الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رؤى نقدية (6)

زياد بوزيان

2019 / 9 / 27
الادب والفن


8 ــ " تحرّيات كلب شبّ في مفرزة للكلاب " نموذج تطبيقي لِنظرية التناص

أولا إليكم القصة متبوعة بتعقيب تحليلي :

ما إن حطّت به الطائرة على مدرج المطار حتى طرح جهاز سْكانير المحمول بعيدا عنه ، الجهاز الذي يحمله معهم عادة رجال الأمن ثم وقف متحسسا الركاب الجالسين متأهبا للنزول و هو رافع رأسه تارة متلفتا يمنة و يسرة و تارة متشمماً للناس و أرضية المطار و المحطة و كل شيء يصادفه أمامه ثم حمل أخيرا معطفه البوليسي و حقيبته الجلدية الفاخرة و مضى.

و لمّا وصل إلى أهله في فرنسا أشفقوا كثيرا على حالته و هم الذين لم يتصورا يوما أن يروه بذلك الشكل الهزيل و بتلك الصفرة و الشرود و القتامة المعتلية لمحياه ، لكأنما هو عائد إليهم من معسكرات داعش أو قندهار فأحاطوه لتوّهم برعايتهم المركّزة حتى استعاد هويته الضائعة و وعيه المفقود ، أجل بعد جهد من العناية و التحنان تذكّر أنه كان قد نسي شيئا ما هناك أو أضاعه هناك في المكان الذي عاد منه ، لكنه لا يدري ما هو بالضبط ، تذكر بعد أحلام فترة النقاهة أنه كان قد عاش في دولة الكلاب فترة من الزمن فاستلبته دولة الكلاب تلك إنسانيته أو شيئا من هذا القبيل عندما جعلته كلبا من كلابها الأوفياء منتسبا إلى جهازها الأمني!

آه كم كان قدره لعينا لمّا درج على قراءة الروايات العالمية النقدية الشهيرة على شاكلة رواية "تحرّيات كلب" لِفرانز كافكا لكنه لما كان نابغا و متفوقا لم يخشى شيئا ، فهي كثيرا ما توقظ طموحه و تستأثر باهتماماته الأدبية كعهده و منذ صباه الأول ، أجل لكنه لم ينسى أبدا أنه مازال في سن العشرين ، السن الذي يعتبر بالنسبة لفرنسيو الطبقة الوسطى سن مراهقة ، أجل وقد حدَسته ذاته أن الغربة يمكن أن تجلب له مصاعب كبيرة و فادحة إن هو لم يثبّت خطواته و يلتزم بمشروع دراسة اللغة العربية و آدابها في بلده الأصلي الجزائر بحذافره ، بلده الأصلي الذي تركه جده و هاجر منه ذات خريف من العام 1962 إلى فرنسا للعمل مع المقفلين الفرنسيين موظفين و جنودا. حدَسته نفسه غير ما مرة عندما تعود إلى ذاكرته صور نصائح جده حول بلاده الأصلية ، بلاد المسلمين التي تسمى " لا الجيري " ، أما العبارة التي لم ينساها أبدا فهي قوله له : « إن الجزائر بلاد تنمو فيها الحضارة و تتطور موازاة مع نمو التعسف و الحقرة و إلا فإنها لا تنمو و تتطور أبدا » إنها ستظل ترن لوحدها في أذنيه حتى ينتهي من تحرياته قلبا و قالبا. فهل يمكن أن ينطوي عليه هذا التعسف و التكلف الذي حذّره منه جده في مجال تخصصه؟ ربما من يدري! أوليس التكلف و التعسف هما قرينا الظلم و الحُقرة اللذين هما نتاج استغلال المنصب و البحث عن مصدر لقمة العيش بعصبية فلا يهم أصاحَب صاحبها الرُوّية و التفكير السلس السليم المنطقي أم لا؟

من هذه المخاوف أو الهواجس انطلقت تحرّيات صاحبنا مبكرا و هو لم يصب بأي مكروه بعد. لكن تاريخ جده ذلك المجاهد المظلوم و الذي خدم مع جيش التحرير الجزائري ثلاث سنوات كاملة من 1959 إلى عام 1961 في حربها ضد الاستعمار الفرنسي كان حافزا لها ، جده الذي وجد نفسه مرمياً مهمشا بدون تعويض و لا منحة عندما استغنى الجيش عنه لأن زوجته توفيت في خريف 1961 ولم يكن لديه عائل غيرها لتربية أبنائه الثلاثة ، ولدين أحدهما أب صاحبنا و بنت (عمته) ولم تنفع شكواه إليهم في حاجته الاستفادة من منحة تساعده ، غير أنه لا حياة لمن تنادي. لكن عندما استقلّت البلاد توجّه كغيره من المجاهدين لتسجيل نفسه مجاهدا لكن القوم أنكروه ولم يشهد له أحدا غيرةً و حسداً لأنه كان من أصول بربرية فضلا أنه كان حينها شابا وسيما و قوي البنية فاضطر المسكين أن يغادر مع المغادرين على أن يقعد يبيع الخضر لأولئك الكلاب الحاسدين الذين استفادوا من مزايا المشاركة الإيجابية في الحرب أجورا شهرية و أراضٍ فلاحية فضلا عن الأوسمة و لم يستفد هو من شيء.

لم يكن حفيده ـ صاحبنا ـ معوزا قط اتجاه اللغة العربية حتى يذهب لدراستها في موطنه الأصلي الجزائر قادما إليها من حي العرب المسمى "باربيس" في عاصمة الجن و الملائكة ، بل إنها نصائح أبوه بالرغم من معارضة جده الشديدة ، نعم كأن صاحبنا ترعرع في البصرة أو صنعاء فهو كان أفصح من سحبان وائل لسانا و كثير الانشغال بأمر الإبداع العربي لأنه يكتبه نثرا و شعرا ببساطة لأنه ولد وسط المهاجرين السوريين و اللبنانيين الذين يقطنون الحي فتعلم منهم العربية و هو يبتغي المزيد إثر تفضيله للفرع الأدبي في الثانوية العامة ، هذا المزيد وجده في جامعة الجزائر قدرا من ربك كان مفعولا ولم يجده للأسف في الجامعة الفرنسية في بيروت و ولا في الجامعة الأمريكية في القاهرة ، حتى إذا تمّت مشيئته طابق بكالوريّته و ودع أبوه منصتا لنصائحه ثم حزم أمتعته باتجاه العاصمة الجزائر وماهي إلا شهور حتى بدا كل شيء ينقلب رأسا على عقب و كأنه مجتمع غريب عنه أشد الغرابة ، انقضت شهرين ولم يتأقلم ولم يتعلم من لهجة الجزائريين شيئا يذكر ، بل أنه صار موقفه مثل موقف الثعالبي في أهل زمانه أي في أن يتعلم تكسير اللغة مثلهم فتضيع فصاحته في أدراج الرياح! و لكنه عندما حلم أن يتفوق تفوق بيد أنه ما لبث أن أصبح قاب قوسين أو أدنى مصابا بالجنون ، نادما من اختياره للجزائر و صورة جده ماثلة أمامه لا تفارقه تتبعه في حسرته و ندمه. لأنه تيقن من أنه لابد أن ينتقد الجزائريين في لغتهم و أدبهم مثل الفقيه اللغوي الثعالبي تماما ، بل أن يحذر من مخالطتهم كثيرا حتى لا ينتكس لسانه ، لذلك ربّما ناصبوه العداء مثل ما حدث لأجدادهم مع جده!

فهو عندما أراد أن يختص في الأسلوبية في دراساته العليا اختص بها لكنه وقع في خطأ جسيم هو وصوله إلى درجة من النقد الموضوعي لآداب الجزائر شعرا و نثرا لا رجعة فيه ، معتقدا أنه على صواب فيما يفعل بل معتقدا أنه يقدم خدمة جليلة متصورا أنه يفعل مثل أساتذته الفرنسيون مع أدبهم القومي و بكل حرية! حتى جاءه في يوم من الأيام قرار الفصل من المجلة الحكومية التي كان موظفا فيها و التي كان ينشر مقالاته النقدية فيها و التهمة هي تسفيه نصوص فلان و علان بالتعرّض الجارح و الحاقد لتاريخهم الإبداعي ، يا ليت لو أنهم فصلوه بتهمة الخيانة أو العمالة و لكنهم فصلوه بتهمة النقد المغتر و اللا موضوعي!

