الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


(21) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء غريب : حوار أجراه من ستوكهولم الأديب والتشكيلي صبري يوسف

أسماء غريب

2019 / 10 / 4
مقابلات و حوارات


صبري يوسف:
كثيراً ما تتحدّثينَ عن ضرورة معرفة النّفس كوسيلة يتحقّقُ بها السّلامُ الرّوحيّ، هل برأيكِ يحتاجُ الإنسانُ بعدَ هذه المرحلة إلى مُعلّمٍ أو مُرشد روحيّ يُكمِلُ معه وبهِ طريق الحياة نحو الكمال والسّموّ الذّاتي والفكريّ؟
*
د. أسماء غريب:
هذا سؤال مهمٌّ للغاية لأنّ فيه إشارة إلى العلاقة الرّوحيّة بين المُعلّم والمُريد، ولو أنّي أجدُ مصطلح "العلاقة" لا يفي بالغرض المطلوب، واللّغة هنا تبدو ضيّقة وضعيفة جدّاً ولا تُسعفني أو تساعدُني على تحديد المعنى الصّحيح الَّذي به يُعَرَّفُ هذا النّوع من الرّوابط الرّوحيّة. عموماً لا بدّ من الحديث أوّلاً عن معنى المعلّم: من يكونُ، ولماذا هو بالذّات دوناً عن غيره؟
اعلم يا أيّدكَ اللهُ بنوره وعلمِه ومحبّتِه، أنّ المُعَلّمَ لا يُحَدَّدُ بعُمرٍ ولا بجنسٍ ولا بزمان أو مكانٍ أو دينٍ، فقد يكونُ أصغرَ من المُريد بسنوات عدّة، وقد يكون طفلاً، وقد يكونُ من رجالِ الزّمن الماضي، أو من أهل الحاضر، أو من صحْب الزّمن المُقبلِ، وقد تكون امرأةً بصفة معلّمٍ لرجل أكبر منها بكثير في السّنّ يكونُ سالكاً وواقفاً عند باب الرّجاء والدّعاء والحضرة. لكن عليك أن تعرف أيضاً أنّه مهما اختلف جنسُ المُعلِّم ذكراً كانَ أم أنثى، فإنّه يبقى على خلاف المُريدِ "ذكوريَّ" الصّفةِ من حيثُ فَيْضِه وعطائِه المُسْتَمرّ، لأنّهُ – أو (لأنّها) غيمةٌ حبلى تبحثُ عن إناءٍ تفيضُ فيه بالمطر، والإناء هو المُريد الّذي يكونُ "أنثويَّ" الصّفة لأنّهُ – أو (لأنّهَا) الرّحمُ المستقبلُ لفيْضِ المُعَلّم. واعلم أنّ المُعلِّمَ دائمُ البحث عن مُريده يسعى نحوه باستمرارٍ، والشَّأنُ نفسه بالنّسبة للمريد تجاه معلّمه، ولا بدّ للاثنيْن أن يلتقيا، ليس جسديّاً بالضّرورة وإنّما روحيّاً قبل كلّ شيءٍ ليتحقّقَ الانصهار بينهُما. و"العلاقة" السلّيمة بين الاثنيْن هي تلك الّتي لا يطلبُ فيها المُريدُ شيئاً، ولا يَعِدُ فيها المعلّمُ بشيء، إنّما يحدث الفيض والاستقبال لوحدهما ومن ذاتهما، مادام في المُريد عطَشٌ وفي المعلّم فيضٌ. ولا أحد في هذه "العلاقة" أفضل أو أهمَّ أو أكبرَ من أحد. وعليكَ أن تتذكّر جيّداً أيّها القارئ أنّه ثمّة فرق كبير بين المُريد والتّلميذ، وبين المعلّم والأستاذ. فالمُريد من أهل العلم اللّدنيّ، والمعلّم حاضنُه، أمّا التَّلميذُ فيطلبُ العلومَ الدّنيويّة الجاهزة، والأستاذُ قد درس طويلاً في حياته من أجلِ أن يحصل عليها في المدارس والجامعات، فيعطيها لتلميذه من باب الثّقافة والمؤسّسة والمجتمع، بقلبٍ قد يكون في كثير من الأحيان غارقاً في الغفلة والظّلام، في حين وبالإضافة إلى العلم الدّنيويّ والأكاديميّ، فإنّهُ من الممكن جدّاً أن يكون مُعلّمُك طفلاً وهو لا يدري أنّهُ معلّمُكَ، أو طفلةً، أو شيخاً عجوزاً لم يسبق له أنْ دخل إلى مدرسة، والعِلمُ الّذي في قلبه أكبر بكثير ممّا قد يتوقَّعُهُ فيلسوف أو مُنَظِّرٌ من أهل الثّقافة والعلوم.
المعلّمُ أو الشّيخُ شمعةٌ مُشتعلة، والمُريدُ كذلك، وحينما يقعُ اللّقاء بينهما تتوحّدُ الشّعلتان ولا يهمّ إذا ظلّ الجسدان منفصلان بحُكم الزّمان والمكان والتّاريخ والجغرافيا.
حينما يلتقي المُريد بمعلِّمه يقعُ العشقُ، لذا، عليكَ أيّها المُريدُ أنْ تعرفَ هذا جيّداً، وعليكَ أيّها المعلّمُ أن تعرفَ متى تنفصلُ عن مريدِك وتدَعَه يُكمِلُ الطّريق لوحده حينما ترى أنّه قد أصبح هُو أيضاً بدوره معلّماً أو شيخاً كبيراً، ربّما أفضل منكَ بكثيرٍ، وإلّا فلا خيْر فيكَ ولا في عِلمكَ ومعرفتكَ. أمّا أنت أيّها المُريد، فاعلم أنّ الفيْضَ لا يحدثُ إلّا إذا تحقّقت لديْكَ الثّقة بمُعلّمكَ، لأنّك بهَا فقط يُمكنُكَ أن تتعرّى وتتحرّرَ من كلّ قيودك، وأنْ تُصبحَ قادراً على أن تقول له: وداعاً يا صاحبي سأكمل الطّريق بدونكَ. عندها فقط ستجدهُ يباركُ لكَ ولادتكَ الجديدة وانفصالكَ عنه بأمْنٍ وأمان وسلام ومحبّة عظيمة:
((مُذ لبستُ قميصكَ الصّوفيّ
عرفتُ مَن أنتَ
مُعلّماً في الطّريق إليّ
رأيتُكَ تبكي
وأنت تلتقطُ ساهماً
بين كلّ خطوة وأخرى
العناكبَ والأفاعي والعقاربَ
وتُلقيها بين يديّ
تختبرُ صبري عليكَ
وتنتظرُ إشارةَ البوح بالسرّ
أيّها العارفُ الّذي لم أعرفْ سواه
قلتَ ستفتحُ عيني الثَّالثة
وستُطلعني على فاتناتكَ السُّمر والسّود
قلتَ ستُدخلُني إلى ملكوت الموتى
قلتَ وقلتَ وقلتَ ...
ولم تكُنْ تدري أنّي عيْنُكَ الثَّالثة
وفاتناتُكَ السُّمر والبيض والحُمر
وأنّي مَلَكُ الموت الَّذي يرقُدُ بجانبكَ
كلّما أويتَ إلى سرير السِّرّ
بالأمسِ قبّلتُ يدكَ
وأنتَ تلبسُ وجهَ جدّي وعباءَته
بالأمسِ أعطيتنِي كيساً من الخبز الأبيض
وذهبتَ إلى لقاء والدِي
بالأمسِ رأيتُكَ كما أنتَ
شيخاً بعيون كحيلة
وجبهة منقوشةٍ بالنّقاط الفضِّيّة والذَّهبيّة
تمشي الهوينى في الهواء
وبين يديْك أنا
وردتَك الصّوفيّة
تُغْرقني بالنّدى
وتَفيضُ عليّ بالأسرار)).
///
صبري يوسف:
نحن في زمن وإنْ كثُرَ فيه المعلّمون والأطبّاء الرّوحيّون، فإنّ الحروب مازالت مندلعة في كلّ شِبْرٍ من الأرض، أينَ يوجدُ الخلل؟
*
د. أسماء غريب:
أينهُمُ المعلّمون الرّوحيون؟ أنا لا أراهُم من حولنا، والموجودون حقيقةً يعدّون على رؤوس الأصابع، ولا يُدركُهم صدقاً وعياناً وروحاً سوى أهل الحضرة. وإذا كنتُ قد أشرتُ في جوابي السّابق إلى العلاقة بين المُعلّم والمريد، فإنّني أريدُ هُنا أن أفسح المجالَ للحديث عن المعلّم والمُرشد الدّاخليّ الّذي لن يدلّكَ عليه أيُّ مُرشد آخر مادامت فكرةُ المعلّم الرّوحيّ أصبحتِ اليومَ نابعة من فكرة ترسيخ الحاجة للغير في زمن يتلاعبُ فيه الجميع بالجميع.
لتعلم أيّها القارئ المحبّ، أنّك لست وحيداً في هذه الدُّنيا، ولا وُلدتَ يتيماً في هذا الكون الفسيح، بل على العكس من ذلك تماماً، فأنت مطلوب ومحبوب من طرف الكون بأسره، وأنت أهمّ شيء في الوجود بالنّسبة لخالقِه الّذي وسِعت رحمته كلّ شيء. لأجل هذا، فإنِّي أقول لك إنّه في زمن العُسر والضّيق أصبح من الأفضل لكَ أن تتحصّن بالخُويْصة وترمي فكرة هؤلاء المرشدين "الرّوحيين" الّذين أصبحوا ينبتون في كلّ مكان كنبات الفطر في الغاب ولا شيء يفعلون سوى فرضِ أفكارهم وآرائهم وأحكامهم وشرائعهم الّتي لا سلام ولا محبّة فيها، وإلّا فكيف تُفسّرُ كلّ هذه الحروب المشتعلة من حولنا، لماذا لم يتوصّلوا إلى إرشاد أحدٍ إلى مرافئ السِّلام الحقّة؟! عليْكَ اليوم وأكثر من أيّ وقتٍ مضى أن تهربَ بنفسكَ منهم، فأنت فريد جدّاً بكينونتكَ الخاصّة، إنّك كنز نادر ويجبُ أن تسمحَ لنفسك بأن تتفتّح وتتنوّر بعيداً عن كلّ هذا الجنون. ولتعلم أنّ الكلّ مُصرٌّ على أن يستمرّ في قولبَتِك وتعليبكَ وفقاً لأنظمة معيّنة وأفكار جاهزة ونماذج صُنعت قديماً ومازال يُعاد تحويرها وتسخينها كحساء حامض. عُدْ إلى فطرتك، واغسل روحَك من أدران الماضي ومخلّفات الإرث العقيم، واسْعَ إلى الحجّ الدّاخليّ، هناك حجر أسود بداخلك ينتظرُ أن تلمسهُ ليفوح بالعطر الزّكيّ، عطر روحك المشتعلة بنور الله. ولا تنسَ أنّ أكبر ممّن ادّعى الإرشاد الرّوحي بمن فيهم الأطّبّاء النَّفسيّون هم النّاسُ الأكثر مرضاً وهمّاً وغمّاً من غيرهم، انظر إلى فرويد مثلاً، أنا في حياتي ما رأيتُ طبيباً أشدّ منه مرضاً.
يكفي أنّه أغلق في حياته بنظرياته تلك بابَ الاجتهاد أمام الآخرين لفهم النّفس البشريّة وفهم الإنسان من يكون حقيقةً، هذا الإنسان الَّذي قال بشأنه صاحب العزّة والملكوت وهو يتحدّث للملائكة: إنّي أعلمُ ما لا تعلمون.
فمن يكون الإنسانُ حقيقةً يا صاحبي فرويد، وماذا يحدثُ لهُ حينما تمرضُ نفسه، ما الّذي يختلّ فيه، وأيّ توازن يفقد، بل كيف تمرضُ نفسه وتفقدُ سلامها؟ ولماذا؟
أنت قد أجبتَ عن هذه الأسئلة بطريقتك الخاصّة في العديد من مؤلّفاتك من قبيل الكبت، والحب والحرب والحضارة والموت، ثمّ ما فوق مبدأ اللّذّة، والأنا والهو وغيرها من الكتب الأخرى، إلّا أنّي أريدُكَ الآن أن تنصت لي بعين الفحص إذا سمح لك بذلك ألمُ الأسنان الفظيع الَّذي عانيْتَ منه جرّاء تدخين ذاك السِّيجار الكبير الَّذي لا أعرف ما الّذي كان يُعجبك فيه، مع أنّه تسبّب في إصابتك بسرطان الفكّين وقادك إلى القبر بقدميْكَ وأنت في "كامل قواك العقليّة"، واسمح لي أن أضع العبارة بين مزدوجتين لأنّني سأعود إلى مناقشتها معك، وأسألك بشكل صريح: هل كنتَ وأنت المريض بسرطان الفم، والمدمن للهيروين، والمُعاني من أمراض أخرى في جهازك العظميّ بكامل قواك العقليّة؟ أو هل كنتَ حقّاً مؤهّلاً لأن تُقدّمَ للإنسانيّة حلولاً لمشاكلها وأمراضها النّفسيّة وأنت الَّذي كنت تعاني من أمراض لم يتجرّأ لليوم أحد على أن يضعها تحت مجهر التّحليل والفحص النّفسيّ؟! أنا سألتُ الكُتُبَ عن تلميذك وليام رايخ فقالتْ لي إنّكَ طردْتَهُ من مكتبِكَ لمجرّد أنَّه سألكَ أن تُريه إنساناً شُفي من مرضه بمجرّد تطبيق نظريات تحليلك النّفسيّ عليهِ.
ألا ترى يا أخي فرويد أنّك قد جنيتَ على مرضاكَ وأنت تُسْقِطُ عليهم تجارب طفولتك ومرضك العصابي الّذي لم تنفعك نظرياتُك في الشّفاء منه أبداً؟! كونك كنتَ تحمل عداءً مَرضيّاً تجاه أبيك وحبّاً أعمى تجاه والدتك، فهذا لا يعني أن كلّ النّاس مصابون بعقدة أوديب أو إلكترا. ثمّ ماذا سأقول عن علاقتكَ العاطفيّة بأخت زوجتك، أين سأصنّفها أيُّها "العالِمُ" المبجّل! اسمعني جيّداً يا فرويد؛ قد تكون بنظريَّاتك طرقتَ أبواباً لم يطرقها أحد من قبلك، لكن دعني أقلْ لكَ إنّ الحياة وما قرأتُه لكَ وعنكَ علّماني ألّا أثق كثيراً بمَا قيل عنك وعن شخصيَّتك الَّتي أحاطها مريدوك وحواريوك بهالة من التَّقديس، والأسباب في ذلك عديدة، فأنا أرى أنّك نتاج ظروف عصيبة كانت تمرّ بها الإنسانيّة في ظلّ الحربيْن العالميَّتَين الأولى والثّانية، وكان شيء طبيعي أن يجد النّاس في نظريَّاتك الجديدة آنذاك وهُم الَّذين أثقلتهم هموم الحروب الكبرى قشّةً يتعلَّقون بها ويعلّقون عليها آمالهم الباهتة في الخروج من جحيم الفقد والألم والمرض. نعم لقد كنت خشبةَ خلاص بالنّسبة لهم، وكيف لا وأنت الّذي عانى أيضاً من مطاردةِ النَّازيّة وجبروتها فتعاطف معك النّاسُ كثيراً وكانوا يصدّقونكَ في كلّ شيء حتَّى وإن كنتَ تقول لهم أنت ومن عاصرَك من بعض الفلاسفة أشياء لا يتقبّلها عقل حكيم ولا منطق سليم، فهل يُعقل يا رجل أنَّنا مثلاً ورثنا عن أجدادنا ذكريات العيش السّابق في الغابات مع الوحوش وفي الكهوف المظلمة لأنَّنا كنّا في الماضي السّحيق مجرّد قردة نعيش فوق الأشجار ونخشى الوقوع من فوق الأغصان، ولهذا فإنَّنا لليوم مازلنا نرى في أحلامنا أنّنا نقع من الارتفاعات الشَّاهقة؟! وهل عليّ أن أصدّق أيضاً أنّني في يوم من الأيام كنتُ سمكةً أو طائراً لذا فإنّي قد أحلم أنَّني أسبح أو أطير؟! أستغربُ حقّاً كلّ هذا منكَ وأنا الَّتي علّمني اللهُ تفسيرَ الأحلام وأعرف جيّداً ما يعنيه الطَّيران أو السّباحة في الماء أو السّقوط من الارتفاعات الشَّاهقة في المنام، ثمَّ تعال هنا يا صديقي وقل لي: لماذا لم تتعلّم بالله عليك من يوسف (عليه السّلام) رائد علماء تفسير الأحلام بلا منازع، ألم تحدّثك عنه التَّوراة؟ ألم تقرأ عن بقراته السّبع العجاف منها والسِّمان؟ ألم يصلك نبأ عن مدرسته الإيزوتيريّة الَّتي ما تركتْ رمزاً إلّا وأحاطت به علماً في دنيا الأحلام؟ لا فائدة من كلّ هذه الأسئلة الآن، فأنت لم تكن ممّن يحبّون الأديان، لأنّك كنتَ ترى أنّها نشأت بسبب جريمة قديمة ارتكبها الإنسانُ الأوّل حينما قتل هو وإخوته أباهُ لأنَّه كان يحول بينهم وبين أمّهم وهم الَّذين كانوا يرغبون في ممارسة الجنس معها، وعندما أصبح النّهار ندموا على فعلتهم تلك ندماً شديداً، ومزجوا قضيبَ والدهم ببيْض حيوان ما من الغابة، وأصبحوا يقدّسونه لأنّه يذكّرهُم بأبيهم، فكان هذا التّقديس أثرَ أوّل ديانة ظهرتْ في الوجود!
أنا صراحةً عزيزي فرويد لا أملكُ أمام ما قلتَه عن ميلاد أوّل دين في حياةِ البشر سوى أن أقول لكَ إنّني أرى بعضاً من تأثير ذاك المسحوق الأبيض الّذي كنتَ تتناولُهُ وتنصحُ المرضى بتناوله أيضاً، أنت تعرفُ طبعاً عمّاذا أتحدّث: إنّه الكوكايين يا رجل، وهو سبب كلّ هذه الهلوسات الّتي لا أوّل لها ولا آخر. طيّب إذا لم يكن الأمر كذلك فأخبرني بالله عليك من أين أتيتَ بهذه القصّة؟ ومتى قتلَ الإنسانُ الأوّلُ أباهُ من أجل أن يحظى بأمّه؟ ومن أين جئتَ بأمر التّقديس ذاك؟ لقد كان بعضُ الأبناءِ يتزوّجونَ بأمّهاتهم في العهودِ الأولى ولم يكنِ الأمرُ حراماً ولم يكُنِ الآباءُ يرون في ذلك جريمةً، ولكنّك أنتَ أبيْتَ إلّا أن تربط نشأةَ الدّين بكلّ هذه القضيّة دون أن تستوعبَ حقيقة أنّك هكذا ربّما دنّستَ أصل العبادة والإيمان الفطريّ داخل قلوب النَّاس وعقولهم. حرام عليك يا رجل كلّ ما فعلتَه، فأنتَ حتّى وإن كنتَ تقول إنّ طريقتك ونظريّاتك في التَّحليل النَّفسيّ ساعدت الكثير من النّاس على الشّفاء، فإنّ الحقائق الَّتي بين يديّ تقول غير ما كنتَ تدّعي، لم يُشفَ أحدٌ على يديْك وكلَّ ما أسّسْتَ له لم يكن سوى ثقافة وهْمٍ وخيال أثَّرْتَ بها على أجيال عديدة من الأدباء والفنّانين والمثقّفين من كلَا العالميْن الغربيّ والشَّرقيّ. مريضتُكَ بيرثا بابينهام هل تتذكّرُها؟ تلك الّتي كان يتابع في البداية حالتها زميلك جوزيف بروير؟ نعم، هي المريضة المصابة بالهستيريا الاكتئابيّة والّتي كنتَ تنشر مقالات عنها وتشير إليها فيها باِسم مستعار هو (آنّا أو). بيرثا هذه كما تقول وثائقها المؤرشفة في مستشفى Bellevue Sanatorium لمْ تكن مصابةً فقط بالهستيريا الاكتئابيّة وإنّما كان سببُ مرضها الحقيقي العدوى الَّتي انتقلت إليها من والدها الّذي كانت تعتني به لأنّه كان مصاباً بداء السّلّ الرئويّ، وكان يونج أو كما كنتَ أنتَ تسميه بالكاثوليكيّ القرويّ المجنون، يُعارضُ كلّ ادّعاءاتِكَ عن هذه المريضة، ويؤكِّدُ زيفَ تحليلاتك وإصراركَ على شفائها من مرضها بفضل تطبيقك لنظريّة التَّحليل النَّفسي عليها! أرأيتَ يا فرويد، مَن عليّ أن أصدّق الآن، أنت أم كارل يونج الّذي كنتَ تحاربُه بكلّ ما أوتيتَ من حقد وحسد؟!
دعنا من كلّ هذا يا فرويد فبيرثا لم تشفَ أبداً، لقد بقيت مريضة إلى أن وافتها المنيّة وهي تعاني من شدّة الألم والعذاب، ولتعلم أنّ النّوم شيء مهمّ جدّاً في حياة الإنسان، والأحلام عالم فسيح شاسع مازلنا لم نكتشف منه شيئاً، ولا يمكن في الوقت نفسه التَّغاضي عن أهمّيّة بعض ما قدّمته بشأن ضرورة الاهتمام بالحياة الجنسيّة وظاهرة الكبت عند الإنسان، لكنّني أضيف أيضاً أنّهُ لا يمكننا أبداً وبأيّ شكل من الأشكال أن نعتبره الطَّريق الوحيد الّذي يؤدّي إلى دراسة النّفس البشريّة وعوالم الرّوح بشكل جيّد، وإنّما الطّرق متعدّدة بتعدّد أنفاس الخلائق. عزيزي فرويد، عالم الأحلام لا يحكُمُه فقط الأنا والأنا الأعلى والهو، وإنّما أشياء كثيرة أخرى مازلنا في طريق كشفها واكتشاف أوقاتها وساعاتها في اللّيل كما في النّهار، وإذا شئتَ علّمتُك بعضاً منها، يكفي فقط أن تنسى كلّ شيء وتبدأ معي صفحة جديدة كما أقول في هذه القصيدة الَّتي نظَّمتُها خصّيصاً من أجلك داعيةً من خلالها علماء النّفس ومفسّري الأحلام إلى فتح باب جديد من أبواب العلوم النَّفسيّة والتّركيز فيها على البعد الرّؤيَويّ والبصيريّ في عوالم النّفس والرّوح والعقل:
((صديقِي فرُويد،
طالما أذنتُ لكَ بالجُلوسِ إلى مَائدتِي
أعْنِي إلى مائدَة ألفِي وبَائي
فليسَ منْ حقّكَ أبَداً
وأنتَ تُبَادلنِي أطرافَ البَوْح الشّعْري
أنْ تخْلعَ وِزْرَتكَ البيْضَاء
وترْتَدِي عَبَاءتكَ الخَضْراء وعَمامتكَ السّوداء
*
صديقي فرُويْد،
أيّها الضّابطُ المُدجّج بالرُّتَبِ والأوْسِمة
طالما فتحتُ لكَ بابَ النّقطَة
أو باب الوهْم العظيمِ والنّقمَة والنّعيمِ
فليسَ من حقِّكَ أبداً
وأنت تبحثُ عبثاً وسطَ جِنَانِي
عنِ الوَرْدِ الأسود والوِرْدِ الأزرقِ
أن تَخْلعَ بدلتكَ العسكريّة
وترتدي أمَامي خرقةَ الصّبابة والجوى
*
صديقي فرُويد،
أيُّها الطَّبيبُ المُصَاب بداء اليقظةِ والنّسيانِ
طالما دخلتَ خِدْر حَرفِي فارمِ كلَّ شيء عندَ قدميّ:
وِزرتكَ البيضاء وبدْلة الخدمةِ العسكريّة
ثمّ عمَامتك السَّوداء والسّبحة الخضراء
وتمدّدْ عاريا فوق سَريري،
أعني سريرَ السّوطِ والنُّطقِ
واخترْ بأيّ لسان تريدُ أن تحدّثني:
أبلسانِ أهل الوحْي، أم بلسانِ أهل العشقِ
أو أبلسانِ أهل الطّبّ والنَّياشينِ، أم بلسان أهل الشّعر؟
*
فرويد، يا صاحبِي الحزين
لا أقراصُ الحروف والنّقاطِ نفعَتْ معكَ
ولا التّسجيلُ الصَّوتِي لحِكاياتكَ البَاكية
ولا التَّنويمُ المغناطيسيّ
ولا حتّى الصّدَماتُ الكهربائيّة
فَقُل لِي بالله عليكَ:
ما عساي أفعله لكَ أو مَعكَ أو بكَ
وقد اختلطتِ الأوراق بينَ يديْكَ
فبِتَّ لا تعرفُ بأيّ حبرٍ ستكتبُ لي
أبحبرِ حم أم بحبْر يس؟
*
فرويد يا صاحبِي الوَديع
انْسَ كلّ شيءٍ،
وتعال افتحْ صفحةً جديدةً فِي حياتكَ
انسَ نظريَّاتكَ البالية،
انسَ أوديب وإلكترا
وانسَ عَجْزَ السّاقِ وَحسَدَ السّكّينِ
وتعالَ ادخلْ إلى عيادَتي الجديدة،
عيادةَ الهَاءِ والوَاو
وتمدّد فوق سريرهَا الأسْوَد،
ثمّ افتحْ عينَيْ قلبِكَ
فقد كشفتُ عنكَ غطاءكَ
واليومَ بصرُكَ حَديد.)).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هدنة غزة وصفقة تبادل.. تعثر قد ينذر بانفجار| #غرفة_الأخبار


.. إيران والمنطقة.. الاختيار بين الاندماج أو العزلة| #غرفة_الأخ




.. نتنياهو: اجتياح رفح سيتم قريبا سواء تم التوصل لاتفاق أم لا


.. بلينكن يعلن موعد جاهزية -الرصيف العائم- في غزة




.. بن غفير: نتنياهو وعدني بأن إسرائيل ستدخل رفح وأن الحرب لن تن