الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-غَزَل البنات- أيقونة مصر والمتمصرين

عادل صوما

2019 / 9 / 14
الادب والفن


عُرض فيلم "غَزَل البنات" لأول مرة يوم الخميس 22 أيلول/سبتمبر 1949 في دارعرض ستوديو مصر وكان ولم تزل على شريطه ترجمة فرنسية، فمصر آنذاك كانت تتحدث بأربعة لغات في البيوت وكانت الفرنسية أوسعها انتشارا، وتوالت العروض يوم الاثنين 26 أيلول/سبتمبر فى دور عرض سينما ريتس بالاسكندرية وسينما فريال ببور سعيد وسينما مصر بطنطا وسينما ريفولي ببيروت، ولم يتوقع العاملون في الفيلم أن يحل هذا الفيلم تاسعاً على لائحة أهم مائة فيلم عربي في القرن العشرين، كما لم يقتنع كثيرٌ من النقاد بهذا الترتيب لفيلم اعتبروه بدون نهاية، لقِصر نظرهم ونقلهم عن بعضهم بعضا بدون تدقيق أو بحث.
فيلم مُكتمل
خُدع النقاد بدهاء أنور وجدي التسويقي حين استغل وفاة نجيب الريحاني في 8 حزيران/يونيو 1949، وأطلق شائعة "الفيلم الذي لم يكتمل" بسبب وفاة الفنان الكبير، ليربح من توزيع الفيلم وعرضه مليون جنيهاً وهو حلم حياته. خدع أنور وجدي النقاد لأن السيناريو المُفترض للنهاية لا يوجد في أرشيف السينما، كما لم يؤكد بديع خيري (وهو كاتب الحوار مع نجيب الريحاني) في أي حديث اعلامي له حتى وفاته سنة 1966 ما قاله أنور وجدي.
وعلاوة على ذلك لم أسمع من صديقة لأمي كانت تعمل كبائعة تذاكر، وكانت جميلة وتأمل العمل بالفن من خلال التقرّب من النجوم، في مسرح الريحاني وسمعت دردشات بيوت الفنانين وما يٌقال وراء الكواليس لأكثر من عشر سنوات ومنها ما قاله عادل خيري وأبوه بديع خيري عن "غزل البنات"، ولم ترو لأمي أبداً ضمن ما روته أن "غزل البنات"غير مكتمل.
ما يرّجح فرضية "الفيلم المكتمل" هو أن نجيب الريحاني لم يمرض سوى ثمانية ايام بعد إصابته بمرض التيفود، وأكد أحد الأطباء أن وفاته جاءت بسبب رعونة ممرضته فى المستشفي اليوناني بعدما قامت بإعطائه جرعة زائدة من عقار الاكرومايسين بدون الرجوع للطبيب المُداوم، توفي الريحاني بعدها مباشرة. والمشهد الناقص في نهاية الفيلم لم يكن يستحق التحضير له لمدة إسبوعين، وهي الفترة ما بين تصوير المشهد الاخير في الفيلم ومرض الريحاني.
النهاية التي أشاعها أنور وجدي كانت يجب أن تكون في قصر الباشا والد ليلى مراد، والقصر موجود ولا داعي لبناء مكان تصوير، وحسب ما رددوا كان المشهد المتبقي سيجمع بين الباشا سليمان نجيب وليلى مراد وأنور وجدي والريحاني الذي يحاول إقناع الباشا بزواج ليلى وأنور، وهو مشهد لا منطقية فيه، فأنور وجدي كان ضابطاً في الفيلم، ما يعني إنه ليس بحاجة إلى شفيعٍ يقنع أبا ليلى بزواجه المفاجىء غير المبرر من ابنته حسب السيناريو المزعوم. ثم أن الضابط رآها في كباريه بعد منتصف الليل مع عشيقها ترقص وتغني له أرق أغنية عاطفية في تاريخ السينما، والعقلية العربية يستحيل أن تتجاوز هذه المعضلة، أو المغفرة لصاحبتها، علاوة على استحالة قفز هوة عاطفية بين حبيبيّن عند أي إمرأة بين ليلة وضحاها.
ثم أن أنور وجدي كاتب القصة والسيناريو تعمّد بوضوح شديد أن تلعب ليلى مراد دور سندريللا، وهو أذكى بكثير من وضعها في قفص الزوجية، فالشخصية الأسطورية، خصوصا النسائية، تظل في دائرة أحلام المُشاهد الوردية بعيداً عن واقعية تفاصيل الحياة.
القيمة لا القصة
يستحق الفيلم أن يوضع على رأس قائمة أفضل مائة فيلم مصري نظراً لقيم كثيرة فيه، فالقصة لطيفة للغاية لكنها لا تؤهله لذلك، وأهم قيمة لم يلتفت النقاد إليها عن سابق تصوّر وتصميم هي كوزموبوليتة "غزل البنات".
هذه القيمة غير المرئية، لمن لا يريدون استعمال بصيرتهم، لها تقدير وتثمين عند مؤرخي الفن، وطالما نالت بعض الافلام جائزة الاوسكار رغم دهشة الناس، نظراً لقيمة معينة تُضاف إلى جودة الفيلم.
صحيح أن هذه الكوزموبوليتية موجودة في بعض الأفلام المصرية، ومنها "ميرامار" لشيخ روائيي مصر نجيب محفوظ، لكن "غَزَل البنات" تميز لكونه أول فيلم مصري غنائي سريع المشاهد لا ملل فيه، وحكايته أقرب إلى أسطورة عاطفية، والناس تعشق الاساطير.
قصة فيلم "غزل البنات" والسيناريو والانتاج لأنور وجدي، وحسنا فعل نجيب الريحاني وبديع خيري عندما تنازلا عن السيناريو المسرحي الذي وضعاه للفيلم، وركزا على الحوار وتركا أنور وجدي يكتب السيناريو السينمائي، وكان التصوير لعبد الحليم نصر الذي سبق عصره، وصنع سيناريو مرئياً موازياً لسيناريو الفيلم، لا يقل عنه في حرفيته ودقة زوايا تصويره وكادراته التي نقلت وأبرزت مضمون الحوار ومغزى الرقص.
مصريون ومتمصرون
شارك في "غزل البنات" نخبة جنسيات لم تجتمع في أي فيلم مصري أو عالمي، فلعب نجيب الريحاني وهو من أصول عراقية دور الاستاذ حمام. وكانت الشخصية النسائية الاولى ليلى مراد، وهي من أصول يهودية واسمها ليليان إبراهيم زكي موردخاي. لعب أنور وجدي دور الضابط وحيد، وهو من أصول سورية. سليمان نجيب ولعب دور الباشا والد ليلى مراد، وهو من أعيان مصر وطبقتها المحافظة. فردوس محمد مصرية لعبت دور الدادة أو المُربية بلغة عصرنا. عبد الوارث عسر لعب دور صديق الاستاذ حمام، وهو شاعر وكاتب مصري وصاحب موهبة متميزة في التمثيل. محمود المليجي ولعب دور أنور النصاب، مصري صاحب موهبة تمثيلة فذّة. الطفلة الممثلة نبيلة السيد مصرية ولعبت دور تلميذة. سعيد أبو بكر، مصري، مخدوم لدي يوسف وهبي. هند رستم، من أصول تركية شركسية، شاركت ككومبارس صامت. داليدا المطربة المصرية/الايطالية لعبت دور كومبارس صامت. ستيفان روستي، نمساوي، لعب دور صاحب الكباريه. محمد عبد الوهاب، مصري، لعب شخصيته الحقيقية. يوسف وهبي، مصري، لعب شخصيته الحقيقية. زينات صدقي، مصرية، لعبت دور زوجة أنور النصاب. فريد شوقي مصري، لعب دور عامل بالكباريه. عبد المجيد شكري مصري، مخدوم لدي الباشا. عبد الحميد زكي مصري، لعب دور ناظر المدرسة. عبد المنعم إسماعيل مصري، ولعب دور المخدوم الذي يهتم بكلب الباشا. أنور منسي، مصري، وكان الممثل الصامت الذي جَسّد همس الحب بعزفه على الكمان.
أُغفل من تيتر البداية والنهاية اسم كيتي (مختلف على جنسيتها لكنها ليست مصرية) وفرقتها الاستعراضية التي صاحبت ليلى مراد في معظم أغاني الفيلم، خصوصاً مع محمود المليجي في الأغنية الخالدة "ماليش أمل"، وقد جسدت تلك الفرقة بالاقنعة التي لبسوها خداع محمود المليجي، وبحركات اجسادهن وسيقانهن رائعة الجمال والرشاقة أدوا رقصة غربية توافقت تماما مع الجملة الموسيقية الغنائية الشرقية! ناهيك عن العاملين خلف الكاميرا ومعظمهم من الجنسية اللبنانية، مع عدم اغفال حسين السيد الذي درس السيناريو تماماً وفصّل أغاني الفيلم على المواقف وأسماء الابطال.
نبوءة وإلتباس
نهاية الفيلم جمعت النقائض؛ "ليلى والضابط" على مقعدي السيارة الامامي، ونجيب الريحاني على الكرسي الخلفي يتأمل سراب الحب الذي وقع فيه بابتسامته الساخرة علي نفسه هو شخصياً، كرجل في ستينات عمره وقع في حب فتاة عشرينية، وصدّق غَزلها على أنه له وليس تعبيرا عن غرام تخفيه لنصاب أوقعها في حبائله، فجعلها ذلك الهيام تغازل الحياة وكل ما فيها حتى الستيني الفقير المحروم من الحب، الذي حاول أن يلعب دور المُنقذ عندما أدرك الحقيقة المؤلمة.
إذا نظرنا إلى هذه النهاية برؤية مختلفة توازي عظمة اجتماع هذا الحشد من الممثلين مختلفي الديانات والاوطان في فيلم جعل كل منهم بطلا في مشهد واحد، يمكن أن نتعبر إبتسامة نجيب الريحاني الساخرة نبؤة لما سيحدث بعد سنوات معدودات، ومجيء ضباط لم تستطع مصر بعد ثورتهم أن تنتج "غَزَل بنات" آخر بعظمة ذلك الفيلم الذي تفوّق بمسافة كبيرة وبامكانياته البسيطة على أفلام هوليوود الاستعراضية التي أُنتجت في الوقت نفسه.
وقع كل المصريين في التباس نطق الفيلم "غَزَل البنات" و "غْزل البنات"، بسبب موهبة المؤلف أنور وجدي في فهم لغة الشارع المصري رغم انه من أصول حلبية سورية، وموهبته في التسويق أيضا، فلم يتم تشكيل الكلمة على أفيش الفيلم، فغَزَل البنات هو الدلال والايحاء والكلمة التي توارب الباب للمُحب، وغْزل البنات من الحلويات المصرية المصنوعة من السكر الملوَّن وهي على هيئة زهرة منفوخة كبيرة، يشعر من يأكلها بحلاوة وتلّوِن شفتيه بلونها الاحمر لكنها لا تُشبع. تماما مثل الغَزَل.
كوزموبوليتية وتزمت
لم ير نقاد "غَزَل البنات" طوال سبعين سنة كأيقونة كوزموبوليتية مصرية، والايقونات دائما لها دلالات وأبعاد لا تراها العيون بقواعد النقد الصارمة بل تراها البصيرة.
كوزموبوليتية "غَزَل البنات" جمعت أزياء مصر وباريس وأثاث بيوت البحر المتوسط وحاناته وبعض أفراد الجاليات التي كانت تعيش في مصر وعلى رأسهم ابن سفير النمسا في مصر ستيفان روستي الذي كان عاشقا للتمثيل، وقد تقاطعت شخصيته مع شخصية نجيب الريحاني، فكلاهما كان يمثل دورا يؤدي إلى عكس المطلوب في نفسية المشاهدين. قدّم روستي دور الشر فابتسم الناس لخفة دمه وقدّم الريحاني الدراما فضحك الناس على الكوميديا السوداء.
هذه الروح البحر/متوسطية الجبارة التي خلقت مبدأ التعايش والتفاعل بين ثقافات المجتمعات، كانت تبتلع التزمت الموجود في بعض النفوس، أو تشوّش عليه بحيث لا تلحظه كل عين، فعبارة "بسم الله الرحمن الرحيم" كانت في صف اللغة العربية في "غَزَل البنات" وكأن العربية حكراً على القرآن رغم انها أقدم منه، بل أن نص القرآن قد تغّير مع تطور حروفها وإضافة التنقيط عليها وعلامات التشكيل التي جاءت بعد القرآن، أو كأن دراسة العربية تعني دراسة القرآن فقط.
وسمعت وانا طفل صغير جدا الممثل حسن فايق يقول لبعض ممثلي مسرح الريحاني الذين تذكروا جنازة نجيب الريحاني، أن محمد عبد الوهاب (الموسيقار الذي ألف أكثر من أربعين مقطوعة موسيقة رقصت على أنغامها كل راقصات الشرق الاوسط) وقف أمام الكنيسة ولم يدخلها أثناء جنازة الريحاني. كنت مع أبي في قهوة "والي" القريبة من مسرح الريحاني على شاطىء كامب شيزار بالاسكندرية، وسمعت هذا الحديث. وعندما كبرت أدركت أن وقوف عبد الوهاب خارج الكنيسة يعبّر عن تكفير الآخر وعدم النظر إليه كإنسان له إنجازاته ويستحق وقفة احترام وتأمل في دنيا حقيقية، بغض النظر عن مصيره غير المعروف بعدها.
لكن الروح المتوسطية العظيمة التي كانت تطمس هذه الامور الفردية آنذاك جعلت من وفاة نجيب الريحاني فاجعة مصرية، لدرجة أن الملك المُخلِص فاروق الاول نعاه، وكتب طه حسين ببصيرته في رثائه: "أرسل الريحاني نفسه على سجيَّتها، فملأ مصر فرحا ومرحا وتسلية وتعزية. ولو قد فرغ الريحاني لِنفسه، وعكف على فنِّه، واستأنى في الإنتاج، لكان آيةً من آيات التمثيل، لا أقولُ في الشَّرق، بل أقولُ في العالم كُلِّه. فقد كان الريحاني مُمثلاً عبقرياً ما في ذلك شك، ولكنَّهُ مُنع الرَّاحة، وحُرِّمت عليه الأناة، وحيل بينهُ وبين التمهُّل. رأى النَّاس محزونين يلتمسون عندهُ بعض العزاء والرِّضا والتخفُّف من أعباء الحياة، حين يتقدَّمُ النهار وحين يُقبلُ الليل، فمنحهم ما كانوا يلتمسون فيه في غير بُخلٍ، ولا تردُّد، ولا تفكيرٍ في العاقبة".
تعاظم كابوس التزمت بعد أفول عظمة الروح المتوسطية وأصبح عاماً وليس فردياً، وبدأت إرهاصاته تلوح بعدة أمور منها ما يخص عالم الفن، فقد فبرك أنور وجدي على زوجته السابقة ليلى مراد وشاية لضباط الثورة، بعد إعتقال الرئيس محمد نجيب، همس فيها لهم أنها زارت وتبرعت لدولة إسرائيل بمبلغ من المال. هكذا بدون أي براهين مثل رقم تذكرة سفرها أو أرقام تحويلاتها المصرفية، وهي الوشاية التي وضعت ليلى مراد على رفوف النسيان الرسمي وليس الشعبي، ولم يشفع لها تحوّلها من اليهودية للإسلام لدرء هذه الوشاية الحقيرة التي صدقها رئيس كان "الكل في واحد" و"الزعيم المُلهم".
ثم جاء رقيب بعد حوالي خمسين سنة من انتاج "غَزَل البنات" كنتيجة تسونامي ثقافة "عذاب القبر" وشرب "بول البعير" كدواء و"نكاح الزوجة الميتة" نكاح الوداع، وقص كلمتي "وجمال طيفك" من أغنية "ماليش أمل" كما قص أداء عازف الطبول الاجنبية في جملة موسيقية في الاغنية نفسها من شريط الفيلم، وجمعتني صدفة العمل سوياً مع الرقيب نفسه في احدى الفضائيات العربية في أواخر القرن الماضي، وسألته عن سبب قصّه هاتين الكلمتين علاوة على عزف الطبّال من الفيلم الذي اشتراه شيخ وهابي ضمن ما اشترى من أرشيف سينما مصر فقال لي: الطيف يا أستاذ عادل للملايكة بس، والطبال في اللقطة اللي بتقول عليها دي كان سكران!
من حسن الحظ أن بكرات الخلود حفظت نُسخاً أخرى من "غَزَل البنات" أيقونة المصريين والمتمصرين، كما حفظ "يوتيوب" أغنية "ماليش أمل" الاصليّة وفيها "جمال طيف" الحبيب وعزف الطبال الذي كان متحمساً وليس سكرانا بأي نوع من المكيفات وأخطرها ادمان التزمت الذي يؤدي إلى الهوس والهلاوس.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مصر والاسلام
على سالم ( 2019 / 9 / 14 - 20:35 )
من المؤسف ان مصر اصابها السرطان البدوى الخبيث , هذا السرطان تخلل فى جميع مفاصلها واصبحت مثل الجثه الهامده ولاحراك فيها , عندما حدثت ثوره الضباط السوداء , المجرمين الضباط الاحرار ( لصوص وبلطجيه ثوره يوليو المشؤومه ) هم اصل هذا الخراب والداء والبلاء لقد جاؤا بالهلاك والتخلف للعباد , هؤلاء المجرمين الانجاس

اخر الافلام

.. لما تعزم الكراش على سينما الصبح ??


.. موسيقى وأجواء بهجة في أول أيام العام الدراسى بجامعة القاهرة




.. بتكلفة 22 مليون جنيه.. قصر ثقافة الزعيم جمال عبد الناصر يخلد


.. الكلب رامبو بقى نجم سينمائي بس عايز ينام ?? في استوديو #معكم




.. الحب بين أبطال فيلم السيد رامبو -الصحاب- ?