الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نعي الكتاب: انتهى الكلام، بدأ فكر البصر

حكمت الحاج

2019 / 9 / 25
الصحافة والاعلام


(الكتاب يصنع الإنسان الكامل... فرانسيس بيكون)

- مولد نظرية -
في النصف الثاني من القرن العشرين، ظهرت نظرية جديدة أثارت جدلا كبيرا حتى ليعتبرها البعض "أخطر نظرية في الفكر الإنساني بعد النظرية النسبية لآينشتاين"، وإن كانت هذه المرة في مجال العلوم الإنسانية، تلكم هي نظرية "مارشال ماكلوهان"، وهو فيلسوف وباحث كندي مختص في "علوم الاتصال". وتكتسب هذه النظرية خطورتها من كونها تحاول أن تضع تفسيرا جديدا لمراحل الحضارة الإنسانية وتطوراتها ويقوم هذا التفسير على أساس ما يسميه "الحتمية التكنولوجية" وذلك في مواجهة نظريات أخرى في تفسير التاريخ مثل الحتمية التاريخية عند كارل ماركس. فماكلوهان يفسّر الحضارة بالاستناد إلى نوع "وسيلة الاتصال" التي تسود في كل مرحلة منها. فكل تغيّر يحصل في وسائل الاتصال، يحدث ما يقابله من التغيّر الاجتماعي، وكل وسيلة اتصال لها حضارتها التي تقوم عليها، فقد انتقلت الحضارات من الحضارة السمعية الشفهية، إلى الحضارة الكتابية، إلى الحضارة الطباعية – بعد ظهور المطبعة- حتى وصلت إلى حضارة الوسائل التكنولوجية الحديثة وهي وسائل الاتصال السمعية والبصرية كالراديو والتلفزيون والسينما والفيديو.
- حضارة المطبوع -
يقيم "ماكلوهان" كل التراث العقلي والحضاري الغربي على افتراض محدّد هو أنّ التجربة الرئيسية للإنسان الغربي قامت على أساس اختراع "الطباعة" منذ القرن الخامس عشر وحتى قرننا هذا – إنّ وسيلة الاتصال المتأتية من ذلك إنما هي ما يمكن أن نسميها "حبرا على ورق" رديفا للطباعة، فالأفكار لها ثقافة متميزة تتأثّر بطبيعة الحروف المنفصلة المطبوعة للكتاب فهي تأتي في نسق معين (مكان لكل شيء، وكل شيء في مكانه) كلمة بعد كلمة، وجملة بعد أخرى، ممّا خلق ما يمكن أن يسمّى بالتفكير الخطي (liner thinking) الذي يتتابع في منطقية تشبه تتابع سطور الكتاب المقروء بطريقة نظامية معينة، ممّا جعل فكر الإنسان "القارئ" يصاغ في هيكل جديد، منطقي وتسلسلي.
إنّ كل وسيلة اتصال يخترعها الإنسان، تعتبر امتدادا جديدا لحاسة من حواسه الأصلية، فالطباعة هي امتداد لحاسة البصر، وهذا الامتداد يضيف أبعادا جديدة لمقدرة الإبصار عند الإنسان، ممّا يخلق لديه أبعادا نفسية جديدة. وكان تأثير المطبوع أنّه كثف المنظور وأعطى قوة جديدة للتركيز البصري عند الإنسان، وليست الأشكال الثقافية العظمى في عصر النهضة منفصلة عن "خطية" واتساق ودقة ترتيب الحروف في صفحة الكتاب المطبوع وتستطيع أن تقدم تفسيرا لأسباب تطور الموسيقى الغربية كنتيجة لحضارة المطبوع فالموسيقى الغربية فيها ثلاثة أبعاد وفيها الـ "كونتر بوينت" فهي تشبه التصوير المجسم بعكس الموسيقى الشرقية التي تشبه رسوم الموزاييك.
ويرى" ماكلوهان" أنه كلما كانت للكلمة المطبوعة قوة تحليلية تجزيئية تسببت في فصل وعزل الفكر عن الشعور عند الإنسان فالإنسان القارئ تنفصل عنده عملية التفكير عن عملية الانفعال وتكون لديه القدرة على الفعل المستقل الذي يمكنه من الانفصال عن الروابط "القبلية" القديمة والأشكال الانفعالية البدائية حيث يحصل اندماج الفكر بالشعور ويزداد الانضواء الاجتماعي بل لقد هيّأ المطبوع القدرة على انتشار الأفكار وهي مسألة ضرورية لنشوء "القوموية" التي يعتبرها "ماكلوهان" واحدة من نتائج تكنولوجيا المطبوع الذي أبعد الإنسان القارئ عن العلاقات القبلية التقليدية إلى أسلوب الحياة الحديثة، أي، من القبلية إلى القومية والأممية، ومن الإقطاع إلى الرأسمالية، ومن الحرفية إلى الإنتاج الواسع. فقد كان الكتاب أول سلعة تنتج بشكل آلي بحيث تشبه كل قطعة القطع الأخرى. ولم يكن ذلك ممكنا على يد الحرفي. ولقد وفّر مبدأ التكرار الآلي لنفس النص الفرصة لبروز ما يسمى بالجماعة القارئة، كما غيّر نظام المناظرة الشفوية في التعليم. وكان الكتاب أول آلة تعليمية موحدة أمام عدد من التلاميذ ممّا سمح فيما بعد بانوجاد المؤسّسة التعليمية والتعليم العمومي للجماهير الواسعة.
وينسب "ماكلوهان" أيضا لظهور الكتاب المطبوع، القوة الهائلة لعصر النهضة، حيث أخرجت الفرد من نطاق جماعته التقليدية وشجعت روح المغامرة ونمت قدرة التعبير الذاتي وظهرت بوادر التفكّك والتعدّد في عالم السياسة والأسرة ويفسّر بذلك ظهور التخصّص في الوظيفة نتيجة لظهور المطبوع وينسب "ماكلوهان" للمطبوع أيضا افتراضه قيام الحضارة الغربية على أساس ظهور وسيلة اتصال جماهيرية واحدة هي الكتاب المطبوع ممّا يجعل ظهور وسائل جديدة للاتصال الجماهيري مسألة هامة لأنّ هذه الوسائل مختلفة عن الكتاب في أسلوبها وتكنيكها وتأثيراتها ممّا يعطي امتدادا جديدا لحواس أخرى لدى الإنسان، والوسيلة بما تحدثه من تغيير في الحقل المحيط بنا، تثير فينا معدلات استثنائية من المدركات الشعورية وإنّ التوسيع في أية حاسة من حواسنا يغير من طريقة تفكيرنا ومن الطريقة التي ندرك بها العالم. فحيثما تتغير هذه المعدلات يتغير الإنسان. إذن فمع ظهور وسائل اتصال جديدة وتسريع السينما والتلفزيون والراديو وغيرها من الوسائل الإلكترونية لحركة انتقال المعلومات والوثائق فإنّ البناء الأساسي للكلمة المطبوعة يقف مهزوزا ومهدّدا لأنّ الوسيلة الجديدة حينما تظهر لا تصبح إضافة إلى وسيلة قديمة بل هي تقتلها ولا تتركها في سلام ولا تكف عن قمع الوسائل السابقة لها حتى تجد لهذه الوسائل حالات وأوضاعا جديدة وبذلك فإنّ حضارة التكنولوجيا الجديدة تتحلّل وتهدم الحضارة التي شيدها الكتاب على كوكبنا على طول خمسة قرون فالكوكب الآن يعاد ترتيبه نتيجة للمواجهة ما بين التكنولوجيا الإلكترونية الحديثة (راديو، تلفزيون، فيديو) وبين التكنولوجيا الآلية القديمة (تكنولوجيا المطبوع).
- هل ينعى إلينا ماكلوهان عصر الكتب؟ -
إنّنا في رأي مارشال ماكلوهان قد اتجهنا بالفعل إلى عصر الفكر البصري وليس القرائي، وسوف يبدو إنسان حضارة المطبوع وثقافة الحروف المنفصلة المنطقية الخطية كأثر بال وقديم، في حين يظهر تغيير دائم وغير ملحوظ في حواسنا الإدراكية نتيجة للوسائل الجديدة فيتلاشى المنطق التسلسلي للمطبوع أمام "موزائيكية الـمبصور" (المنظور إليه) المسطح للاتصال اللحظوي الفوري للوسائل الإلكترونية الحديثة التي أصبحت تمثل ظرفا جديدا يحيط بنا ووسيلة جديدة تندغم فيها جميع الوسائل القديمة. وهكذا وبعد أن غير الإنسان مرحلة القبلية القديمة إلى مرحلة الفردوية