الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفعل .. بستان

صباح محسن جاسم

2006 / 5 / 18
الادب والفن


لفت انتباهي إصراره وقوة إرادته. رغم كونه أستاذا للعلوم غير أن اهتماماته قد فاقت تخصصه . يتحدث عن فن الرسم والموسيقى والرياضة والزراعة وعن عالم مفترض وسعادة متخيلة وعواطف رقمية ومستقبل استقى اضاءاته زمن المسيح عليه السلام. ما كان يحكي لنا عنه ويشدنا إليه فاق كل تصوراتنا نحن طلبته العابثين.
صبيحة ذلك اليوم الربيعي حين يكون للهواء والماء مذاقهما المميز والخاص ، جمعنا أحد الدروس الشاغرة ومضى كعادته يحدثنا عن واقعنا المؤلم وعن جيوش أسقطت أعتى دكتاتورية وأسوأ نظام وعن ما سيخلف ذلك من تسيّب وفراغ ومشاكل ستقظ لنا مضاجعنا وتزيد من وجعنا وما سيترتب على ذلك من خراب.
نصحنا محاولا التخفيف من حدة الكلام كيف بأمكاننا تجاوز المحن مؤكدا أن أقل فعل يمكننا تأديته سيساهم في التخفيف عن كاهلنا وهو ما سندركه لاحقا في خطواتنا الأولى والمهمة في الطريق تجاه حياتنا ومستقبلنا.
بدا فيلسوفا وهو يحاضر ببساطة عن قوة الفعل مهما صغر وسط الجماعة وكيف علينا أن نكتشف سحر هذه الكلمة المشعة – التعاون-.
ختم حديثه مقترحا أن يساهم كل منا بقدر ما يستطيع لأحياء حديقة كليتنا.
" نحرث ما نقدر عليه ونبذر ونزرع المتوفر من الخضار والشجيرات"، ثم يرفع قطعة الطبشور بين أصابعه الطويلة نسبيا مواصلا": " لا ضير حتى من زراعة شجرة واحدة وبذرة خضار واحدة".
فوجئنا بعد انتهاء المحاضرة وجلوسنا في نادي الكلية نحتسي الشاي ، أستاذ فالح مشمرا عن ساعديه ممسكا وتد – مسحاته- الخشبي بقوة وقدماه تنغرزان في تربة الأرض المحروثة توا.
البعض منا تبسم ممتنا لمثل ذلك العزم الذي لدى أستاذنا وفكر بما يمكن المساهمة فيه.
هرع اثنان من زملائنا يزيلان بعض الأدغال اليابسة فيما راح آخران يتناوبان واستاذهما الفلاح مما حفز آخرين المشاركة في تلك المغامرة.
كذلك كانت البداية.
في البيت فكرت بمساهمتي والشجرة التي سأختارها. جاءني الجواب سريعا كأنما تستصرخني نخلتنا الوحيدة التي لم يحن أوان نضوجها بعد حتى اعرف نوعية الثمار التي ساجنيها ، وكثافة فسائلها التي حفّت بها كأفراخ تلثغ الحليب.
صباح اليوم التالي كنت احمل معي فسيلتي لأزرعها في الساقية التي شذبها أستاذنا. زادني فرحا ما فكر به زملائي.. معضمهم قد جلب معه شجرة صغيرة وبعضهم من الطالبات فضّل شجيرات ورد.
توزعت الشجيرات بأنواعها في محيط حديقة الكلية. الجميع بدا عليه الارتياح عدا – سامي- الذي بدا كئيبا بسبب شجرته التي جلبها دون أن يعرف نوعها. عقب –سعيد- ضاحكا : يا لها من شجرة غـَرَب رائعة!
بيد أن أستاذ فلاح سرعان ما تدارك الأمر فدافع مشجعا منبها إلى جمال الشجرة وما تحمله أوراقها الخاصة الراقصة من عطر يضوع قبل الغروب وبعده وهواء جوها المحيط المنعش. ومن ثم مضى مؤكدا أن كل نبات مفيد إذا ما أحسن استعماله.
بعد تخرجنا لا أخفي كيف تحولت حديقة كليتنا إلى بستان يزهو بوروده الملونة وخضرة أشجاره الوارفة.
لفتنا الحياة بجلباب حروبها البالي وشح علينا الزمن في اللقاء في بستان كليتنا ، وشاءت الصدف أن أعاود زيارة كليتي طلبا لكتاب تأييد. وقد حز في نفسي أن تسوء حالة نخلتنا الأم في بيتنا حتى ذبلت وماتت دون أن أعرف سببا لموتها. كنا قد وزعنا فسائلها دون أن نلحق معرفة نوعية ثمار الأم عملا بنصيحة والدي الذي لم ينقطع عن نصحنا: اقتدوا بنبينا المصطفى ، صلى الله عليه وسلم، إذ يذكر( إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها).
كم كانت فرحتي عظيمة حين دلفت إلى حديقة كليّتنا لأفاجأ بأشجارها الكثيفة وقد قويت سيقانها وتشابكت أغصانها. كانت نخلتي ناهضة بحجمها رغم ما تزال فتية الآ أن ما زاد من فرحتي حملها البكر. فكرت حينها إن نخلة دارنا لم تمت فعلا .
جلست تحت ظل شجرة وارفة متأملا أوراقها الراقصة المرحبة وشعور بالاعتداد يملأني تشوبه دهشة خاصة وما تمكنا من فعله نحن الطلبة البسطاء الأبرياء. شعور استثنائي شدني إلى أني اجلس عند ذات شجرة الغـَرَب التي زرعها- عماد- صديقنا الحميم.
ما زاد من متعتي اني بدأت أسمي الأشجار بأسماء صحبي واصدقائي الذين بادروا بزراعتها.
سألت بفضول عن من سيقوم بتلقيح نخلتي؟
أجابني موظف التسجيل بسرعة:
- أستاذ (ساطع) هو من تبنى مهمة رعاية الحديقة بعد غياب استاذ –فالح-.
- غياب؟!!
التفتّ فلم ألحق محدثي الذي على ما يبدو قد فضّل الأكتفاء بذلك القدر من اسئلتي فقفل عائدا دونما رغبة لإحراجي بأقسى ما توقعت سماعي له من أجوبة!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل