الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرواية ضد التأريخي

سامي البدري
روائي وكاتب

(Sami Al-badri)

2019 / 10 / 2
الادب والفن


الرواية ضد التأريخي



ثمة مقولة مفادها، أن الإنسان يتحول إلى الشكل أو الصيغة التي يتصورها الآخرون عنه.. وبغض النظر عما إذا كان يوليوس قيصر هو قائلها أو غيره (رغم إن كان هو صاحبها فإنها ستكتسب وقع رجاحة أكبر) فإنها ستقودنا لمواجهة حقيقة هيمنة التأريخي على وجودنا، وإن ما ندفع ثمنه اليوم من مساحة صيغتنا الفطرية، يأتي بسبب ضغط مفاعيل العملية التأريخية أو غلبة التأريخي على الوجودي في حياتنا المعاصرة.
وهذه الغلبة، تتجسد في عملية إنصياعنا اللا شعوري أو اللا واعي لتصورات الآخرين عن شخصياتنا، بحكم تنازلاتنا أمام ما يصطلح عليه بالعرف أو مقتضيات الحياة العامة، وأحيانا مجاراة حالة التطور التي فرضتها عجلة الحضارة الحديثة، وأخرى من أجل أن لا نبدو شاذين في نظر المجموع الإجتماعي.
والمشكلة هي ليست في عملية التحول هذه بحد ذاتها، وإنما في ما نفقده أو نجبر على التخلي عنه أثناء عملية التحول تلك. فعملية التحول هذه تعني التخلي عن صبغتنا الأولى والإنسلاخ عن (جلدها) الذي منحنا خصوصيتنا الفردية، في كوننا كيانات لا تستطيع أن تعبّر عن نفسها وعن وجودها إلا عن طريق خصوصية كيانها، وتفرّد شخصية هذا الكيان وإستقلالية تفكيره بذاته، وملكيته المطلقة لهذا الكيان وتحكمه بمسارات خياراته..، وأيضا بما يترتب على هذا الإستقلال من حاجات التأكيد المستمرة، والشبيهة مجازا بصياح ديك على أعلى قمة في مزبلته أو عواء ذئب بوجه القمر من أعلى قمة في مساحة منطقة سيطرته.
وطبعا هذا لا يعني التضاد أو التقاطع مع حاجات أو متطلبات المجموع، ككيان إجتماعي يحتويه ويضيّفه، وإنما يعني أن لا تكون عملية إستضافة المجموع للفرد، عملية مصادرة لكينونة وفردية الشخص، أو أي من عناصر هيبته الذاتية أمام نفسه، وتحت أي قيمة أو غرض أو هدف (مجموعي) نسبة للمجموع وتمييزا لها عن مفهوم إجتماعية المجتمع، ككيان لأن، وفي النهاية، مازالت الغابة التي خرجنا منها (قبل تمدن الحياة الإجتماعية) موجودة ومازال فيها متسع لفردية كياناتنا، في أن تمارس فرديتها وصيغتها أو صبغتها الأولى: حرية ما قبل إختراع السروال الداخلي، وما ترتب على ذلك الإختراع من دحر لأشكال (صيغة) حريتنا الأولى.
وسيلة ردنا الوحيدة على هذه الخسارة، تتمثل الآن في الرواية، وفي ما تتيحه للفرد من لحظات طفو على مرارات الواقع اليومي أو (المجموعي)، وفي ما تنثره أمامه من لحظات تشجيعية وإستفزازية في العمل على بناء إستحكمات تمنع مصادرة ما بقي من ذلك التفرد... ولو كان مجرد حلم ما بعد الساعة الثانية عشر ليلا: كلحظة تفرد الذات بممارسة صيغة كيانها الفردية: التخفف من عبء وإشتراطات السروال الداخلي، وما رتبت حياة المجموع عليه السروال من قيم وأخلاقيات، صارت هي وجه التعبير عن الإنسان بدل صيغة شخصه التي وجد نفسه عليها، وطبعا هنا نقصد المعنى المجازي لكل صور هذا التعبير وصيغّه، والتي حشرناها تجاوزا تحت يافطة السروال الداخلي.