والاستقلالية والتجرّد فإنّ وسائل الاتصال الإلكترونية الجديدة السريعة تلقي على الإنسان باستمرار مشاكل وهموم الآخرين كلهم ويصبح الإنسان قبليا مرة أخرى وتصبح الأسرة الإنسانية قبيلة واحدة من جديد وتولد رؤية جديدة أسطورية قبلية غير مركزة ويحيا الإنسان في "قرية" عالمية ويعود إلى قيم وإدراكات الثقافة الشفوية السابقة على ثقافة الطباعة. إنّ رجل القبيلة الجديد هذا، يعتمد على السماع فهو يصدق سريعا لأنّ لديه استجابة عاطفية للكلمة المنطوقة، وهو إنسان حماسي يريد المساهمة والمشاركة واللمس، ولديه عادات قبلية ولديه وعي اجتماعي يعكس رجل القراءة الذي صنعه المطبوع والذي يحاول دائما أن ينظر إلى قياس الأمور بطريقته الخاصة وبشكل فردي ومستقل ولا شك أنّ هذا التطور في وسائل الاتصال هو جزء من تطورات كبيرة وحتمية وسوف يخلق ذلك التفاعل بينهما أوضاعا وأشكالا جديدة لعمليات الاتصال ولكن الخوف سيكون خاصا بمستقبل الشعوب النامية التي لـم تمر (أو لـمّـا تمر) بمرحلة القراءة بعد ويخشى عليها من سطوة التلفزيون والسينما والإذاعة والفيديو وكل الوسائل الخفيفة والسريعة. فهذه الشعوب، حسب ماكلوهان، تواجه الآن خطر الانتقال من مرحلة الثقافة الشفاهية السمعية القديمة التي لم تتخلص منها بعد إلى مرحلة الثقافة الشفاهية الجديدة التي تدعمها الوسائل الحديثة. أي أنها ستنتقل من مرحلة الإنسان القديم إلى مرحلة الإنسان الجديد عابرة بذلك مرحلة المطبوع وحضارته. ويلاحظ أنّ التقدّم الاقتصادي في أي بلد من البلدان النامية يؤدي مباشرة إلى تطوير شبكة الوسائل السمعية والبصرية، في حين أنّ تأثير التقدّم الاقتصادي على الكتاب (القراءة) لا يظهر واضحا إلاّ بعد فترة طويلة من الزمن ولا يفرض وجوده الكامل إلاّ ببطء شديد.
- نحن بالضبط أدواتنا -
من الأقوال المأثورة لنبي علوم الاتصال والتواصل مارشال ماكلوهان وصفه وسيلة الاتصال أو الوسيط الاتصالي بأنه هو الرسالة. وفي مناسبات أخرى كان ماكلوهان يشدد في قوله إننا نصبح ما نحن عليه من خلال ما نراه ونعقله وأننا في الوقت الذي نصنع فيه أدواتنا وعدة عملنا فإن تلك الأدوات والعدد تعود فتصنعنا فنكون نحن بالضبط أدواتنا لا غير. يشير هذان الاقتباسان إلى أن الوسيلة التي تأتي منها الرسالة تشمل أكثر مما نراه ببساطة. وتعقب نانسي روزن المختصة في علوم الاتصال من جامعة تورونتو في كندا إنما هذا يعني أن الأدوات التي نستخدمها في حياتنا اليومية هي أكثر من مجرد غرضها الأولي. لنأخذ هاتفًا ذكيًا، على سبيل المثال، يشير الاسم نفسه، الهاتف، إلى أنه من المفترض أن يتم استخدام الجهاز فقط لإجراء المكالمات. ومع ذلك، فإن الهواتف الذكية لها وظائف عديدة أكثر من مجرد إجراء المكالمات وتستخدم في بعض الأحيان في كل شيء تقريبًا، ولكن يتم عبرها إجراء المكالمات الهاتفية. ولو أنك بدأت تفكر في ما استخدمته من هاتفك الذكي الشخصي لأدركت أنك تستخدمه في الرسائل النصية وتصفح الإنترنت والتقاط الصور وممارسة وسائل التواصل الاجتماعي وممارسة الألعاب وكحاسبة ولكن ليس في كثير من الأحيان للاتصال. في الأساس، فإن المقصود أن يكون مجرد هاتف يشمل وظائف العديد من الأجهزة في جهاز واحد.
لقد وصل صنع الهواتف الذكية إلى الحاجة إلى امتلاك أدوات أكثر ملاءمة لوظيفة أكثر سرعة وفعالية. وتقول نانسي روزن انها أدركت أن الحاجة إلى وجود المزيد من الأدوات في أيدينا قد غيرت الهاتف الخليوي ليتم استخدامه بطرق متنوعة. في هذه الحالة، فإن الوسيط هو الهاتف الذكي والرسالة هي جميع الوظائف التي تستخدمها هواتفنا الذكية كمجتمع في حياتنا اليومية. ينتهي الوسيط الذي نحصل منه على الرسائل (الوظائف) في إعادة تشكيل الرسالة بداخلها. وبهذه الطريقة، نتأثر برسالة إعادة تشكيل الوسيلة التي تؤثر بدورها على رغبتنا في تطوير التكنولوجيا وخلق دورة متكاملة من الاقتصاد التكنولوجي.
مارشال ماكلوهان (1911–1980) أستاذ وفيلسوف وكاتب كندي. أحدثت نظرياته في وسائل الاتصال الجماهيري جدلاً كبيرًا، فهو يرى أن أجهزة الاتصال الإلكترونية ـ خاصة التلفزيون ـ تُسيطر على حياة الشعوب وتؤثر على أفكارها ومؤسساتها. عمله هو أحد أحجار الزاوية في دراسة نظرية الوسائط. صاغ ماكلوهان تعبير "الوسيط هو الرسالة" ومصطلح "القرية العالمية"، وهو الذي توقع شبكة الإنترنت قبل ثلاثين عامًا تقريبًا من اختراعها. كان لاعبا أساسيا في الخطاب الإعلامي في أواخر الستينات، على الرغم من أن تأثيره بدأ في التراجع في أوائل السبعينات. وفي السنوات التي تلت وفاته، ظل شخصية مثيرة للجدل في الأوساط الأكاديمية. مع وصول الإنترنت والشبكة العالمية، تم تجديد الاهتمام بعمله وبمنظوره. زعم ماكلوهان أن كل حقبة زمنية كبرى في التاريخ تستمد شخصيتها المميزة من الوسيلة الإعلامية المتاحة آنذاك على نطاق واسع. والنتيجة كما يرى هي أن الوسائل الإلكترونية تقضي على الفردية والقومية، ونمو مجتمع عالمي جديد. قام ماكلوهان بتحليل التأثيرات التي تُحدِثها وسائل الإعلام في الناس والمجتمع من خلال مؤلفاته مثل العروس الميكانيكية (1951)، مجرَّة غوتنبيرغ (1962)، فهم وسائل الاتصال (1964)، الوسيط هو الرسالة (1967)، الحرب والسلام في القرية العالمية(1968) . إنّ التطور التكنولوجي المتمثل في ظهور وسيلة اتصال جديدة (التلفزيون والراديو في الماضي القريب، الفيديو وتلفزيون الكابل الآن) يحدث عاجلا أم آجلا، وبفضل ديناميكيته الخاصة تغييرا عميقا في أنماط التواصل بين البشر، وبالتالي في الأبنية الاجتماعية. هذا هو جوهر نظرية "مارشال ماكلوهان". ويشكل الكتابان اللاحقان له، فهم وسائل الاتصال 1964 والوسيط هو الرسالة 1967 امتدادا لاكتشافاته الفكرية التي دشنها في كتابه الأول "مجرة غوتنبيرغ". وقد استطاع "ماكلوهان" عبر هذا الكتاب أن يتحول من ناقد أدبي إلى مؤرخ ثقافي ومبشر طوباوي، بيد أنّ معظم أمثلة ماكلوهان واستلهاماته مستمدة من الأدب، وبخاصة من الشاعر الصوفي والرسام وصاحب الرؤى في القرن الثامن عشر "وليم بليك" والروائي الإيرلندي الكبير "جيمس جويس" صاحب "فينيغانز وايك" و"يوليسيس".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عقوبات أوروبية جديدة على إيران.. ما مدى فاعليتها؟| المسائية


.. اختيار أعضاء هيئة المحلفين الـ12 في محاكمة ترامب الجنائية في




.. قبل ساعات من هجوم أصفهان.. ماذا قال وزير خارجية إيران عن تصع


.. شد وجذب بين أميركا وإسرائيل بسبب ملف اجتياح رفح




.. معضلة #رفح وكيف ستخرج #إسرائيل منها؟ #وثائقيات_سكاي