الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ستون سنة وبضع ليالي

ساطع هاشم

2019 / 9 / 18
الادب والفن


إنّي لأجْبُنُ عَن فِراقِ أحِبّتي. وَتُحِسّ نَفسِي بالحِمامِ فأشجُعُ (المتنبي)

انهيت قبل أسبوعين بالضبط ستين سنة من عمري في هذا العالم الحائر البائر المليء بالضجيج والدخان والدجل والصراع الأزلي العبثي بين الأضداد.
وانا في وحدتي اسامرها، عادت بيَّ الذكرى بعيدا في الأفق بعد ان صرتُ ارتعد كلما خطر على بالي الأمل، وترامت كلماتها الى مسمعي من بعيد وهزت كياني وتذكرت كيف سارت الحياة بنا على وتيرة واحدة بلا تغيير.
ثم جاءتنا رياح التغيير، وعندما حان وقت التغيير جُنَّ جنوننا نحن الاثنين، وبدت على وجهينا علامات نفاذ صبر وانتظار، ألقت بنا على سواحل موحشة، تحول فيها أملنا بالفجر الاجتماعي الجديد الى صخرة صماء في ليلة ظلماء لا روح فيها بعد ان كان لوناً أحمراً مطرزاً بالذهب، ثم بعثرتنا خيبات الأمل مع حبات الرمل دون وداع، وصار كل شيء يحول بيننا حتى لا نلتقي، ولم نلتق بعد ذلك أبداً.

كنت أخلو بها قريبة الى نفسي باستمرار وابحث في الليالي المظلمة او المقمرة وفي ثنايا خيالاتي عن المعجزات، الى ان يتسرب شعاع من أشعة الشمس ويدخل عبر النافذة، وينتهي الهدوء وأغادر، واتركها في مكانها مشعة بالجمال، كأنها صُلبت للتو وعلقت على اضوية الفجر الاجتماعي الجديد.
ثم اندمج ثانية مثل كل يوم معها لأننا كنا نعيش بانتظار وأمل، وكلانا متفقين على ان الحياة ستستمر بعد مماتنا ونحن فيها لا نموت، فقد حققنا السعادة بجهودنا وأنهينا خيبات الأمل.

أرادت ان نعيش مثل الضوء والظل، لا ينفصلان ولايمكن ان تجد واحداً وتفقد الآخر ولم يخطر على بالها أبداً، في ان ما يربطنا سينتهي في يوم من الأيام، ويهرب الجميع من حولنا.
كنت دائما اصغي اليها دون ان اسمع، وحتى لو سمعت لم أكن لأصغي، كان وجهها ناصعا حتى كنت اتخيل في مرات عديدة بان وجهي ينعكس على جبهتها كالمرآة، وان رأسها يعلوه اكليلا من الغار والنور ينير جبهتي، فصارت نجمتي دون ملايين الكواكب، فكلما كان الليل يتلاشى كنت أراها امامي كأنما هي انوار الصباح، وعندما غبت عنها لأول مرة لبضع ليالي لاحقتني واهتدت الى مكاني وغبنا في عناقنا الذي لا ينتهي، وأدركت حينها بأنها لا تبالي بالرزايا لأنها ما انتفعت بان تبالي، وانا أمامها مثل كائنٌ ذهبت به الرؤيا بعيدا كمن يحمل سرا تشقى به نفسه، حتى اصبحت لا ارى في السماء غيره ولا في الأرض غيرها.

واعتقدت بالسنين الأخيرة ان المستقبل ليس لي على الإطلاق، ربما لأني لم امتلك شيئاً ولم يقع لي شيئاً، فأشعر دوماً بانبعاث الزمن من مكانٍ ما حولي، كشيءٍ وجوده غريب وبقائه اغرب، شيء جارح ومحسوس ويشغل كل الفراغ
المحيط بيَّ ولا أراه بينما أيامي وشهوري تختلط فيها الحقائق بالأوهام، والعمر يتقدم بكامل الهدوء، وانا فيه وقد حكمت على نفسي بالنسيان، فليس لي عمل اؤديه غير تلك الرسوم التي تملأ حجرات منزلي ومرسمي المتواضع منذ أربعين سنة.
فالرسم هو طريقة مُثلى للتعبير عن الذات وخيبات الأمل والظلام الاجتماعي الجديد، وبالنسبة لي فهو أكمل الطرق واسماها، رغم كامل معرفتي بان الأعمال الفنية طبعاً لا تعبر عن جوهر الحقائق فهذه من مهمات العلماء والتقنيين والمشتغلين بالاقتصاد، وهؤلاء لهم عقائد أخرى، بعيدة عني وعن مرسمي وعن صفاء الضوء وظلاله البنفسجية التي تغطي خريف عمري الان.

أما الآن وهنا اطرح جانباً مصيري كفنان، فلقد عشت فعلا فهذه حقيقة لا أشك بها، مغلوبا على امري، خاضعا للصدفة، كمخلوق صغير في عالمٍ لا يمكن تخيل كبره او التنبؤ بمستقبله وما كنت اعرف ما اريد في كثير من الأحيان بعد اندحار افكاري ومعتقداتي الأولى.

لقد أسدل الليل ستائره وأصبح امري لا فرار منه، لقد غابت عني والى الأبد، ومنذ سنين لم تُنار جبهتي بإكليل الغار مرة اخرى أبداً وها أنذا قد شخت وهذه هي حقيقتنا المشؤومة، ولا شيء يؤخر تقدم الزمن، اقول هذا وانا اقلب رسومها ورسائلها وصورها القديمة وأتفحص تجاعيد وجهي وكيف سيصبح وجها مخيفا ويذهب الضياء عنه ولن يجرؤ احدا على مجرد الاقتراب منه، أني لا اصدق (فما هو اتٍ لا أحسُ له طَعمُ)، انه الشعور باللاجدوى في كل شيء فقد ذهبت وهي أكثر خلوداً من آمالنا المقبلات، وهدني الحزن وَتُحِسّ نَفسِي بالحِمامِ فأشجُعُ.

أهذا إذاً كل ما يتبقى؟ كما قال الشاعر

السلام والخلود لكل اصدقائي وأحبتي، من غادروني ولن احتفل معهم بأعيادي مرة اخرى الا كطيف خيال يزورني ابدا








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حفل تا?بين ا?شرف عبد الغفور في المركز القومي بالمسرح


.. في ذكرى رحيله الـ 20 ..الفنان محمود مرسي أحد العلامات البار




.. اعرف وصايا الفنانة بدرية طلبة لابنتها في ليلة زفافها


.. اجتماع «الصحافيين والتمثيليين» يوضح ضوابط تصوير الجنازات الع




.. الفيلم الوثائقي -طابا- - رحلة مصر لاستعادة الأرض