و الواقع أن صاحبنا بدأ حقيقة في نشر عديد المقالات و البحوث التي تشرّح الأدب الجزائري أسلوبيا و تلك كانت زلته التي لم تغتفر أو قل كانت القشة التي قسمت ظهر البعير ، لأنه كان يعلم أنه يصعب اكتشاف السمات الأسلوبية في سرود الجزائريين ، بكل بساطة لأن شروط الدراسة الأسلوبية لا تنطبق على نصوصهم إلاّ فيما ندر أو قل أن أصحابها لم يتجاوزوا بعد ستين سنة استقلال إشكاليات إبداعاتهم باللغة العربية لعل أبرزها القصور اللغوي كما يفعل أكثر روائييهم شهرة في رواياته الأخيرة حيث يكتب الكلمة باللغة الدارجة أو المعربة ( بالمريسهم ) ثم يترجمها بالفرنسية في هامش الصفحة ( leurs palmarès ) ! ليت شعري فكيف حينها يكون روائيا أو شاعرا من لا يعرف لغته؟ بالتالي مهما بحث الباحث عند هؤلاء عن أسلوب مميز لغة و خطابا فلن يجده. إذن لا غنى لنصوصهم عن المناهج التي تجاري المضامين كالمناهج السياقية كالمنهج التاريخي مثلا أو المناهج الما بعد بنيوية كالنقد الثقافي مثلا ، أجل كان يعلم كل هذا و لم يهتدي إلا بعلم الأسلوب منهجا نقديا له ولم يعلم أن البلد تعاني من إشكالية عويصة يسميها النقاد إشكالية الهوية اللغوية الضائعة إلاّ بعد فوات الأوان. فضلا أن البلد بلد ينتمي لدول الجنوب ؛ فهو غير ديمقراطي بل مستبد و سلطوي مستمر بفضل مكاسب المحاصصات و الخدمات الذاتية المتبادلة بين حكامه و محكوميه من المتعصبين و النرجسيين.

بلى ، فقد جاء اليوم الذي رُفض فيه بحثه لنيل الدكتوراه بحجة ازدراء الأدب الجزائري و ليس هذا فقط بل جاءه استدعاء من المخابرات العامة كونه يحمل الجنسية الفرنسية. و عندما وصل المسكين إلى مقر الاستدعاء خرج عليه شخص في حلّته المدنية ولم يقدّم له حتى نفسه استفزازا و عنجهية و هو يقول بصوت ساخر :

ــ ألست أنت الشخص القائل في آخر مقالاتك بمجلة إنسانيات : « تتعامل الأسلوبية مع لغة النص وسيلة لفك رموز اللغة في النص بما ينعكس بشكل واضح على تحليل جوانب الإبداع فيه ، وعلاقتها بالمبدع ، خصوصية الإبداع في الظواهر اللغوية المستخدمة. ولما كانت لغة و أدب الجزائريين لا تستهوي علم الأسلوب إطلاقا بل لا يستسيغهما إلى درجة الغثيان و القيأ فإن .. »؟

ــ بلى أنا القائل و لكن لِما لا تكمل الفقرة يجب أن تكمــ..

ثم بزق الضابط على الأرض فنرفز السلوك كثيرا صاحبنا ثم واصل :

ــ أسكت يا كـ .. هل ال " immigré " أو الحَرْكي الكلب ابن الكلب يعرف شيئا اسمه الأدب !؟

ــ ماذا تقصد بال immigré ؟ و لكني جزائري كما ترى معرّب اللسان و باحث لدي ..

و لمّا عاود الضابط بصقه

لم يتمالك صاحبنا نفسه و نهض متغنّصا شادا قبضته من شدة الاحتقان فوجه لتوه لَكْمة قوية للضابط و كان ما كان بعدها من مآسي متصلة طالت صاحبنا ، فهو عِوَض أن يتخرج فقيها في اللغويات و الأدبيات تخرج كلبا بليغا و مفوها من مفرزة كلاب المخابرات الجزائرية بل عاودته هواجس التحري و بإعمال الذهن دونما توقف. و لأنه لديه أفكار و ذوق عالٍ في الموسيقى أقصد في الأدب يود تجسيدها! فمن لحظتها لم يغادر مصطلح "الكلب" و كل صغير و كبيرة عن كلب أو جرو فرانز كافكا فكر صاحبنا. بلى ، فهل يكون غير إنسان متحيوَن من لا يعترف بالحقيقة بل يتغاضى عنها في حقد و مكر ماضيا في سلوكه الحيواني ملتمسا الأكل و الشرب عن طريق تلفيق الأكاذيب و الأباطيل حتى تصبح جزء من هويته و حقيقته التاريخية؟ بل هل بإمكانه أن يكون غير كلب شبيها بكلب الرعاة أو كلب بوليس بهذا السلوك المعرفي المنحرف عندما ينتمي لِأجهزتها الأمنية عاملا بإخلاص و وفاء لأسياده يحرصهم و يتشمم كل الأخطار المحدقة بهم؟ فكم عددهم من استُكلبوا كمجتمع كلبي عادي موازٍ للمجتمع الكلبي الراقي السلُوقي ليقفوا مرابطين على تخوم بيوت الكلاب السلوقية و البوينترية و هي المفرزات الأمنية و الاستخبارتية المنتشرة هنا و هناك ، لعل صاحبنا واحد منهم . ثم زُوِجوا بالكلبات ليربُّوا أجريتهم على الإخلاص و الوفاء و فقط ؛ لا ناقة و لا جمل لهم في معرفة لماذا يدعون للأكل و العربدة بعد كل ليلة عسة أو يوم تحري؟

أجل بعد أن سِيق إلى مركز المخابرات حُكم صاحبنا محاكمة عرفية و صدرت في حقه " مأمورية كلبية " وهي أن يغير هويته من immigré جزائري حر و أصيل إلى جزائري لكن مكبوح ذهنيا أي جزائري رق قائم على راحة و أمن أسياده. و بدأوا بترويضه عن طريق الأشغال الشاقة و الجوع حتى يطّوعوه لاستقبال هويته الجديدة ثم يقومون بتعليمه بعدها بعض المهارات التي تجعله يدخل مفرزة الكلاب للعمل دون خوف الغدر أو الخيانة. ثم لمّا صادف استكلاب صاحبنا سنوات التسعينيات الدامية التي اختلط فيها الحابل بالنابل ، حين وصل فيها كل من حمل سلاحا إلى مرتبة السيد يفعل ما يشاء في من لا يثق بهم النظام شرط أن يحرص و يبيت يحرص بيقظة و نشاط. لذلك كم كان سهلا على رؤساء مفارز الكلاب أن يوظفون كلابا من أنواع غير سلوقية أو غير راقية حتى الأجرية كصاحبنا و تعليمهم كيف يحصلون على طعامهم و مأواهم إذا أوفوا إجمالا بثلاثة خصال الحراصة بيقظة و الاندفاع بقوة في حالة الغريب و ثالثتها حمل سْكانير الجيب في أي مكان وصلوه سواء كانوا مرتادين لزيهم النظامي أم لا ؟ أما في حالة افتقاده فقد علموا كيف يتجاوزون الموقف.

لقد كانت تدس في طعام صاحبنا و طعام جميع أنواع مجتمع الكلاب في مفرزاتهم ، من أدناها إلى أقصاها عقاقير كيمياوية تتسبب في فتح أوردة الأنف و توسيعها حتى تجعلها قادرة على شم الروائح الغريبة و المطلوبة عن بعد أميال و بكل ذكاء ، ففي حالة افتقاد جهاز سْكانير لا مناص من عمل الأنوف و تحسس الأيدي برفع الآذان و الذيل و إتقان إصدار النباح و العويل بأنواعه .. و هكذا دواليك استُرقت إنسانية صاحبنا نهائيا عام بعد آخر ، تارة في مفرزة الكلاب السلوقية في شرق العاصمة و تارة في مفرزة كلاب الويبت whippet في غرب العاصمة و طورا في مفرزة البْوينتَر جنوب العاصمة. هكذا كان عمله الدائب حتى تجاوز سن الشباب و صادف ذلك تحسن أحوال البلاد الأمنية فجردوه أخيرا من سلاحه الصناعي و جمعوا له بعض المال و ألبسوه لباسا مدنيا ثم قادوه إلى المطار ، أخيرا قرروا تسريحه غير أنهم نسيو تجريده من جهاز سْكانيره الذي كان بارعا في تعويضه بجهاز سْكانيره الطبيعي بشهادة السلوقي و البوينتر و الويبت معا.

ــ التعقيب : دلالات تناص قصتنا القصيرة مع قصة فرانز كافكا المطولة

لقد حاولت قصتنا تحقيقات كلب immigré مطاولة قصة فرانز كافكا في أبعادها التخييلية بغية إيجاد مداخل للتعالق الفني معها غير أن صورة البطل في " تحريات كلب " كان صورة جرو حقيقي يرمز إلى الكاتب كافكا نفسه ، في محاولته النظر للعالم برؤيته الخاصة و بتفلسف في حاجياته المادية و الروحية ، تلك الحاجيات التي كانت مُضيّق عليها تحت مطرقة الشيوعية و سندان النازية ، أما صورته في قصتنا فهي صورة إنسان و أي إنسان؟ إنه إنسان الصفوة الباحث الأكاديمي الذي يجد نفسه بين ليلة و ضحاها متحولةً إلى كلب دون القدرة على فعل أي شيء عدا العمل على إبطاء تحولها رويدا رويدا مختبرا ذاكرته القراءاتية تارة بالمطاوعة خشية قتله و تارة في محاولة التمويه المعتمد على الذكاء ؛ لأن سيقع في حالة متحرِّي و متحرَّى من إخلاصه و وفائه ، فيعمل على المواءمة بينهما لكنه إنسان و الإنسان ينسى و يفقد خصائصه النفسية تحت عوامل الزمن حتى وإن خرج لنا بتحرٍ وافٍ عن مجتمع الكلاب ذاك الجديد عليه ، الذي ما هو في الواقع إلا مجتمع المفرزات الأمنية المخلِصة لأنظمتها الاستبدادية بجميع أنواعها.

حيث مازال هناك أناس في الجزائر و كسائر الدول السلطوية يعيشون كالحيوانات بل هم أضل. كلاباً في مجتمع يقدر الكلاب مازالوا يخافون على مستقبلهم و أهاليهم من الانتقام المدروس بدقة ، و هذا ما حصل مع صاحبنا الذي ذهبت أمانيه أدراج الرياح في تلكم المجتمعات فقُبِض عليه متلبسا بتهمة النقد الأدبي الجاد و الهمة الواعية المنتقدة لأجل النهوض بأدب بلاده فلُقِّن درسا و عقابا خبيثين . و أخيرا و ليس آخرا و خوفا من القتل و البطش يرضى بِلعب دور الجرو في مفرزتهم و ليتحرى عن قرب مجتمعهم فرب صدفة خير من ألف ميعاد و وجه الشبه بين باحث و ناقد الأمس و كلب اليوم هو التنقيب بعزم لذلك ما فتئت عبارة الجرو كافكا تدور في خلده و تدور: « ينبغي للآباء ألا يتركوا أبناءهم ينطلقون متحررين ، من الأفضل لهم أن يعلموهم كيف يمسكون ألسنتهم و يوقرون الكبار » حتى اقتنع المسكين بعبث الأقدار و أن عليه الرضا بالدور المنوط به لعبه بهذه الحياة ، لكنه صعب عليه المسكين خروج من حالته تلك ؛ فحالة الشعور بالإحباط و الاغتراب أدخلته بحق و عن قناعة في مظاهر الكلبية المنظمة. و لأنه وجد نفسه قد شبّ عليها و من شبّ على شيء شاب عليه كما يقول المثل.

قصتنا القصيرة جدا هاته المتناصة مع قصة الروائي تشيكي فرانز كافكا Franz Kafka " تحقيقات أو تحريات كلب " التي نُشرت بعد وفاته العام 1931 في رمزيتها المصغرة التي تشير إلى ضغف الإنسان و محاولاته فهم عبثا لما يدور في مجتمعه و الكون من حوله ؛ رواية قصيرة تحكى على لسان كلب يحاول فهم الحياة ، خاصة فهم من أين يأتي غذاؤه و غذاء مجتمعه الكلبي ، طارحا كثيرا من الاحتمالات من وجهة نظر كلب لا يدري لماذا تجلب الطعام طقوس العواء و الرقص التي يؤديها مجتمع الكلاب. أما صاحبنا فعبثا يحاول هو الآخر عن جدوى البحث العلمي الموضوعي في مجال النقد و الأدب في مجتمع يقدر الكلاب اكثر من الباحثين بل يعمل على إخضاع أولئك لهؤلاء المحصور في بقعة ضيقة . على أساس من التناص بالتداعي الحر استرجع صاحبنا قصة الجرو المحقق في خطوطه العريضة و تمثلها في تحرياته في مجتمع بشر و يعيشون معيشة كلاب داخل ثكناتهم الاستخباراتية و الأمنية الشديدة الحرص على راحة موكيلهم ( كبار المسئولين في السلطة ) حتى وإن كان ذاك يبدأ تحرّيه من الغذاء في قوله : " أنا بضعة من لحمهم ، من لحمهم التعس ، دائم التجدد ، أزلي التوق ، غير اللحم و الدم ليسا فحسب ما يربطنا ، و إنما المعرفة كذلك ، ليست المعرفة وحدها ، و إنما مفتاحها أيضاً .. ما الذي أضافه البحث العلمي منذ بدأه آباؤنا الأوائل من أمور حاسمة الأهمية؟ مجرد تفاصيل و كم هي مثيرة للشك ، و لكن هذه القاعدة ستظل قائمة طالما بقينا كلابا "[1] وصولا إلى الحقائق المجردة بينما هذا يبدأها من العلم و البحث العلمي بغية الوصول إلى العيش الكريم.

أثبتت شخصية "صاحبنا " الذي لعب دور كلب مرغما ( ليس مجرد immigré ) بما لا يدع مجالا للشك أن رسالة الإنسان سامية هي البحث عن الخالق من خلال الانتقال من ما هم خاص ؛ البحث عن العلم و الشهادة العليا إلى ما هو عام ؛ النقد الموضوعي للسلطوية في بلده التي أصبحت منتنة نتيجة استفحالها طويلا ، اختلافه الشديد كمثقف واع ٍعمن حوله و لرفضه القبول بالإجابات السهلة الجاهزة المعلبة التي تبقي الحال عما هو عليه ؛ كما وصل إليه تحرّيه في الأول بحثا علميا أدبيا عن أدبهم ، فوجده أدبا جاهز و هش شكلا و مضمونا و بدون سوابق ثم استمر باحثا لاهوتيا و سياسيا مختفي تحت قناع جرو كافكا . فحقيقة الحقائق جميعها أن السلطوية في البلاد العربية صناعة مذهبية و دينية بالأساس و صاحبنا كان عربيا علمانيا إنسانيا يتفق مع الجزائريين في أغلب أخلاقهم الإسلامية التي تتقاطع مع الأخلاق التي يؤمن بها كالاحتشام و الشرف مثلاً و إلا ما كان ليختار الدراسة فيها. لكنه لا يتفق معهم في بعض مبادئهم القابلة للتأويل و التصويب كالإلحاح على عالمية الديانة و ازدراء الآخر و الحط من قيّمه و المغالاة في ذلك اجتماعيا و سياسيا و العنف و التنشئة القهرية الغير مراعية لإنسانية الإنسان ، جميع تلك أعطت الضوء الأخضر للأنظمة العربية المعاصرة و للأنظمة الدكتاتورية في أمريكا اللاتينية و شرق أوروبا موطن الكاتب كافكا تجريد محكوميهم من إنسانيتهم بجعلهم قطعانا من الحيوانات الوفية مثل الكلاب أعزكم الله ، على أن الإيمان بوجود الخالق حق لا اختلاف فيه ؛ فالنبي محمد في عز ضعف الآخر أو كما يسميهم الكفار كان يسأل ربه التخفيف و يسأل ربه تنزيل ما لا يضر البشر أي ما يُعقل فلا يكون محل صراع بين الناس و مذكور الدليل في القرآن و الأثر و السنة. فما بالك و الآخر اليوم هم من يحكمون العالم و يتحكمون في مصير المسلمين إذن لو عاد النبي محمد إلى عصرنا لا سأل ربه حتما تنزيلا جديدا يعدل بهِ التنزيل المثير للجدل بين المسلمين أنفسهم أو بين المسلمين وغيرهم من شعوب العالم ، و لا أَمَر أيضا بتأويل مختلف للآيات التي تحمل تأويلات متضارب حولها ، و استغلها السلفيون ، بل سيسُن قانونا مدنيا يحفظ للإنسان كرامته مهما كان ملحدا ، و الذي مفاده أن الله حق و الحق يعاد إلى أهله و المظلومين في الحياة الدنيا فائزين بالجنة في الحياة الأخرى لا محال و يكون ذلك بنزع الحسنات من المعتدين و ردها للمظلومين و لو كانوا كفارا غير مسلمين.

سنجد من أولئك المظلومين حتما في الجزائر نقادا وأدباءا مميزين لكنهم مهمشين مستبعدين ظلما و جورا بحجج ظالمة استبدادية و هي جنوحهم العبثي و اللا أخلاقي و ذائقتهم الأدبية التي تتيح لهم تصنيف مستوى الأدب الجزائري بكل علمية و موضوعية و تضعه في مرتبته الأليق به عربيا دون مبالاغات و لا عصبيات و لا نرجسيات وهي مؤخرة الترتيب ؛ ذلك أن تعدي و عبث واسيني الأعرج في رواية " أصابع لوليتا " ليست كعبث نجيب محفوظ في روايته " أولاد حارتنا " لأن العرب المشارقة يملكون ناصية اللغة و متحكمين في فنونها بل متلاعبين بها وتاريخيا على مستويات رفيعة بلاغية و بيان و انزياح ، و بها يتجاوزن عن كل عبث و مس بالأخلاق العامة ، فلو عاد الرسول (ص) لَنزع بردته ثانية و ألبسها لنجيب محفوظ و لأمر بمعاقبة الأعرج لإن مستوى إبداعه لم يغطي على عبثه ، و لتقريب المعنى أكثر هاكم شاهدا لِناقد في مستوى الباحث الأكاديمي الجزائري لكنه غير فاهم معنى الأسلوبية و الانزياح فهما صحيحا ، همُّه كل همُّه التنظير المغلوط الغير مفرق بين الانزياح على المستوى التواصلي و الانزياح على المستوى الأدبي للتغطية على عجز المخيلة الإبداعية و اللغوية عندهم حين يقول : « .. و الجمالي المضمن فيه ( يتحدث عن الانزياح ) الإبلاغ ، و التطلع إلى إحداث الأثر المرغوب في المتلقي ، و انفتاح النص على تعدد القراءات و دوامها ليستمر التأثير على مر الأزمنة ، وهي رغبة لا يحققها المبدع إذا التزم بقوانين اللغة و نظمها التزاما حرفيا لقصورها أن تفي بحاجته ، و قصوره على أن يلم بكل معطياتها ، فالانزياح من هذا المنظور وسيلة تمكن من تجاوز هذا القصور المزدوج ..»[2]

و قد سبقت تحريات كلب كافكا ( الغير مسلم ) بقرن من الزمن تحريات الكلب ال immigré حين وصل إلى أن « الكلاب التي لا ترد على تحية كلاب أخرى ترتكب من الإساءة إلى الأخلاق الحميدة ما يتساوى في عدم اغتفاره أدنى الكلاب و عظيمها »[3] و ما بالك بتحريات بني البشر عن بني البشر، و في ذلك وحده عبرة لأولي الألباب.


[1] - فرانز كافكا : تحريات كلب ، الأهلية للنشر والتوزيع ، ط1 ، عمان الأردن 2015 ، ص33.
[2] - رشيد عبد الخالق : انزياحية الحدث الأسلوبي بين التأصيل اللغوي و مرجعية النص ، مجلة إنسانيات ، الجزائر ، عدد سبتمبر 2013 ، ص2.
[3] - فرانز كافكا : تحريات كلب ، ص26.

























التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة