الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الانتقام الرقمي معالم جديدة على درب التفاعل الإنساني

محمد فاضل رضوان

2006 / 5 / 16
الصحافة والاعلام


غريب أمر هذا الزمن الرقمي، يعيد تشكيل علاقتنا بالعالم و بذواتنا... في عالم اللامكان هذا يبنى العالم من جديد و تندثر التفاصيل المادية الصغيرة و الكبيرة على حافة الوديان الرقمية، عالم نطل عليه من نوافذه المشرعة فلا ندخله إلا افتراضا... حتى عشاقه تخلوا عن تبادل الورود و الهدايا و القبل الساخنة لينقلبوا كائنات افتراضية تتشكل كما أراد لها أصحابها أن تكون، و ليس بالضرورة كما هي في الطبيعة، لذلك لا شيء يمنع من أن تتغذى أحلام متلقيها على ما تجود به دوامة الحلم... أما مبدعوه و هذا بيت القصيد فليسوا بأكثر من أسماء ملونة تنتقل بخفة و رشاقة غير معهودة في من تعودوا لعنة الانتظار على باب عوالم الورق، لذلك تجدهم حيثما حللت و ارتحلت، و لا عجب فقد تخلصوا من لعنة المكان إلى الأبد، فكان أن غاصت نصوصهم في الوديان التي يقفون على حافتها أسماء و عناوين بريدية و ربما صورا تحمل نظرات ساهمة أو ضاحكة أو حتى مطرقة تتصنع التأمل...
في هذا العالم أجد نفسي مضطرا لإعادة النظر في عدد لا يستهان به من طقوسي و مسلماتي... الجريدة التي تحوي اسمي و صورتي مرفقة ببعض شظايا روحي و ذاكرتي التي أفلحت في تحويلها إلى كلمات سوداء على ورق أبيض حملت جواز مرورها من درب المطبعة، لم يعد بإمكاني الآن حملها تحت إبطي و التصنع بقراءتها استفزازا لهاجس المعرفة لدى من يشاركني قهوتي من الأصدقاء، فلا يلبثون أن يطالبوا بإلقاء نظرة عليها تتوج بلحظة الانتصار الكبرى المقترنة بنظرات الإعجاب التي يحاولون إخفاءها فتفضحهم عيونهم... و لن يكون بالإمكان أيضا الاكتفاء بعرض الصورة دون الاهتمام بالنص على أمي لأقنعها أن صبرها على نزوات طفلها و فوضويته قد بدأ يثمر خيرا و هاهي صورته شاهدة على زمن مجده القادم...مقالاتي اليوم كلمات منثورة على شاشة حاسوب لن يكون بالإمكان حمله تحت إبطي لإبهار الأصدقاء و لا إقناع أمي بالجلوس أمامه بحثا عن مجد ابنها الذي هجر عالم الأوراق التي طالما شغفته و شغفها حبا... و حتى صورتي التي قلما تفارق ما ينشر لي هنا أو هناك، إن جازت استعارة عبارات المكان للدلالة على اللامكان، حتى هي لا تفلح في إيجاد موطئ لنصوصي بين ضفتي الوجود و العدم، لكن لائحة بريدية تجمع كل عناوينهم قد تفي بالغرض... و لان أمواج الوديان الرقمية خارج سلطة المكان فليس ثمة ما يحكم القبضة عليها لتقديمها طائعة أمامهم أكثر من رابط يعبر عن استعداده للقيام بالمطلوب حالما تجاوره لمسة الفأرة، ثم تأتي الردود التي كانت كلمات منعشة في الماضي فأصبحت تعاليق محكومة بسلطة العالم الجديد أما أمي فتلك حكاية أخرى...