وطبعا هذا لا يعني تنبيها أو إعادة اكتشاف لفضيلة التمرد، لأن فضيلة التمرد أصيلة في النفس الإنسانية على كل ما يصادر أو يمس حريتها أو صيغة صبغتها الأولى، لأنها تؤمن إيمانا راسخا دخيلة الإنسان بأن على كل إنسان أن يترك جزءا من نفسه بقيادة الشياطين ليكون شاعرا أو يحافظ على بعضه في وضع الشاعر، كما اختصر الأمر غوته.
هل يعني هذا بطريقة ما أو بطريقة غير مباشرة أن التأريخي هو حرب على الجانب الشاعري أو على الشاعر فينا، وأن هذا الجزء الشاعر هو أكثر أصالة في صبغتنا الأولى، وهو الجزء الذي حاربه فينا ارتداء السروال الداخلي، أو ضريبة مدنية المجموع الإجتماعية والأخلاقية والقيمية؟
وعلى هذا (التأريخي) بالذات جاءت ثورة الرومانسية، لأنها كانت عملية تمرد عميقة وواسعة، وليس مجرد إتجاه في الفن، لأنها توصلت إلى ملامسة القضية الأهم: الإنسان أكبر من مجرد رقم في معرض الأرقام الرياضية.. وإنه (من لحم ودم ويسأل بإلحاح: ما الغرض من هذا النظام الضخم والشمولي طالما أنه لا يقدر على تبديد القلق النابع من قضايا الحياة والموت) بحسب أرنستو سوباتو.
المشكلة الأكبر مع هذا (التأريخي) تمثلت في عملية نبذ (قوانينه العقلية) لعواطف الإنسان أو تنحيته لها إلى الصف الأخير، باعتبارها شكل الميوعة اللا أخلاقي الذي يقف أمام عجلة التقدم العقلي (العلمي والتقني) الذي يجب أن يسود على الحياة لتصبح أكثر رقيّا (بلبس السروال الداخلي الذي صارت له معامل إنتاجه المتخصصة وماركاته، التي تحولت بدورها إلى قوانين وقواعد واجبة الطاعة)، وهذا ما دفع نيتشه للصراخ متسائلا: هل قدّر على الحياة أن تسود على العلم أم هو الذي يسودها ويتحكم في مفاصلها؟ وكان جوابه سيادة الحياة طبعا وإعلان صيغة تمرده على التأريخي التي ارتآها أيضا دستويفسكي وكيركيغارد وغيرهم..، ولنصل، معهم، إلى قرار أن من الأسف أن تكون حياة الإنسان خاضعة لحجج (التأريخي) وتجريداته العقلية، وإن الأكثر انسجاما مع طبيعته، وهو ما يحافظ له على صيغته وشكله من فرض الآخرين، هو الإصغاء (لبراهين القلب)، كما اختصرها باسكال.
كانت الرواية، وخاصة بعد تخلصها من فضفاضية أدباء أواخر القرن التاسع عشر الوصفية وتراجيدتهم، الممعنة في مأساوية عجز الفلسفة عن كبح تجريدية العلم، هي من تصدى لتشخيص هذا وعرضه... وأيضا فتح الشبابيك على (براهين القلب)، وخاصة بعد أن أعلنت وجوديتها (على يد روائيي ما بعد الربع الأول من القرن العشرين) أو وقوفها إلى جانب الإنسان في محنته ضد العلم وتجريديته العقلية الموحشة، وتجنيد كامل طاقاتها الجمالية لإقناع هذا الإنسان، السائر إلى حتفه العاطفي، بأن نجاته في: عدم تحوله إلى الشكل الذي يتصوره الآخرون عنه!، ومقاومته للحفاظ على فرديته وحرية ما قبل اختراع السروال الداخلي: إستعادة عواطفه التي اغتصبتها عجلة التقدم العلمي!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. موريتانيا.. جدل حول أنماط جديدة من الغناء والموسيقى في البلا


.. جدل في موريتانيا حول أنماط جديدة من الغناء والموسيقى في البل




.. أون سيت - لقاء مع أبطال فيلم -عالماشي- في العرض الخاص بالفيل


.. الطفل آدم أبهرنا بصوته في الفرنساوي?? شاطر في التمثيل والدرا




.. سر تطور سلمى أبو ضيف في التمثيل?? #معكم_منى_الشاذلي