الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما الذي يكمن وراء الرأسمالية؟

محمد برازي
(Mohamed Brazi)

2019 / 9 / 16
مواضيع وابحاث سياسية


إنّ التجارة، في جوهرها، شيطانية. فالتجارة سداد ما تم إقراضه، وإنها القرض الذي تم الحصول عليه بهذا الشرط: ادفع لي أكثر مما أعطيك.
ليس لدي إجابة مُرضية تماما على الأسئلة التي تثير هذه التأمُّلات الفكرية المطروحة في هذه المقالة؛ ولكني أعتقد أن النهج الصحيح للإجابات يمكن رؤيته بوضوح إلى حد ما إذا أخذنا وقتا كافيا لتحديد مصطلحاتنا. فقبل كل شيء، لقد أصبحت كلمة رأسمالية في هذه الأيام، وخاصة في أمريكا، كلمة كبيرة جدا بشكل يبعث على السخرية وتُستعمل على نطاق واسع لكل أشكال التبادل الاقتصادي التي يمكن تخيّلها، مهما كان بدائيّا أو مُتخلِّفا. ومع ذلك، فأنا أعتبر أننا هنا نستخدمه بشكل أكثر دقة إلى حد ما، للإشارة إلى فترة في تاريخ اقتصاديات السوق التي بدأت بشكل جدي منذ بضعة قرون فقط. والرأسمالية، كما يعرّفها العديد من المؤرخين، هي مجموعة من الاتفاقيات المالية التي ظهرت في عصر التصنيع (الثورة الصناعية) التي حلت تدريجيا محل التجارة في العصر السابق. وكما حددها السياسي والفيلسوف الفرنسي برودون Proudhon في عام 1861م، بأنها نظام له قاعدة عامة وهي أن أولئك الذين يجنون أرباحا بمصالح أعمالهم، لا يمتلكون وسائل الإنتاج ولا يتمتعون بثمار أتعابهم
لقد دمَّر هذا الشكل من التجارة وإلى حد كبير القوة التعاقدية للعمالة الماهرة الحرة، واستأصل النقابات الحرفية، وقدم بدلاً من ذلك نظام الأجور الجماعية الذي قلل من شأن العمالة لينزل بها إلى مستوى سلعة قابلة لمناقشة تخفيض أجورها. وبهذه الطريقة، خلقت سوقًا لاستغلال العمال الرخيصين والمحتاجين. كما تم تشجيعها بشكل متزايد من خلال سياسات الحكومة التي قللت من خيارات المحرومين لتنزل بهم إلى مستوى رواتب العبيد أو الاعتماد الكلي على المساعدات الاجتماعية (مثلما حصل في بريطانيا عندما بدؤوا في منتصف القرن الميلادي الثامن عشر بتسييج أو تطويق نظام الحقول المفتوحة، لتصبح استخدامات الأرض مقتصرة على المالك، ولم تعد أرضًا مشتركة بين جميع الرعاة كما كان في السابق). وعلاوة على ذلك، سبب كل هذا على وجه أكيد تحولاً في السيادة الاقتصادية من فئة التجار – الذين كانوا يشترون سلعا ومنتجات بعقود من الأعمال المستقلة أو شركات فرعية أو أسواق محلية صغيرة ومن ثم يبيعونها إلى جهات أخرى – إلى مستثمرين رأسماليين أخذوا ينتجون ويبيعون سلعهم بنفسهم. وتطور هذا الأمر مع مرور الوقت وأدّى إلى خلق نظام مؤسسي لشركات ضخمة التي حوّلت الشركات المساهمة للتجارة المعاصرة إلى محركات لتوليد رأس مال هائل على المستوى الثانوي من المضاربات المالية: أي بمعنى سوق مالي بحت حيث يتم تكوين الثروات لأجل أولئك الذين لا يتعبون ولا يكدحون ولكي يتمتعون بهذه الثروات، ولكنهم بدلاً من ذلك ضليعون في عملية مستمرة من تدوير الاستثمارات وسحب الاستثمارات، كنوع من ألعاب الحظ.
لهذا السبب، قد يقال إنّ الرأسمالية قد حققت التعبير الأمثل لها في نهوض الشركات التجارية ذات المسؤولية المحدودة، وهي مؤسسة تسمح بلعب اللعبة بطريقة تجريدية حتى لو كانت الشركات المستثمرة قد نجحت في النهاية أم فشلت. (فيمكن للمرء أن يستفيد من تدمير سبل العيش بقدر ما يستفيد من إنشائها). فإنّ مثل هذه الشركات هي كيان ماكِر حقًا: لأنها تتمتع حسب القانون باعتراف شرعي كونها تُعتبر في نظر القانون شخص اعتباري – وهو امتياز قانوني كان لا يُمنح سابقًا إلّا «للجمعيات التعاونية» المعترف بها على أنها تقدم منافع عامة، مثل الجامعات أو الأديرة – أما الآن، فإنّ هذه الشركات صار مطلوب منها بموجب القانون أن تتصرف كأحقر شخص يمكن تخيله. ففي كل مكان تقريبًا في العالم الرأسمالي (في أمريكا، على سبيل المثال، منذ اتخاذ قرار عام 1919م في قضية Dodge v. Ford)، فإنّ مثل هذا النوع من الشركات لا ترمي إلى أيّ هدف إلّا إلى أقصى مكاسب لمساهميها؛ ويحظر عليها السماح لأي اعتبار آخر يعيقها عن سعيها هذا – أي بمعنى اعتبارات صالحة مثل حساب ما يشكل أرباحًا لائقة أو غير لائقة، أو مصلحة العمال، أو قضايا خيرية قد تؤدي إلى تحويل الأرباح، أو مقدار ممتلكاتك.
لذلك، فإنّ أخلاق مثل هذه الشركات مرهون بانعدام البعد الأخلاقي. ومن الواضح أن نظامها كله هذا لا يكتفي بأن يضع في حسبانه التركيز الهائل على رأس المال الخاص واتخاذ القرارات المناسبة بكامل التصرُّف بشأن تسخير رأس المال هذا دون قيود على قدر الإمكان، بل يعتمد أيضا على هذين العنصرين بشكل إيجابي. ويسمح نظام هذه الشركات باستغلال الموارد المادية والبشرية على نطاق هائل بشكل لم يسبق له مثيل. وسيؤدي هذا حتما إلى خلق ثقافة النزعة الاستهلاكية، لأنه يجب أن يزرع عادة اجتماعية للاستهلاك التجاري بشكل مبالغ فيه يتجاوز مجرد الحاجة الطبيعية أو حتى (ربما يمكن القول) يتجاوز الابتغاء الطبيعي. ولا يكتفي الأمر بإشباع الرغبات الطبيعية؛ إذ تُحتِّم الثقافة الرأسمالية على نفسها أن تسعى دون توقف إلى اختلاق رغبات جديدة
إنّ أقل ما يمكن للمرء الاعتراف به هو أن الرأسمالية «تنجح في عملها.» أي أنها تنتج ثروة هائلة، وتتكيف بمرونة عجيبة حتى مع أكبر التغيرات المفاجئة في الظروف المادية والثقافة المجتمعية. وعندما كانت تتعثر، هنا أو هناك، قامت بتطوير آليات جديدة لمنع ارتكاب الخطأ نفسه مرة أخرى. وبطبيعة الحال، إنها لا تؤدي إلى توزيع عادل للثروات؛ ولا يمكنها ذلك. وليس لدى المجتمع الرأسمالي أيّ مشكلة مع تواجد طبقة فقيرة بل إنه يتطلب وجودها قطعيّا، ليس من أجل قيمتهم كأيدي عاملة احتياطية فحسب، بل أيضا لأن الرأسمالية تعتمد على نظام اقتصادي ائتماني مستقر ومرتكز على تقديم الديون والقروض والدفع بعد الاستلام مقابل فوائد، وإنّ الاقتصاد الائتماني يتطلب قدرًا معينًا من المدينين الدائميين الذين يمكن تحويل فقرهم – من خلال ممارسات الإقراض المفترس ورسوم الفوائد – إلى رأس مال للدائنين.1 أما العجز الدائم عن دفع الديون للطبقة العاملة الفقيرة وللطبقة الوسطى من ذوي الدخل المتوسط، فيمثل ينبوع أرباح لا ينضب للمؤسسات التي تعتمد عليها الطبقة الاستثمارية
يمكن للمرء أن يقرّ أيضا بأن العوائد المالية الهائلة التي يحصدها القِلّة، بين الحين والآخر، يمكن أن تكون لصالح الكثيرين؛ ولكن لا توجد قاعدة ثابتة لهذه الفائدة، وعموما غالبا ما يكون العكس هو الصحيح. إذ يمكن للرأسمالية أن تصنع إيجابيات وتثري أو تُدَمِّر وتُفَقِّر، كما تقتضي مصلحتها؛ ويمكنها تشجيع التحرر والإنصاف أو التحريض على الطغيان والظلم وعدم المساواة والطبقية، كما تملي عليها الضرورة. وليس للرأسمالية صلة طبيعية بمؤسسات الحريات الديمقراطية أو الليبرالية. وليس لها طبيعة أخلاقية على الإطلاق. فإنها عبارة عن نظام لا يمكن لأحد أن يعبث به أو يسيء استخدامه، بل مجرد له القابلية على التقليل أو زيادة فعاليته. ولكن، بطبيعة الحال، عندما يُنظر إلى الرأسمالية بأيّ منظار أخلاقي أبعد من التمييز بين الخير والشر، فنرى أن الرأسمالية في جوهرها هي شَرّ.
