الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن الرأسمالية الشريفة

علي دريوسي

2019 / 9 / 28
الادب والفن


وصلتني ذات يوم رسالة ورقية من صديقِ لي كان قد هاجر إلى الدنمارك. كنت في العشرين من عمري ولا أزال في سوريا بعد. يومها لفتت انتباهي جملة "الرأسمالية الغربية شريفة" كان قد كتبها الصديق في الرسالة، وأوضح ما يعنيه من خلال مثال بسيط عن آلية البيع والشراء والتعامل التجاري والثقة المتبادلة بين البائع والمستهلك. كتب على ما أذكر بأن الإنسان قد يشتري صحن بيض ينبغي أن يحتوي على عشر بيضات، يدفع الثمن كاملاً حتى لوكان مثلاً ثلاث عشرة ليرة وسبعة قروش، في البيت قد يكتشف الزبون أن الصحن يحتوي فقط على تسع بيضات وقد يحدث أن يستهلك منه بيضة أو أكثر ومع هذا يدّعي أن الصحن ناقص، ولهذا السبب يحق له إعادة ما اشتراه، وعلى البائع أن يثق به ويسترد البضاعة منه ويعيد له نقوده - مجرد رؤية الفاتورة - دون نقاش.

بعد تلك الرسالة بسنوات قليلة سافرت إلى ألمانيا وتعرَّفت على الآلية التجارية لعمل الرأسمالية الغربية الشريفة، هناك أدهشني هذا النظام المتطوّر وما برح يدهشني بقدرته الشفّافة على تجديد نفسه وتجديد المجتمع الذي يسبح في فلكه. لكني - وللأمانة - بقيت إلى اليوم مؤمناً بقضية الصراع الطبقي في البلدان الخفيفة ذات الطابع الزراعي والخدماتي ومدافعاً شرساً عن ضرورة الثورة على شريحة البرجوازية البيروقراطية والطفيلية، المتفسخة أخلاقياً والمتعفنة معرفياً.

حين علمت - مع بدايات الألفية الثالثة - عن نشوء تجمع لمناهضة العولمة في سوريا تحت اسم "البديل"، قوامه حوالي عشرة أشخاص يرأسهم شخص عسكري بسيط بالمعرفة والخبرة وسجين سياسي سابق، حينها لم أستطع أن أتمالك نفسي فسقطت أرضاً من شدة الضحك، وقلت جملتي الشهيرة: "يا لسخرية القدر، العسكري الفقير يريد مناهضة العولمة!"

ذهبت البارحة إلى مكتبي في الجامعة. هناك اكتشفت بأن آلة صنع القهوة خاصيتي قد صارت قديمة ومملة. ولأن يوم الأثنين - نهاية هذا الشهر - سيبدأ الدوام الجامعي وستبدأ المحاضرات، قرَّرت صباح هذا اليوم الذهاب إلى أحد المحلات لبيع القطع الكهربائية لشراء آلة جديدة، بعد أن غوغلت إنترنيتياً عن العروض المتوفرة والمناسبة لمكتب جامعي. في المحل اشتريت آلة لطبخ القهوة، صغيرة الحجم وسهلة الاستعمال، من ماركة "نسكافيه دولتشي غوستو" بعد أن تم تنزيل سعرها بنسبة 70%. هذه الآلة مصممة في الحقيقة بطرقة عصرية رشيقة وجميلة واقتصادية، ويمكن استخدامها بكبسة زر لصنع أنواع عديدة من القهوة والمشروبات الشبيهة وبمذاق رائع وطيب.

دفعت ثمن الآلة حوالي أربعين يورو، عدت إلى المكتب مباشرة وهناك فتحت علبة التغليف الكرتونية لأجد في داخلها - كما في داخل كل علبة - دليل التشغيل ومعه كوبوني شراء كهدية بقيمة أربعين يورو. ابتسمت راضياً وصرفت الكوبونين أون لاين مباشرة واشتريت بقيمتهما تسع علب من كبسولات القهوة بأنواع متعددة، أي حوالي 120 كبسولة، أي 120 فنجان قهوة كبير، هذا يعني أنني ساشرب القهوة لمدة أربعة أشهر مجاناً، دون مقابل. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن تكلفة فنجان القهوة من ماكنات الشوارع أو ماكنات الأبنية الحكومية أو القطاع الخاص حوالي واحد يورو على الأقل، فهذا يعني أنني وفرت على نفسي مبلغاً وقدرة 120 يورو.

والأنكى من هذا هو أن للآلة كفالة/ضمانة لمدة سنتين، فهذا يعني أن للمستهلك (الرخيص) الحق بإرجاع الآلة متى شاء - كما له الحق بإرجاع صحن البيض الناقص حتى لو لم يكن في الحقيقة ناقصاً - وشراء آلة جديدة والحصول على كبونات جديدة وشراء كبسولات قهوة وشرب فناجين القهوة مجاناً وهكذا دواليك إلى آخر العمر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بايدن عن أدائه في المناظرة: كدت أغفو على المسرح بسبب السفر


.. فيلم ولاد رزق 3 يحقق أعلى إيرادات في تاريخ السينما المصرية




.. مصدر مطلع لإكسترا نيوز: محمد جبران وزيرا للعمل وأحمد هنو وزي


.. حمزة نمرة: أعشق الموسيقى الأمازيغية ومتشوق للمشاركة بمهرجان




.. بعد حفل راغب علامة، الرئيس التونسي ينتقد مستوى المهرجانات ال