الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تايه، رواية فلسطينية للأديب صافي صافي

عبد الغني سلامه
كاتب وباحث فلسطيني

(Abdel Ghani Salameh)

2019 / 9 / 26
القضية الفلسطينية


تايه
صدرت عن دار النّاشر في رام الله 2019 - رواية "تايه" للرّوائيّ الفلسطينيّ د.صافي صافي، وتقع في 156 صفحة من الحجم المتوسّط. وهي الرّواية التّاسعة للأديب صافي صافي. لكن هذه الرواية احتاجت من الكاتب 5 سنوات، من القراءة والاستماع والبحث في التاريخ الثقافي والمكان، لكي تحمل القرية كمسرح للأحداث والحكايات التي وقعت في الماضي، وما زالت تتكرر بأشكال متعددة.. فالرجوع إلى الماضي يشكل مفتاحاً لفهم الحاضر.

تشبه الرواية في مضمونها وأسلوبها الشيق شخصية الراوي، في إنسانيته، ورقّة مشاعره، وشغفه الدّائم بقريته "بيت نبالا"، وهي واحدة من بين مئات القرى التي تم هدمها ومحو كل أثر لها إبان النكبة..

الأديب صافي مسكون بقريته بيت نبالا، التي ضاعت قبل ولادته بسبع سنين، لكنه ظل متعلقا بها، وهو اليوم في منتصف الستينات، وما زال يذكر الأماكن والحارات والوديان والتّلال، وتفاصيل الحياة اليومية كما لو أن بيت نبالا ما زالت تنبض بالحياة.. في أغلب رواياته يدور حول نفس المكان، لا لضعف في الخيال؛ بل لأنه يريد حفظه، بكل تفاصيله، خوفا عليه من الضّياع والنسيان..

هو لا يذكر بيت نبالا وحدها، بل يأتي على ذكر معظم القرى والبلدات المجاورة، وحتى البعيدة، بيت اللو التي ولد فيها، دير عمّار، وجمالا التي عاش فيهما طفولته وشبابه.. عابود، دير أبو مشعل، اللد، الرملة، النبي صالح، رام الله، بيرزيت، كوبر، المزرعة، الجانية، راس كركر، دير بزيع، كفر نعمة.. وعندما يأتي على بيت نبالا لا ينسى أدق التفاصيل: الخربة الشامية، الخربة البيضا، وادي الصرار، الكسارات، الخوابي، الطوابين، الكامب، المقاهي، عين البلد، عين القوس، مقامات الأولياء... ثم يعرج على الحمايل: الشراقا، زيد، صافي، نخلة.. وبقدرة مدهشة على التذكر، يورد تفاصيل الحياة العادية، بأعراسها، وأتراحها، وأساطيرها، وحكايات الغولة، وعيون الماء التي يسكنها الجن..

اعتمد الراوي في ذكره تفاصيل الحياة الاجتماعية على عدة شخصيات: "تايه" وهو الشخصية المركزية في الرواية، وهو إنسان طيب، محدود الذكاء، يعيش على الفطرة والبساطة، قلبه نقي، إنساني، له معاييره الإنسانية الصافية، لا يؤذي أحدا ولا يسيء لأحد.. حتى البيئة والحيوانات.. على عكس صلاح، الشقي، صاحب المقالب، المؤذي، المخرب، لكنه أيضا شخص لطيف وطيب ولا يضمر الشر لأحد.. وأيضا شخصية أم تايه التي لم نعرف اسمها، بدت بدور بطولي.. كما تظهر العديد من الشخصيات الأخرى بسمات وقسمات متباينة، ولكنها سرعان ما تختفي، حيث يظل دورها هامشيا، ويبدو أن الغرض من إظهارها استعراض نماذج متعددة من المجتمع الفلسطيني.. وأوجه مختلفة من أنماط الحياة الاجتماعية..

تايه يعيش مع أمه الأرملة في مغارة رومانية، وكأن المقصود بها أنه يعيش في عمق التاريخ وفي امتداده.. أو أن أم تايه رفضت السكن في بيت، لأنها كانت ترى أن إقامتها مؤقتة، وتريد العودة لبيتها الأصلي في بيت نبالا..

ولد تايه في بيت نبالا، وعاش فيها قرابة العشر سنوات، وتعلق عمره العقلي عند تلك الفترة، ويبدو أنه رفض الاعتراف بالتغيرات الكبيرة التي حصلت إثر النكبة، ورفض الاعتراف بنتائجها..

معظم أحداث الرواية تدور في الفترة ما بين النكبة والنكسة.. هل أراد الراوي القول بأن الشعب تايه.. أو أنه كان تائها خاصة وأن المرحلة التي أعقبت النكبة كانت خطيرة وحساسة، وتشبه التيه.. حيث فقد الشعب وطنه بين ليلة وضحاها، وتحول إلى جموع من اللاجئين.. ونلاحظ هنا لقطة إصابة تايه بطلق في رجله.. فقد أطلق الجنود النيران عليه، رغم أن مظهره يدل على إعاقته، أو أنه كان مسالما، ولا يشكل تهديدا.. وحتى بعد أن عرف الجنود بأمره، واصلوا إطلاق النار!! ما يعني أن العدو لا يرى في الفلسطيني حالة حياد، فحتى الساذج والبسيط مستهدف.. الكل مستهدف.

يتعرض تايه في اليوم الأول للنكسة لإصابة خطيرة في ساقه.. مع أن الراوي لم يذكر صراحة أنه مات.. ولكني توقعت ذلك من السياق.. مع أن الراوي ترك نهايته مفتوحة، مع إشارات سريعة تدل أن تايه بدأ يصحو بشكل ما، وأن حياته ستتجدد ربما بأشكال أخرى بعد الحرب.. من الممكن أن صحوته تمثل بداية صحوة الشعب، وبداية انطلاقة الثورة الفلسطينية..

لم يكن صافي أول من ارتكز في روايته على شخصية ساذجة، لكنها سابقة تسجّل لصالح الكاتب... حيث اعتدنا في الأدب الفلسطيني (المقاوم) أن يكون البطل ذو صفات استثنائية..

هل أراد الكاتب باختياره لتايه كشخصيّة ساذجة، وأيضا إسهابه في ذكر تفاصيل حياة السكّان، والتي وردت فيها الكثير من الخرافات والشعوذات القول بأن حياة الفلسطينيين قبل النكبة كانت حياة بسيطة، وبدائيّة، وفقيرة.. رغم وجود نخب مثقفة، وحواضر عمرانية متطورة .. فهل يمثّل "تايه" ببساطته جوهر الإنسان الفلسطيني، أو الذي يجب أن يكونه.. من نقاء وطيبة وتسامح؟؟ هل هو ضمير المجتمع؟ أم يمثل نموذجا لأنماط التّفكير السطحية التي كانت سائدة، والتي كانت من بين أسباب النكبة والهزائم؟

فمثلا الجملة التي تتكرّر على لسان "تايه" في الرّواية، وهي"عرب ويهود تقاتلوا"، هل تعكس منظومة فكرية كاملة حملها الفلسطينيون وكذلك الجيوش العربية في خوضهم للصراع؟ فكرة ساذجة لا تأخذ بالاعتبار موازين القوى، والحسابات السياسية والإستراتيجية، والاعتبارات الدولية والإقليمية.. كما لو أن المسألة مجرد طوشة، أو حرب خاطفة؟ أي تعكس مدى جهل الجانب العربي والفلسطيني بحقيقة الهجمة الصّهيونيّة ومخطّطات الانتداب البريطانيّ، لإقامة "وطن قوميّ لليهود على أرض فلسطين"، والدور الوظيفي المسند لهذا الكيان، وحقيقة تحالفاته وصلاته الوثيقة مع المجتمع الدولي.. إذ أنه وللأسف لا يزال هذا التّفكير قائما حتّى اليوم.

إبداع الراوي هنا يكمن في قدرته على إقناع القارئ أنّ مثل شخصيّة تايه قد تجدها في كلّ قرية ومدينة ومخيّم، وكذلك أحداث الرّواية بتفاصيلها العامة والدقيقة تنطبق بأشكال متعددة على كل هذه الأماكن، فالراوي هنا كتب عن وضع اجتماعي معين، وعن مرحلة تاريخية محددة، لكنها تتكرر في كل زمان ومكان من الأرض الفلسطينية.. فهي لا تخصّ "بيت اللو" وحدها، أو بيت نبالا، رغم أن غالبية الأحداث تدور فيهما، فالراوي أحسن في اختياره لقرية "بيت اللو"، لأنه ولد ونشأ فيها؛ فهو بالتالي يعرف جغرافيتها وشخوصها وحكاياتها معرفة تامّة، الأمر الذي مكنه من التنقل بين الأمكنة والأزمنة والشخوص بسهولة وخفة دون عناء، ودون تكلف.

اعتمد الراوي على أسلوب السّرد الحكائيّ المشوق، رغم قفزاته بين الأحداث والشخوص، وأحيانا اعتمد أسلوب التقرير الإخباري، خاصة في استعراضه لمعلومات قيمة ومهمة عن جغرافية وتاريخ بيت نبالا، ورغم أنها لا تشبه كثيرا السّرد الرّوائيّ، إلا أنها أتت خفيفة الظل، فقد ظل عنصر التّشويق موجودا من أول الرّواية حتى نهايتها.

إبداع الراوي مرة ثانية تمثل في قدرته على إيراد السرد التاريخي التوثيقي، وعلى استعراض أشكال وأنماط متعددة من التراث الشعبي الفلسطيني، وهي مسألة مهمة، استخدم بيت نبالا كقرية ممثلة للقرى الفلسطينية، وأورد حكاياتها، وثقافتها الشعبية بأسلوب روائي وكأنه يوثق في نفس الوقت تاريخ وتراث مئات القرى الفلسطينية التي دمرت وهجرت عام 1948، وحتى شخصيات الرواية لم تكن مجرد حالات خاصة ومحددة، وإنما تمثل شخصيات طبيعية وعادية كانت وما زالت موجودة.

رواية تايه نصّ أدبي جميل، رغم حمولتها التوثيقية والإخبارية.. فالكثير من التفاصيل الصغيرة خاصة عن اللجوء وما قبله وما بعده، لن تجدها في كتب التاريخ والوثائق التي تناولت النكبة. التفاصيل هنا مختلفة لأنها تفاصيل إنسانية، مع أنها ذات مضمون سياسي.

فمثلا لأول مرة أعرف عن مستوطنة يهودية بنيت عام 1905 في زمن الحكم العثماني، وأول مرة أعرف عن التهجير الأول لأهالي بيت نبالا خلال الحرب العالمية الأولى، التي دامت لأربعين يوما، وأيضا المعارك بين العثمانيين والإنجليز، والقبور الجماعية للجنود الأتراك. وكذلك تعرفت على أصول العائلات التي سكنت بيت نبالا قبل مئات السنين، وأن بعضها يعود إلى عدنان وقحطان، وإلى إمارة الحرافيش.. وعن الجد الأول للقرية "سلام"، وأخوته الذين انتشروا في بلدان كثيرة، وكيف كانت العائلات تتواصل، ثم تتناحر أحيانا لأسباب تافهة.

للراوي قدرة مدهشة على ذكر التفاصيل بحس ساخر وفكاهي، هذا الحسّ كان ضروريا أحيانا، خاصة وأن أحداث الرواية محزنة، وثقيلة، فيأتي تايه ليخفف من وطأتها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -عفوا أوروبا-.. سيارة الأحلام أصبحت صينية!! • فرانس 24


.. فيديو صادم التقط في شوارع نيويورك.. شاهد تعرض نساء للكم والص




.. رمى المقص من يده وركض خارجًا.. حلاق ينقذ طفلة صغيرة من الدهس


.. انقلاب سيارة وزير الأمن القومي إيتمار #بن_غفير في حادث مروري




.. مولدوفا: عين بوتين علينا بعد أوكرانيا. فهل تفتح روسيا جبهة أ