فلكل هذه الأسباب، يبدو من الحكمة في نظري أننا اخترنا أن نسأل أنفسنا هذا السؤال: ما الشيء الأسمى من الرأسمالية؟ وليس هذا السؤال: ماذا سيأتي بعد الرأسمالية؟ فبقدر ما أستطيع أن أرى، فإنّ ما سيأتي بعد الرأسمالية – أي ما سيُثمِر منها في المسار الطبيعي للأشياء – هو لا شيء ذو شأن. وهذا ليس لأني أعتقد بأن انتصار أوضاع سوق الشركات البورجوازية يشكِّل «نهاية التاريخ،» أي بمعنى النتيجة المنطقية النهائية لبعض المادية الجدلية المُتعذِّر تغييرها. حتى إني لا أتخيل أن منطق الرأسمالية قد فاز بالمستقبل، ولا أؤمن بأن حكمها سيدوم إلى الأبد. وفي الواقع، أظن أنها نظام لا يدوم على المدى الطويل.
وأستند في قناعاتي هذه بالأحرى على حساب بسيط للغاية وهو عدم التناسب بين الجشع اللانهائي والموارد المحدودة. فإنّ الرأسمالية بطبيعتها هي اختلال شديد في القوى العقليّة ينتشر بشكل وحشي، وهو في النهاية، إذا ما تُرِك ليقرر بنفسه، فسيحوّل كل النظام الطبيعي إلى صحراء: مسلوبة، وخربانة، ومُسمَّمة، ومُدنَّسة. وإنّ الكوكب بأسره غارق سلفا في جو من جزيئات اللدائن البلاستيكية الدقيقة، ومُغلَّف بكفن سميك من الانبعاثات الكربونية، ومغمور بسيل فائض من المعادن الثقيلة والسموم. وليس لديّ أيّ توقُّع لحصول أيّ دافع معاكس سيعرقل تقدم الرأسمالية نحو هذه النهاية التي لا مفر منها، دوافع صالحة مثل: غريزة البقاء على قيد الحياة، أو عواقبية أخلاقية مُتعقِّلة،2 أو حماسة لرعاية الطبيعة، أو توقير تلقائي لبهاء الخليقة.
إنّ الرأسمالية في الأساس هي عملية تأمين فوائد ماديّة مؤقتة من خلال التدمير الدائم لأساسها المادي. فإنها نظام الاستهلاك الكلي، ليس فقط بالمعنى التجاري، ولكن أيضًا بمعنى أن منطقه الضروري هو أنقى صيغ مذهب العدميّة، التي معناها رفض جميع المبادئ الدينية والأخلاقية، والاعتقاد بأن الحياة لا معنى لها، وهو التزام بتحويل وفرة المواد الموجودة والملموسة إلى قيمة لا ماديّة صرفة. لذلك، أتوقع أن الرأسمالية لن تستنفد طاقاتها الذاتية التي تتميز بها لغاية أن تستنزف العالم نفسه، باستثناء مظهر بعض الوكالات العرضية والمضادة للتيار الرأسمالي. وسيكون هذا في الواقع علامة على انتصار الرأسمالية النهائي وهو: التسليم الكلي لآخر بقايا القوى المؤمنة بالخير المطلق التي تقاوم الباطل إلى أيادي السرمدية الفيثاغورية غير المحسوسة للقيمة التجارية السوقية. وإنّ أيّ قوة قادرة على إيقاف هذه العملية الكارثية، لابد أن تأتي من خارج نطاق الرأسمالية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتجاجات الطلبة في فرنسا ضد حرب غزة: هل تتسع رقعتها؟| المسائ


.. الرصيف البحري الأميركي المؤقت في غزة.. هل يغير من الواقع الإ




.. هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتحكم في مستقبل الفورمولا؟ | #سك


.. خلافات صينية أميركية في ملفات عديدة وشائكة.. واتفاق على استم




.. جهود مكثفة لتجنب معركة رفح والتوصل لاتفاق هدنة وتبادل.. فهل