها في قصاصة صغيرة دسّها في جيبه قبل أن يطلق على أحشائه الرصاصة الرخيصة اللازمة، فقد كانت: «وماذا في وسعنا أن نفعل سوى أن نجعل لوحاتنا تنطق»؟
الأغلب أنّ هذا النطق هو آخر هموم البورصات التي تطرح عبقريته في المزاد، تماماً كما تُلقى اللآلىء أمام الخنازير!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي


.. شاهد: دار شوبارد تنظم حفل عشاء لنجوم مهرجان كان السينمائي




.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-