الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لقائي الوحيد مع الشاعر -طارق ياسين

سلام إبراهيم
روائي

(Salam Ibrahim)

2019 / 10 / 1
الادب والفن



كتب صديقي الشاعر علي الشباني قبل عشرين عاماً "وَهْمٌ أن يكتب عن شاعر.. تلك مهمته الأولى" ووجدتُ أن هذه المقولة أبلغ ما يُقال عن المحتشد بالكلمات، الساكن ظلالها، المسافر على أجنحتها، الغافي لصق امتدادها المبسوطة، المصلوب مع تلوي أطوالها، المتلظي ببراكينها المضطربة أبداً في أعماقه، هو سيدها وعبدها، هو الشاعر بوحشة أبدية في مواجهة الوجود والإنسان، الكون والشجرة، الموت والميلاد، هو المحاصر، الضائع:
بس تتلمس الحيطان، ما تعرف أمنين تفوت
..
شكثر رغباتك أمنين تفوت
والدنيه أشكصفها
محتشداً، ووحيداً، ممعناً في عزلته، متنافراً مع المحيط، يغزل روح الكلمات الضاجة في أحتدم الروح المغتربة:
لو كثرن حياطين الضجر والملل
شوف بعينك الدنيا بغمج صحرا.
وأعبر وحدك!
يبدو أنني أيضاً تناسيت نصيحة صديقي الشاعر فاستدرجتني اللعبة الممتعة، لعبة الكتابة عن شاعر وتقليب أبياته المضيئة برماد الشرح والتعليق. إنها لعبة مغرية تستهوي كل مولع بالشعر والكتابة، مولع بشؤون الروح والجروح. إنها كلمات الشاعر ذهب روحه المضيء وهي وحدها المفخورة في أتون روحه، الطالعة بحروف من نار وماء تسقي وتضيء تراب الأمكنة والإنسان:
"طلعنه من نهار البارحة متيهين
معنى الشمس واليوم وظلال الناس
طلعنه من نهار الألم، والحايط ألم
جزعان من ظله
وبين وجوهنا وخط الشمس نافوره متعطلة
أوجه طفله
مثل مي حوضها الراكد
وشعرها يضوي بالشارع
مشت خطوة عكس مجرى الهوه..،
وداست أسامينه
وقدمها ترصّع بروحي
ونظرتها الزغيره انحنت فوكـ المي
وتحرك تحت نظرتها وجه المي
لكت بالمي أسامينه".
أنا الآن في صيف 1974، في الساحة المسفلتة المسيجة بحدود كازينوا بغداد المطلة على شارع "أبو نؤاس" ونهر دجلة. في أول المساء، أجلس جوار علي الشباني، نخوض في غمار بهجة الشعر والفكر، مواصلين حواراً لا ينتهي يمتد عبر الليالي حتى خيوط الفجر الأولى، عن اليسار والماركسية، الوجودية، رامبو، بودلير، سارتر، أليوت، السياب، باوند، والأشعار العامية العراقية الجديدة. كنا نستعد لسهرة المساء التي ستحتدم بالحوارات الفكرية والأدبية لتنتهي بالقراءات الشعرية والغناء. سيحضر بعد قليل الشاعر الصديق عزيز سماوي، والرسام نايف السامرائي، والنحات منقذ شريدة وآخرون. كنا أول الحضور فليس لنا بيت في بغداد، فعلي كان قادماً من الديوانية في إجازة وكنت أسكن في القسم الداخلي الكريه لطلبة الجامعة. وكان الشباني يسمعني آخر قصائده:
"وج الخضار بغصن عمري.. ولبست الريح
متعني روحي نهر
شال النبع طيره
ثلهث بكل الجنح
والوطن عش محتركـ
وأنه الزغر عافني
نخله على جرف العشكـ"
فيما كنتُ أنصت لمحته قادماً بقميصه الأبيض الفضفاض،،،، وبسمته المرتبكة، قطع "علي" قصيدته وهب من مكانه لمعانقة الرجل ثم التفت إيّ قائلاً:
ـ الشاعر طارق ياسين
ارتبكت.. اربكني حضوره المفاجئ. وجرفني في تلك اللحظة بأناة نحو عالمه بأحاسيسه وكائناته، حبه وحزنه، وحيوات قصائده الحية في روحي المتدلهه بأشعاره المنشورة في ديوان "خطوات على الماء" وفي صحيفة الراصد الأسبوعية، حدقته ساهماً، سارحاً مع قطار الألم، زينب، التعب، لا خبر. صافحته بإنشداه وود وكأنني اعرفه منذ الطفولة. صافحت الكف، الدافئة المعروقة متخيلاً لحظة تكورها حول استدارة القلم:
"موج البر حبيبي
وروحي محفوره
أبجامه مشجّره ع الباب
حبيبي بالوصف مليان"
جلس قبالتي إلى جانب علي وراح يتكلم بخفوت أول الأمر ثم تقارب رأسيهما وراحا يهمسان بما لا أدريه. كنت شارداً في براري عالميهما الفسيحين، في الحيوات والكلمات بأحاسيسها وهي تشكل الصورة والمعني المكثف الذي يفضي إلى حكمة ما أو حكاية. كنت شارداً محتدماً بالمخيلة تحت ضوء مصباح الشارع خلف طاولتنا. كنت كما العرب القدامى أفكر في شيطان طارق ياسين الشعري الذي أملى عليه "وضوح أول المنشورة في جزيرة الراصد في عددها 127 في 9/7/1972، كنت أراه محاطاً بهالة ضوء تعشي العيون غارقاً بزهر البنفسج المرتوي بدموع طفلة:
"يمكن فيْ أصابعها يوّعينه
ودمعها البارد يغذي البنفسج"
شارداً أتلمس الفراغ القاحل في الزمن، والأمكنة والجام المكسور، وعثرة الحصان خلف السور، والصوت والحائط السومري المفلش، وكل مكونات الوضوح الأول كمن أراه يهمس بأذن صديقنا الجالس بيني وبينه بلازمة القصيدة المهداة له:
"طلعنه من هواهم يا "علي" مشيبين
صدكـ كل هذا التشوفه فراغ.. سنين"
مضت الجلسة القصيرة وأنا في أنشداه وشرود، فبدلا من سماع ما يفوه به طارق كنت مخدراً بمطر الأمكنة والمعاني والأحاسيس المشيدة عالمه الشعري الآسر الذي تمكن مني فحفظت قصائده عن ظهر قلب، لم أسمع كنت مع طفله الضائع ونافورته المتعطلة:
"أحاجي طفل ضايع يوكف أكبالك
عيونه مرايه معكوسه على أحوالك
بركه
وعطفك بعينه اللي تدمع يكف نافوره
ضحكتك خبزه مكسوره
وجتف يحمل دوار الشارع وظله
رسمت الألم بوابه وفتت منه
أسمعت صوت الخبز بالجسد يتكسر"
كيف لا أصاب بالشرود، وأنا المتفتح منذ فترة وجيزة على الثقافة ومثل التحرر والمقموع بالزواجر والقوانين، الضائق بكل المعاني، المتلظي بصروف الحرمانات والمحتدم بالفكر والحب وهاجس الحرية المستحيلة في وطن كان يسير نحو طوفان دم، وأنت يا طارق استشرقته في قصيدتك الرائعة المبهرة "حلم"
"فريت المدينة بليل
فريت المدينة وخبطت ع البوب
كتلهم إجتي الريح"
كيف انصت لشؤون يوم الشاعر وتفاصيله في لقاء أول، كيف لي وكلماته ترن بأرجاء نفسي مثقلة بالمعاني والأسئلة، مصفوفة تحتقر العابر واليومي والزائل، تائقة إلى المطلق المستحيل:
"العالم حبسني أشما كلت واسع
أقره الناس أملهم.. من قبل ما أحجي وياهم
وأمل روحي
أقره الملل بالكهوه"
المعجون بالآخر المحب العارف، الفاهم، المقدر أسرار المحبة:
"تشبهني وأشبهك والشبه ثاني وضوح
أو وضوحي أو وضوحك
وصخرتك نحت بيها الزمن والتيار
أكف بين الصدى والصوت
حايط سومري مفلش
وأخط فوكه هوه جروحي"
لم أصح إلا حين رأيته ينهض من كرسيه، بوغتُ، وهببت من مكاني، وتشبثت به بشكل مخجل أربكه، ألححت.. ألححتُ عليه ليبقى. كنت أريد الوثوق من كينونة الشاعر، كنت أود أن أسمعه ينشد أشعاره، لكنه أعتذر بأدب جم لارتباطه بموعد. غادر المقهى بعد أن وعدني بلقاء قريب. ظللت أحلم به أبداً، وأنا أراه يعبر وحدته وحيداً في قصيدته "أعبر وحدك":
"تتذكر كتابات الفجر تضحك على الحيطان
تتأملها تتذكر حياتك من وره الأفكار والدخان
إتْغَربتْ ذكرياتك بيك، حفرت نهر أيامك
من تنسه أوله يموت أبعدها
من تذكرها لأحد، ينسه أسعدها
حبك.. حجيك.. آلامك
أخذو صمتك وراحو ردوه إلك صديان
جنهم حجوا بالدخان
وتْوضحْ كلام الفجر وحده
أتوخرت عنه مسافة آخر الحيطان
عديت الشوارع ورجعت تعبان
صح عديتهن.. لو بالعدد غلطان
شعلت أثنين وثلاثين ليلة بالسره بذهنك
خفيه أنتظر عيدك
وأتلمس ضواها بذكريات إيدك
مثل الطير تتنفس كبل ما تموت،.. من تنطبع ع الحيطان
أرسم ع الورق زنجيه نص الليل، عليها كلايد المرجان
وأختل جوه إبطْها وانجوي بخدها
حط راسك بحضني وموت
بس تتلمس الحيطان، ما تعرف منين تفوت
لو كثرن حياطين الضجر والملل
شوف بعينك الدنيا ابغمج صحرا
واعبر وحدك الوحده.

1994
الدنمارك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصور
1- الشاعر طارق ياسين 1934-1975
2- 1974 جواري في بار بالسعدون الشاعر علي الشباني (1946-2011)، في ظهيرة اللقاء بطارق
3- الشاعر عزيز السماوي 1944-2001
*هذا الموضوع نشر في جريدة الوفاق التي كانت تصدر في لندن 1994 وهي من صحف المعارضة العراقية وقتها








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أحمد عز يقترب من انتهاء تصوير فيلم -فرقة الموت- ويدخل غرف ال


.. كلمة أخيرة - الروايات التاريخية هل لازم تعرض التاريخ بدقة؟..




.. تفاعلكم الحلقة كاملة | حوار مع الكاتب السعودي أسامة المسلم و


.. تفاعلكم | الناقد طارق الشناوي يرد على القضية المرفوعة ضده من




.. ياسمين سمير: كواليس دواعى السفر كلها لطيفة.. وأمير عيد فنان