الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سنواصل المنفى ونحرض الشجر

حمزة الحسن

2003 / 4 / 5
الادب والفن


 

 

                 (  كنا نسمي الأشياء بأسمائها
                    حتى إذا جاءت الحرب
                     أصبحنا نسمي
                      الأيام مقابر.. والمساءات فجيعة
                       والحلم دما شاحبا)
                    * علي رشيد/ قصيدة: أسماء/ 1996.
               

رسالة تهديد وصلت الشاعر الصديق علي رشيد موقعة من قبل أنكيدو تحذره من تجاوز الخط الأحمر.

والخط الأحمر الجديد هو الحد الفاصل بين قبول الحرب ورفضها. وبما أن علي رشيد رفض الحرب، وكتب عنها بلغة جريح، فهذا يعني، في  التقليد الجديد، وفي الثنائية الجديدة، ولنا في كل مرحلة ثنائية وتقليد وتعريف ووصف حتى لأبسط المواقف، أنه تجاوز الخط الأحمر.

 وقد يخطر ببال الشاعر علي رشيد أنه أول ضحايا هذا التحول (الديمقراطي) العتيد، وربما شعر بزهو، أو بحزن، وهو يرسل الرسالة لي كي أطلع على رسل الحداثة والحرية  الجدد وبدائل فرق الموت.

وربما نسى، في غمرة  التعب والإرهاق والترقب، ما جرى لي مع أمثال أنكيدو هذا، وأن رواياتي التي كتبت قبل هذه الحرب بسنوات تعج برسائل أمثال هؤلاء، وقد وضعت بعضها كما هي كي تظل شاهدا ليس على مرحلة مضت، بل على مرحلة قادمة، لأن المستقبل ليس غيبا، بل هو خطواتنا الآن، وصورتنا الآن، وتفكيرنا الآن.

 ولا أدري ما هو اللغز الذي يجعل هؤلاء يحذرون المختلف، وغير الشبيه، والنقيض، والذي يفكر لحسابه الخاص، بالعقاب( في النظام الديمقراطي العراقي المقبل، كما كتب لي أحد هؤلاء الزعران قبل سنتين) خاصة ونحن نعيش في دول قانونية ودول مؤسسات مجتمع مدني، ونخضع لقوانين أخرى، ونحمل جنسيات أخرى، ونصنف على أننا مواطنون هنا، وفي مناخ من التفتح والحرية والحقوق الفردية الأخرى؟ 

لماذا هذا الإصرار على معاقبة علي رشيد، وغيره في النظام المقبل وليس في هولاندا مثلا حيث يعيش الشاعر ويحمل بصفة اضطرارية جنسيتها؟

 الجواب بكل بساطة كما جاء في روايتي ( عزلة أورستا): لا توجد هنا في هذه الدول مشانق، ولأنه لا يمكن مداهمة الناس وهم نيام، ومحاكمتهم بدون شاهد نفي أو إثبات أو فرصة الدفاع عن النفس أو سوقه إلى الموت دون أن تكون عنده أدنى فكرة عن التهمة المنسوبة إليه.

إذن إصرار هؤلاء على محاكمة خصومهم في( نظام ديمقراطي عراقي مقبل!) يعني اعترافا صريحا بما يلي:
ـ إن التغيير القادم ليس سوى استبدال جلاد بجلواز.
ـ إن أشد أعداء الدولة الديمقراطية هم من هذا الصنف.
ـ إن هؤلاء لم يكونوا في أي وقت خصوما لدولة بوليسية، بل شركاء في العقلية والذهنية والسلوك...الخ.
ـ إن أي نظام سياسي هو أسلوب تفكير قبل أن يكون مؤسسة.
ـ إن الفرق الوحيد بين هؤلاء وبين السلطة هو كونهم لا يمتلكون الآن سجونا، ولكنهم في الطريق إليها، وبدل فتح باب الأمل، سيفتحون أبواب السجون القادمة.

لكن من يضع الخط الأحمر؟
ولماذا الخط الأحمر؟ وهنا مثلا الخط الأزرق، والبنفسجي، والليموني، والأخضر؟

خاصة ونحن نعيش مرحلة تقاطع خطوط يضعها كل واحد منا بناء على معاييره الشخصية، حتى صار كل واحد مرشحا لمشرحة، أو مشنقة، أو محكمة.

 فالخط الأحمر بالنسبة لفرد هو خط أخضر( الم يقم معمم بقيادة دبابات الاحتلال إلى أقدس المدن؟)

ألم يمت الناس عبر كل أعوام الرعب بالرصاص أو في غرف التعذيب كي لا نرى مثل هذا اليوم، وكان آخرون، بمن فيهم اليوم من عاد على ظهور الدبابات، يعملون كرقباء على كل إصبع ومقالة، وخرجوا وصاروا رؤساء تحرير صحف "معارضة"؟

الم يُسرق دم الشهداء؟
من يضع الخطوط الحمر اليوم كما في أي يوم؟
ومن يحاكم من؟

نفهم جيدا أن في مرحلة الظلام والضباب والدخان والحرائق يتشابه البقر ويصير الثعلب فراشة، والنهر صحراء، والجربوع حمامة.
لكنها ليست، مهما كان الأمر قاسيا ومرا، سوى سحابة في عمر التاريخ.

 وعندها سيطلب من الجميع أن يفرشوا تاريخهم على قمصانهم. وليس تاريخ الإنسان محطة أو لحظة أو ليلة، بل هو البناء الكلي للشخصية، ما قدمت هنا أو هناك.

لذلك فإن أصحاب عقلية العقاب والخط الأحمر، يريدون حجز تذكرة أخرى نحو فاشية جديدة، بلون آخر.
وهؤلاء البرابرة ذاهبون الآن.
هذه هي الدوامة.
إعادة إنتاج الموت والعنف والجريمة.

في كل حقبة، وأحيانا في كل سنة، يجد المثقف الأعزل، والمختلف، وغير الشبيه، والمعتز بفرديته، في مواجهة خطوط كثيرة يضعها، وهنا المفارقة المضحكة، عادة أصحاب السوابق، أو من المختصين بكسر المحلات الليلية، أو خبراء خلع خزائن الدولة، أو تشليح العجائز في الطريق إلى سوق الخضار، أو من فر بالدخل من سفارة أو محل أو عطارية، أو من صادر أموال شركة حكومية قبل الأوان كذخر للأيام السود، أو من سرق بنادق مخفر الشرطة وباعه في السوق السوداء( تعرفت على واحد من هؤلاء في دمشق وهو مفوض شرطة ومأمور مخزن سلاح، قال لي بوضوح انه أفرغ كل مخزن السلاح وباعه على مراحل، لكنه أخطأ في بيع مسدس كاتم صوت لمسؤول أدى إلى اكتشافه فهرب  على الريق وبثياب النوم!)


 لم يكن علي رشيد تاجر أسلحة، أو بائع مخدرات، أو قاطع طريق، أو خبير متفجرات، أو اختصاصي في خلع الأبواب، بل هو شاعر وفنان قال كلمة بطريقة سلمية في شأن مصيري، في دولة أجنبية، تعطيه كل الحق في أن يقول رأيه كما يريد دون وصاية من أحد، حتى لو كان هذا الأحد هو الصديق أنكيدو صاحب كلكامش الذي تاه في البرية بعد موته وأخذ يناديه في كل مكان، وظل يبحث عن عشبة الخلود حتى نصحته صاحبة الحانة البابلية قائلة أن الخلود وهم في هذه الحياة، ولكن العمل وحده الخالد، فبني سورا حول أور أو أريدو لحمايتها من الغزو وصلته اليوم قوات الاحتلال.

  لكن لماذا اختاروا اسم أنكيدو في قضية تتناقض مع  الرمز كل التناقض حد التنافر؟

هذه واحدة من طبائع العقل العراقي السياسي مع الأسف الشديد.

ـ إنه دائما يقتل باسم رمز ما( قوى ثورة مضادة، أعداء الجماهير، الحزب، قوى الردة، أعداء الأمة، الطبقة، الجريدة،الرفيق، الشعار..الخ)

ـ إنه دائما يمارس القوة الغاشمة باسم عقيدة ما( القومية، الدين، الاشتراكية، الوحدة، الأصولية، العروبة، الشرف، التاريخ...الخ).

وهذا ليس جديدا.
كان هارون الرشيد قد شيد مئذنة من جماجم خصومه يرتفع فوقها نداء الصلاة خمس مرات في اليوم، دون أن يشعر بأدنى وخز ضمير على ضحاياه الذين لا شك عنده في أنهم في جهنم الآن.

 ومرة أخرى السؤال: من يضع الخطوط الحمر في كل مرة؟
من هي هذه المرجعية الأخلاقية والقانونية والسياسية المعترف بها في دستور أو قانون أو عرف المخولة بحق إصدار مثل هذا الهراء في كل مرة وبسهولة استثنائية  تشبه المسخرة وبلغة مشعوذة حيث لا يساور احدهم أدنى شك بأنه حين يكتب مطالبا باعتقال أحد( كما طالب  تويفه مرة معي ) حتى تهرع الشرطة الدولية بناء على حركة إصبعه؟

في كل مرة نقفز كالكناغر من خط أحمر إلى آخر، والخطوط تتناسل كبقع الذباب:
مرة الخط الأحمر:
ـ   لا يجوز المساس بمعارض( مهما كان نوعه) كما كتب فلتة زمانه مرة في أحد الأمكنة. وقد أثبتت الأيام بالدليل القاطع أن هناك صنفا من (المعارضة) هم ليسوا بأكثر من مرتزقة وضباع جيف وذباب فناجين.

هذا مع أن أية معارضة في العالم، بما في ذلك في الدول المفرطة في ليبراليتها،  تتعرض إلى نقد يومي، وفضح، وتعرية، ومحاسبة، ومساءلة، ومصارحة، فكيف مع  شريحة نصف ردان، لا تفرق بين كتاب في السياسة، أو فاتورة الهاتف، ولا بين الغصن أو رقبة البعير؟

 وهذه الشريحة حصرا هي التي أجهضت النضال الوطني الديمقراطي لقوى وطنية عريقة، وصادرت ثقافة وتراث أجيال، حين قامت بدور الواشي والدليل للمحتل؟

ـ والخط الأحمر الآخر هو:

لا تكتبوا عن التغيير الفكري والثقافي والأدبي، اكتبوا عن الانقلاب، والعسكر، وفوائد التدريب الصباحي للجيش، والثوم، والفجل، وعن السلطة ـ كما لو أن هذه السلطة مستورة بحيث لا تحتاج إلا لمن يعريها، وهي سلطة العري، وأن أية ربة بيت عراقية لا تقرأ ولا تكتب تفهم الانحطاط السياسي والاقتصادي من مجرد الذهاب إلى السوق، وهي تعرف تفاصيل الإرهاب أكثر من أي متمشدق ومتحذلق في عاصمة أوروبية ثبت بالدليل النهائي والملموس أن هذا الصنف لا يعرف شعبه على الإطلاق، بل هو مقيم في حفنة مقولات بائدة لا تستطيع تحليل التحول الأخير الذي طرأ على سلوك الحمير بعد حرب الخليج الثانية.

 هؤلاء حاولوا جرنا، في كل مرة، إلى مأزق السطحية والسخف والارتجال، وفشلوا، وهاهم جروا شعبهم، ودول كبرى إلى هذه المحرقة، التي سيكون الدخول فيها أسهل مرات من الخروج منها، لأنها وحل كثيف وعميق ولزج.

 ومن الخطوط الحمر أيضا:
ـ أن نكتب جميعا، ونفكر جميعا، ونحلم جميعا، بنفس الطريقة، كما لو كنا نعيش في إسطبل، وبذات الأسلوب، ومن يخرج من القطيع يجب، حسب عقلية الفتوة، وضعه في مصح عقلي، أو مستعمرة عقاب كافكوية كي يعود إلى جادة الصواب وينضم إلى القافلة، وإذا لم يعد ( على الباغي تدور الدوائر) كما ظل يصرخ أحدهم طوال أشهر، حتى لم يعد الناس يفرقون بين صوته ونباح الكلب.

 ومن الخطوط الحمر:
ـ بما أني مع الحرب، فمن ضدي هو مع النظام.

ومن الخطوط كذلك:
ـ كلنا في الهوى سوى ولا يحق لأحدنا أن يغرد خارج السرب، كما لو كنا كنيسة أو مؤسسة دينية أو وكالة فضاء، أو طاقم باخرة، أو ثكنة....الخ.

نحن من أجيال مختلفة، ومن أعمار مختلفة، وثقافات مختلفة، ونحمل جنسيات مختلفة، وبعضنا تأثر بثقافة أخرى، والآخر أندمج فيها، ومن مرجعيات سياسية وعائلية مختلفة، وجينات مختلفة، وأمراض وعقد مختلفة، وبيئات مختلفة، وتجارب مختلفة....الخ..

 كيف نفكر جميعا بصورة متشابهة؟

 سقط النظام أم لم يسقط.
جاءت حكومة جديدة، وانقرضت حكومة قديمة.
 اندلعت حرب أهلية أم لا.
وقعت مجزرة  جديدة أم لم تقع.

سيصل السياسي الصغير إلى حلمه ويحصل على كرسي أو مقعد في مؤسسة شكلية أو في دكان حزبي.

 وسيصل المقاول إلى حلمه ويحصل على مشروع بأسعار مخفضة.
وسيصل التاجر ويحقق حلمه في متجر أو سوق.

وسيصل كتاب المواسم  إلى أحلامهم الصغيرة في الموقع والمكسب والوظيفة.

 كل هؤلاء سيصلون اليوم أو غدا، لأن أحلامهم ضئيلة بحجم القامة.

إلا نحن.

ليست أحلامنا تافهة وضئيلة إلى هذا الحد و إلا حققناها في دولة تعلف الكاتب والشاعر والحزبي في معالف تحسدها عليها الأبقار الهولندية.

 أحلامنا بعيدة.
ونائية.
وكبيرة.
وبريئة.

 كل هؤلاء سيصلون اليوم أو غدا.
 خذوا الوطن واتركوا لنا، مرة واحدة، هذا المنفى/ التابوت الأنيق.
نحن لن نصل إلى أحلامنا اليوم.
 لأننا على درب آخر.
وسنواصل المنفى،
ونحرض الشجر.
           








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مباشر.. أسئلة لازم تراجعها قبل امتحان اللغة العربية غدًا.. أ


.. جامعة كاليفورنيا في ديفيس تفتتح أول مركز أكاديمي لأبحاث وفنو




.. تفاصيل جديدة في واقعة مشاجرة إمام عاشور بالشيخ زايد..«مراته


.. فوق السلطة 394 - اتّهام جدّي لمعظم الفنانات بالعمل بالدعارة




.. ادعوا لطلاب الثانوية العامة بالتوفيق.. آخر الاستعدادات لامتح