الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة- نهدان على الضفة الأخرى

كمال غبريال
كاتب سياسي وروائي

(Kamal Ghobrial)

2019 / 9 / 29
الادب والفن


كادت الرائحة تتلاشى. تندس. تهجع في سراديب الخواء الأخطبوطية الملتفة حول الامتداد، إلى اللانهاية القابعة هناك ‏خلف خط الأفق الأصم. . أيضاً أشباح الدخان الأسود المنفلتة من كاوتشوك الإطارات المهترئة، عديمة العيون، بشعة التكوين، ‏تتهاوى ذراتها منتحرة على زجاج الأبواب المغلقة والبربريزين الأمامي والخلفي. . لابد تتراكم أيضاً على البدن الحليبي اللون ‏للسكودا الصغيرة العتيقة. . هل انتبه لغطاء المحرك وقد امتقع هو أيضاً، في شحوب رمادي محتقن، واستحالت حبات الندى ‏الصباحية المنتشرة على سطحه، إلى بثرات سوداء متقيحة، وخطوط كنزيف ينحدر على صفحة القدر؟
يتصاعد الآن زئير الجنوط المعدنية، وهي تحرث في دورانها القسري جسد الأسفلت، المطروح إلى مرمى النظر كظلال أطواد ‏من كآبة. . يقتحم الزئير خلايا جسده، يندفع الدم إلى رأسه ساخناً. يتمدد ويتمدد. تماماً قبل نقطة الانفجار. . دفع بدواسة البنزين ‏إلى أقصى مداها. ترتج. تتعثر، لكنها مازالت تزحف. . يجأر المحرك. الصرير الرهيب ينخر أذنيه، وينحر الصخور المدفونة في ‏ركام القار المتيبس من عصور تعب الزمان من حصرها.‏
كانت أصابع يدية تعتصر عجلة القيادة النحيلة في تشنجات هستيرية، وهو منكفئ للأمام، كأنما ليدفع بعروق ذراعيه ‏وزنديه النافرة، وبإحكام انضغاط فكية، المطبقين على لسانه المعقوف كعلامة استفهام، بتلك السيارة اللعينة، بضع أمتار إضافية، ‏ولم تزل بعد قادرة على الحركة، ولكن إلى أين؟
قالت: سأنتظرك على الضفة الأخرى.‏
وأقسمت بنهديها المبللين بالندى كما في غبشة الفجر. . ذلك حين كان يعتصر بأصابعه الجافة أحدهما، بينما ارتاح صدره على ‏الآخر، لينصت لنبض الدماء الدافئة في شرايينه.‏
قالت: هناك حقاً أستطيع أن ألقاك. ملء قلبي أمل وحزن ونقمة.‏
قالت: سأغتسل هناك على الضفة. سأغوص أيضاً لبعض الوقت.‏
قالت: لحظة أن تصل ستجدني بانتظارك، مرسلة الشعر، حرة وخفيفة كما كانت جدتي حواء، بعد أن تعدت الخط الأحمر، ضاربة ‏بالوصية عرض الحائط، وعرفت طريقها نحو السعادة.‏
قال: . . . . . .‏
لم ترد أن تسمع، ولم تقبل النقاش.‏
كان الهواء قد هرب من إطارات السيارة الأربعة، ثم تآكل المطاط. تبخر. احترق. تصاعد في تشكيلات خرافية. تتلوى. ترقص ‏على أنغام الصخب المتفجر، تنقض على بدن السيارة العتيق، تتسرب من الثقوب المدسوسة في الرقع الصدئة، تلتف حول تروس ‏الجر لتصيبها بالخدر. . داهمته أيضاً بضراوة، لكنه لسبب ما مازال متماسكاً. . يزداد إصراراً على التشبث بالدركسيون، يضغط ‏ويضغط على دواسة البنزين، التي كانت الآن قد تحجرت. . عشرون متراً أخرى قطعها نحراً في الطريق. . تعجب بغل كيف لم ‏يتوقف حتى الآن، تساءل إن كانت السيارة قد صارت عاجزة حتى عن التوقف. . لم يدر بخلده أن يفتح الباب. يقفز. ينجو من ذاك ‏الحصار. . لو حاول قد لا يفلح. . تصلبت أطرافه، فقدت فقرات رقبته مرونتها. تحجرت عيناه المصوبتان لأفق دامس، يفحص ‏اللاشيء المحتقن بفزع سرطاني وغامض، وينشب أظافره في كل العيون المحتمل حملقتها. . لم يسأل نفسه إن كانت هي من ‏فرضت عليه تلك الرحلة، أم أنها أقدار نسجناها جميعاً لتأسرنا؟
هل هو خدر العقل، أم شلله؟ لم تكن ثمة فرصة للتساؤل.‏
كان يتقدم نحو الجسر، الذي لم يكن قد دمر تماماً بعد. . تخيل نسيم النهر الرطب يلفح وجهه، يجفف قطرات العرق النازفة ‏على عنقه المعروق. . بقايا رائحة المطاط المحترق ماتزال عالقة بأهداب ذرات الغبار المهتاجة، تلك التي تسللت من فتحات ‏التهوية. . قطعت عليه الطريق، أعادته سريعاً إلى الحصار. . كان صوت الانفجار بعد ذلك واضحاً، متميزاً عن أنغام الضجيج ‏المتلاطمة. . استطاع للمرة الأولى أن يلتفت إلى جوقة القديسين المكدسة خلفه بالسيارة، يفغرون أفواههم في بلاهة وهلع.‏
الجسر. انتهى الآن تماماً. . ستظل هناك وحدها إذن في انتظاره. . سينفجر نهداها المشحونان بالأشواق. . ستطيح بشعرها ‏الرياح، وهي تجري حافية تنادي على الغائب. تبحث عن عشقها المُهدر، فيتكسر تحت قدميها العشب، والوصايا العشر. . جرب أن ‏يفتح فمه، تمنى أن يبصق من النافذة، عليه أولاً أن ينجح في فتحها. . هوذا رذاذ النهر يندفع محملاً بذرات حطام ذاك الجسر ‏الموعود. . لابد وأنه قد سأل نفسه، لما لم ينتبه لركام القداسة خلفه طوال كل تلك المدة، وهو يسائلهم بعينيه، ماذا أنتم فاعلون ‏الآن؟
يبدو أن الطريق قد صار منحدراً نحو النهر والجسر الذي كان. . يندفع الآن، رغم أن قعقعة الإطارات الجرداء كانت دوياً، ‏كرعشة جدار من فولاذ.. هل استرخت أعصابه، واستعاد حواسه؟ حين بدأ يشعر بدوامة الجزع التي تدور بهم. تدمدم. . ‏يهمهمون. تعصف. . يستطيرون. . بحركة لا إرادية امتدت يده إلى زر في التابلوه.. انفتح البابان الخلفيان. . أفرغ السيارة من ‏حمولتها المقدسة. . انطلق خفيفاً، يرقص رقصة الموت، قبل أن يدخل بتابوته المعدني إلى مقره الأخير. ‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أسيل مسعود تبهر العالم بصوتها وتحمل الموسيقى من سوريا إلى إس


.. فنانو الشارع يُحوِّلون العاصمة الإسبانية مدريد إلى رواق للفن




.. كريم السبكى: اشتغلنا على فيلم شقو 3 سنوات


.. رواية باسم خندقجي طلعت قدام عين إسرائيل ولم يعرفوها.. شقيقته




.. كلمة أخيرة - قصة نجاح سيدة مصرية.. شيرين قدرت تخطي صعوبات ال