انتهى زمن طوابع البريد الغبية و الرسائل الصفراء التي كانت تحمل أخبار البعيد و القريب، كما كانت تحمل نصوصا تتلاشى مضامينها تحت وطأة التقادم قبل أن يحين موعد نشرها المشهود، و ما هي إلا أسماء و رموز و بضعة نقرات ما بين القص و اللصق لتجد نصك على رأس الصفحة الأولى التي كان أهل الحل و العقد في الزمن البائد يحتفظون بهوامشها لما تخطه أقلامهم عن منجزات أولياء النعم...و ها نحن نتحرر من سلطة الأشياء... أما رصيد الفلاسفة في قراءة شظايا وجود الإنسان منذ سقراط حتى كيير كيغارد و سارتر فلم تعد يشفي الغليل، فثنائيات العرض و الجوهر و الجسد و الروح و الوجود بالقوة و الوجود بالفعل و الكائن و العدم تقف حائرة أمام توصيف إشكالية وجود الإنسان في زمن الإبداع الرقمي...أشكال التواصل الإنساني السالب و الموجب تتأسس من جديد راسمة لتجلياتها آفاقا جديدة تتمرد على عالم الأشياء لتتوجه نحو الافتراض...قبل بضعة أشهر تعرض أحد أصدقائي الصحافيين، ممن لا زالوا يؤمنون بريادة الورق بالرغم من تهديدات خبراء البيئة بأن غابات العالم قد دخلت مرحلة خطر الانقراض... تعرض لهجوم من قبل مجموعة من الشداد الغلاظ الذين تربصوا به بالقرب من بيته ليلا و أشبعوه ركلا و رفسا و لكما بما ألزمه المستشفى لبضعة أسابيع، و رغم أن أصحابنا الشداد كانوا يقرنون لكماتهم و رفساتهم بما ينبئ بأن ما يتلقاه الصحافي المسكين كان جزاء على ما اقترفه بحق أسياده في الجريدة التي يشتغل بها، فهو لم يستطع أن يميز أي الأسياد ذاك صاحب الوليمة الساخنة لأنه كتب أكثر من مقال و هاجم أكثر من واحد من أسياد هذا الزمن البذيء الذين أصبحت تنتجهم أوطاننا أكثر مما تنتج الخبز للفقراء... يومها حمدت الله في سري و في علني لأني بدأت أجني مزايا الكتابة الرقمية التي أتلاشى في وديانها فلا يطال من أسلط عليهم سلطة أصابعي غير اسم و عنوان بريدي و صورة أتصنع فيها التفكير و التأمل...لقد أدركت أني خارج دائرة العقاب و الانتقام ما دمت لا أوجد لمن يقرأني إلا افتراضا...أما لكمات الشداد الغلاظ و رفساتهم و ركلاتهم فلن تقو على ملاحقتي في كل شاشات العالم...و لا أخفيكم سرا أن اقتناعي بإمكانية النجاة من الانتقام قد أضافت لي نفسا جديدا فأصبحت لا أخشى في الحق لومة لائم... لهذا وجدتني أتجاسر على كل من أتت أسماؤهم و أفعالهم في طريقي...غير أن ما حدث لي كان أمرا عجبا جعلني أزداد ثقة في أن العالم الرقمي يضع تفاصيل جديدة لحدود التفاعل الإنساني أضحى يفهمها كل من يعنيه الأمر...فعلى هامش قمة المعلوميات الثالثة التي عقدت بتونس نشرت مقالا عنونته بالكيل بمكيالين في قمة المفارقات بتونس قلت من خلاله في النظام التونسي و في من أسند تنظيم القمة التي تبحث إمكانات جديدة لتحرير الإنسان في بلد تنتفي فيه حرية الإنسان كتونس، ما لم يقله مالك في الخمر و زاد الطين بلة حين اتصلت بي صحفية صديقة من إحدى الجرائد الإلكترونية بغاية إجراء حوار أعلق من خلاله على القمة و ظروفها و نتائجها في ضوء مقالي المشهود، فاطلقت العنان لأصابعي السليطة التي تابعت القمة و منظميها و من أسند تنظيمها لهم بمختلف صنوف التقريع و السخرية و الاستهزاء... متمنيا رؤية من يعنيهم الأمر و هم يعدمون الحيلة للظفر برأسي الذي استحال هلاما في أودية العالم الرقمي... غير أنه كان في الأمر ما نكد على فرحي الساذج... فليلتها تلقيت مئات الرسائل المحملة بالفيروسات على بريدي الإلكتروني و لولا رحمة الله التي اقتضت أن أنجو بفعلتي بعد أن هدتني إلى تحيين مضاد الفيروسات في حاسوبي الخاص قبل أيام قليلة من الهجوم، لكان رصيدي الرقمي و معه مختلف ملفاتي و معطياتي و أرشيفي و متعلقات بريدي الإلكتروني في خبر كان... يومها استوعبت الدرس جيدا و أدركت أن أساليب المنع و الترهيب تتطور بتطور أساليب الكشف و الإبداع، فمن يعنيهم الأمر ليسوا ببعيدين عن فهم خصوصية العوالم الرقمية التي اعتبرته عصية على فهمهم، فغيروا مسار انتقامهم من عالمي المادي الذي كان محور وجودي في زمن الورق، إلى عالمي الرمزي الذي بنيته نقرة نقرة في الزمن الرقمي، و لي أن أفخر من الآن فصاعدا بانتباهي لظاهرة الانتقام الرقمي التي عوضت الصفع و الركل و اللكم في العهد البائد...لكني مع ذلك أصبحت أكثر اطمئنانا و الأمر يعود هذا المرة لانتشار ظاهرة القرصنة التي تتيح للفقراء من أمثالي الاستفادة من آخر صيحات الموضة الرقمية مقابل أجر زهيد لا يتعدى ما يقابل دولارا واحدا، لذلك توجهت صباح اليوم الذي عاودني الحنين فيه إلى إفراغ جام غضبي على أحدهم ممن وضعهم حظهم البائس ليلة ذاك اليوم على طريقي، إلى جوطية درب غلف لأتزود بآخر ما تمت قرصنته من مضادات الفيروسات استعدادا للانتقام الرقمي الذي لن يتأخر طويلا، و قبل أن أجلس أمام حاسوبي لتدوين كلمات مقالي: لماذا تورث مصر؟لماذا لا تورث مصر؟ الذي استهجنت فيه تحويل بلد حضارة الفراعنة و سحرة الشرق و حملة نوبل إلى مزرعة تورث من الأب إلى الإبن كما استهجنت الإعلام الرسمي الذي انخرط في اللعبة السمجة إياها... يومها كان حاسوبي أكثر تحصينا من سفن الحلفاء أيام حرب الغواصات، و حين نشر مقالي في عدد من المواقع كانت نظرات الشماتة مني تنهال على مئات الرسائل و أنا أحذفها كلما حذرني المضاد طيب الذكر من فتحها لأنها تحوي فيروسات...
اليوم لم أعد أخاف من ترصد البلطجية في الأزقة الليلية، لأني أعلم كما يعلم غيري أن عالمي المادي أضحى خارج اللعبة... لكني أصبحت أكثر قلقا على عالمي الرمزي الذي أضحى وجوده من وجودي، لذلك أضحيت دائم التزود بما يحميه و يحميني في صيغتي الرمزية من الانتقام الرقمي... لكن ما أثلج صدري هذا الصباح أن حصلت على نسخة جديدة من مضاد جديد يتزامن طرحه في الدار البيضاء بطرحه في اليابان و أمريكا مقابل نصف دولار فقط... و لست أدري ما الذي يجعل تفاصيل هذا الاستعداد للعقاب تنعش في ذاكرتي ذكريات أيام التعليم الابتدائي التي كنا نقوم فيها بدهن أيدينا البضة بعصير نبتة تتكاثر بالأحراش القريبة من المدرسة إيمانا منا بأنها تخفف من الألم الذي تحدثه عصا معلمينا على أيدينا الصغيرة فنواجه مصيرنا بشجاعة و شماتة نادرتين....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتجاجات في جامعات عراقية للمطالبة بوقف الحرب في غزة


.. مشاهد من لحظة وصول الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى قصر الإليزيه




.. فيضانات وسيول مدمّرة تضرب البرازيل • فرانس 24 / FRANCE 24


.. طبول المعركة تُقرع في رفح.. الجيش الإسرائيلي يُجلي السكان من




.. كيف تبدو زيارة وليام بيرنزهذه المرة إلى تل أبيب في ظل الضغوط