الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كفاك تلاحقني...قصة قصيرة

جمال حكمت عبيد

2019 / 9 / 17
الادب والفن


في بلد بعيد عن بلدي، احتلت سنينُ إقامتي فيه مسافة من سنين عمري. عشت بإحدى مدنه، أسير بشوارع أحيائها كل يوم كإنسان آلي، لا تجمعني بها أية ذكرى، ولا تعيدني رائحتها إلى ماضٍ أستمتع به، لكن خارطتها مرسومة في عقلي؛ لكي لا أضل الطريق وأنا اقود سيارة الأجرة التي ألتقط منها رزقي.
في صباح هذا اليوم صنع لنا ولدي البهجة في قلوبنا، بحصوله على شهادة البكالوريوس بعلم الاقتصاد، وقد ملأت الفرحة بيتنا كخيوط الشمس في هذا الصباح المشرق، وقلت في نفسي جعله الله يوما مباركا وسعيدا. عند العصر ذهبت إلى عملي وما زالت خيوط الفرح تبسط اسارير وجهي. وفي أول الطريق استقل سيارتي ثلاثة أشخاص، رجلان وامرأة، المرأة مع أحدهم جلست في الخلف وثالثهم جلس بجانبي، دار الحديث بينهم، عرفتهم من خلال حديثهم انهم ضباط في الجيش الأمريكي يعملون في القاعدة العسكرية القريبة من مدينتي. كانوا يتحدثون الإنجليزية، وكعادة الركاب وفي غالب الأحيان يشركونني معهم في الحديث، وهذا مصدر سلوتي في ساعات عملي، فأنا لا استطيع اجبارهم على سماع أغنية أحبها كما يفعلها سائق التاكسي في بلدي. كان حديثهم لا يخلو من الجد والضحك فهم ذاهبون الى المطعم للعشاء . وحينما اشركوني معهم في الحديث، فاجأتني السيدة الجالسة خلفي بالسؤال:
- انت تتكلم الإنجليزية بوضوح، وهل تستطيع التحدث بلغة هذا البلد؟
نظرتُ اليها من خلف المرآة التي امامي وكانت تبدو بعمر الثلاثين، سمراء، وجهها مائل للصفرة ، باردة الدم، شعرها اسود يصل الى خديها، عيناها سوداوان غائرتان، صعب عليّ تحديد أصولها. فأجبتها:
- نعم، وزدت قليلاً بالإجابة بلغة البلد الذي نحن فيه. لكن فضولها جرّها معي الى سؤال آخر وكأنها ضابط تحقيق وقالت:
- وهل تجيد لغة أخرى؟
- نعم، العربية. وقالت في الحال:
- انا اعرف أتكلم العراقية ..اندهشتُ من كلماتها، فلقد تحدثَت بضعة كلمات باللهجة العراقية. لم أقل لها أنا عراقي، لكنني قلت لها:
- كيف تعلمتيها؟ قالت:
- في العراق وفي سجن ابو غريب.
- هل كنتِ مسؤولة في السجن هناك؟
- كلا ..كنت مسجونه هناك. استغربتُ ما قالته تلك المرأة!
- كيف تُسجَنين وانتم من دخل العراق بأسلحته؟
- كنتُ مسجونة عاماً هناك لكوني قتلتُ الكثير من العراقيين.. وضحكت!!..
كلماتها في الحال صفعتني..صدّقتها، وضحكتها افقدتني ارادتي.. شعرتُ بانتهاك جميع اوصالي .. ذهبتُ سارحاً في خيالي بعيداً الى وطني والى صور مازالت عالقة في ذهني، وما حل بأصدقائي وأهلي، فتوجم وجهي.. فركتُ عينيّ كي استجري منها دمعة انحبست، وأخرى انحدرت كماء السفح على خدي . فتوقفت تلك المرأة في الحال عن الحديث وراحت تسألني:
- لماذا الدمع على خديك؟
قلت لها وحشرجة الغضب في صوتي :
- العراق بلدي ومن قتلتيهم أبناء بلدي، ألا يحق لي أن احزن عليهم؟
راحت بلا حياء تسألني وكأنها استهجنت دمعي:
- كم سنة انت تعيش هنا؟
- خمسة وعشرين عاما . سكتت دون تأسفٍ.. ولم ينبس احد ببنتِ شفةٍ.
انقطع الحديث بيننا وساد الصمت في السيارة حتى وصلوا إلى محطتهم. اخرجوا النقود وكانت كالعادة مع اكرامية التوصيلة "البقشيش " وفي هذه المرة ازادوها. رفعتُ أطراف أصابعي كمن يتقي عدوى مرضٍ ، والتقطت حق اجرتي فقط، ورفضتُ ما ازادوا عليه، علَنّي أهينهم وأرضي نفسي، وهذا أضعف الإيمان. غدوتُ مكترباً، لم اقوَ على السياقة، فركنتُ سيارتي على حافة الطريق.. اخذتُ نفَساً عميقاً علّني أخففُ من ضيقي، وزفرتُ زفرةً حارة، وصحت بصوت عالٍ: الى متى تبقى تلاحقني يا وطني.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل