الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن الليبرالية العربية!

فهد المضحكي

2019 / 10 / 5
العولمة وتطورات العالم المعاصر


لم يكن المشروع الليبرالي الأوروبي كما تبلور في نهايات القرن الثامن عشر بشقيه السياسي والاقتصادي، نبت الصدفة، بل كان نتيجة لمقدمات تاريخية استغرقت قرونًا عدة أدت إلى نموه ونضجه في رحم المجتمع الأوروبي، ثم خروجه إلى الحياة كمشروع حضاري جديد بديلاً لمشروع قديم منهار.

وبالمثل لم يكن المشروع الليبرالي الأروربي مجرد مجموعة من الخواطر الفاضلة المتناثرة التي جاءت بها قرائح المفكرين الأوروبيين، بل على عكس ذلك، كان ضرورة اجتماعية أفرزتها حاجات المجتمع ومتغيراته وبررتها، ونظرت لها كتابات المفكرين في مجال السياسة والمجتمع والاقتصاد.

ما موقع الليبرالية من السياق السياسي في الدول العربية؟ وهل تجد لها جذورًا أينعت وتم قطفها في مجتمعاتنا، أم أن الأمر كله لا يخرج عن إطار تحيزات الصفوة السياسية والثقافية وتفضيلاتها القيمة؟

هذا السؤال يطرحه أحد أساتذة القانون في مصر، الدكتور محمد نور فرحات في كتابه (البحث عن العدل).

في تصوره أن فترات التحديث والتوجه الرأسمالي والتفتح العقلي والإصلاح الدستوري جاءت كلها بمبادرات مباشرة من السلطة السياسية المركزية الحاكمة، في صورة إصلاحات جذرية أدخلها في بنية المجتمعات العربية حكام فضلاء على غرار محمد علي باشا في مصر. قد يكون التراكم الرأسمالي الذي حدث في مصر منذ القرن الثامن عشر وزيادة نفوذ طبقة التجار هو العامل الذي ألهم محمد علي باشا لخطو أولى خطواته نحو رأسمالية الدولة، ولكن هذه التغيرات الاجتماعية أثرت تأثيراتها في مجتمعات الشرق من خلال قناة إلهام الحكام لا إرغامهم، وفرق بين التغيرات الاجتماعية التي تنتج نتيجة فوران الجماهير وتلك التي تأتي نتيجة تضرع الجماهير لحكامها.

-وكما يوضح- انه مع التحولات نحو الرأسمالية التي أشرقت على المجتمعات العربية منذ مطلع القرن الماضي لم يكن العقل العربي مثقلاً بهموم صياغة مشروع ليبرالي يعلي قيم الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والحرية الاقتصادية، كما كان الحال في المشروع الأوروبي، والمتصفح لبنود التشريعات الاقتصادية التي حقق بها محمد علي أهداف تحديث الاقتصاد والمجتمع سرعان ما سيذهل لمدى امتهان الكرامة الانسانية الذي كانت تؤكده العقوبات الملحقة بهذه التشريعات، حتى أنه يمكن القول إن التحديث الرأسمالي كان في ذلك الوقت تحديثًا بالسخرة.

يضيف إلى ما سبق، لم يبدأ في مصر الحديث عن أفكار الحكومة الدستورية المقيدة واحترام حقوق الانسان وتقنين أحكام القانون في مجموعات على غرار المجموعات القانونية الأوروبية إلا عندما عادت أفواج البعثات التعليمية التي أوفدها محمد علي إلى أوروبا محملة بكل القيم والتيارات الفكرية التي كانت تموج بها المجتمعات الأوروبية في ذلك الوقت.

فقد كانت هذه البضاعة الفكرية الليبرالية الثمينة مرغوبًا فيها بشدة من الطبقات الاجتماعية الصاعدة في ذلك الوقت، فكان مبدأ الحرية الاقتصادية والسياسية وتحديث القضاء والقانون شروطًا لازمة للبرجوازية المصرية الناشئة لكي تعيد ترتيب الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لصالحها، ومع ذلك فقد كانت هذه البرجوازية أكثر تعلقًا بالجانب الاقتصادي لليبرالية من تعلقها بالجانب السياسي لها، وقد يلقي ذلك الضوء على حقيقة تخلي الأجنحة المحافظة من البرجوازية المصرية عن الاستمرار في دعم الثورة العربية وتأييدها لها.

ففي هذه الثورة كانت تكمن أولى الإمكانات الحقيقية لتحقيق الليبرالية بواسطة الجماهير، وكانت تكمن أيضًا أولى الإمكانات الحقيقية في جعل مصر حقيقة وفعلاً للمصريين وإنهاء النفوذ الأجنبي في مصر، ولكن لأن البرجوازية المصرية كانت ضيقة المصالح ضيقة الأهداف محدودة الوسائل، ولأنها لم تكن ترمي إلى تحقيق أهدافها الخاصة في إطار مشروع نهضة شامل للتحرر يكفل الحرية لجموع المواطنين، كما كان الشأن بالنسبة للبرجوازيات الأوروبية، فقد أدارت ظهرها لثورة الشعب والفقراء وولت وجهها شطر الارتباط بالمصالح الأجنبية ومباركة لاحتلال الأجنبي للبلاد.

فالليبرالية المصرية -على حد قوله- كانت ليبرالية مبتورة عرجاء، اقتصرت على بعض جوانب المشروع الليبرالي دون البعض الآخر، ويستطيع الحكام العصف بها إن راق لهم ذلك ومتى رأوا منها بادرة خطر تهدد وجودهم أو وجود المحتل الأجنبي على أرض الوطن، وتلك في نظرة هي خلاصة ما يسمى بالحقبة الليبرالية في التاريخ المصري الحديث.

وكذلك الحال بالنسبة لليبرالية العربية، فإن مصيرها لم يكن مماثلاً لمصير الليبرالية الأوروبية، ففي حين أسفرت حركات التطور الاجتماعي الطبيعي في المجتمعات الأوروبية عن أن أخلت الليبرالية الاقتصادية المكان لسطوة الاحتكارات وظهور المؤسسات العملاقة متعددة القوميات، وأخلت الليبرالية السياسية المكان لنظم ترفع راية الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان في الشكل وتدير آليات السياسة لخدمة مصالح الاحتكارات في المضمون، ففي حين حدث كل ذلك في مسار التطور الاجتماعي الهادئ في المجتمعات الأوروبية، فقد شهدت المنطقة العربية عواصف عاتية بكل ما كانت تتلهى به البرجوازيات ونظم الحكم العربية من ليبرالية شوهاء، بل وحملتها المسؤولية عن كل المشاكل السياسية والاجتماعية التي يعاني منها المواطن، في ظل الشعار الشهير أن الديمقراطية الاجتماعية وحرية رغيف الخبز مقدمان على الديمقراطية السياسية وحرية التعبير.

وهكذا، فكما أهلّت الليبرالية على العالم العربي نبتًا غريبًا غير متأصل الجذور أو مستقيم القسمات فقد رحلت عنها غير مأسوف عليها دون أن تتقدم شريحة اجتماعية واحدة من شرائح المجتمع وطبقاته للدفاع عنها.

إلى جانب ذلك، إن الغريب في الأمر هو ذلك التراجع الذي شهدته «الحركة الثورية» العربية منذ أوائل السبعينات، وإن كان قد أعلن جهارًا نهارًا براءته وتوبته عن الشعارات الاجتماعية والاقتصادية لمرحلة الثورة الاجتماعية، فهو لم يعلن في المقابل انحيازًا للجانب السياسي الليبرالي أو تأمين الديمقراطية وحقوق الإنسان، حتى أن المتتبع لبانوراما التاريخ العربي الحديث ربما لا يلحظ ظاهرة ثابتة تحظى بالإصرار والتأكيد قدر ظاهرة تغول السلطة السياسية على حقوق المواطنين وإهدارها لها وانتهاكها المستمر لحقوق الإنسان، وقدر ظاهرة الانفراد بالسلطة وتقديس الحكام وامتهان حقوق المواطنين في المشاركة في اتخاذ القرار وحقوق الجماعات الاجتماعية في تداول السلطة السياسية. لقد كانت السلطة السياسية ومازالت في التاريخ العربي القديم والوسيط والحديث قرينة بالسيف أيًا كان توجهها، وأيًا كان محتواها، وأيًا كان قيمها، وأيًا كانت الشعارات التي ترفعها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيضانات عارمة تتسبب بفوضى كبيرة في جنوب ألمانيا


.. سرايا القدس: أبرز العمليات العسكرية التي نفذت خلال توغل قوات




.. ارتقاء زوجين وطفلهما من عائلة النبيه في غارة إسرائيلية على ش


.. اندلاع مواجهات بين أهالي قرية مادما ومستوطنين جنوبي نابلس




.. مراسل الجزيرة أنس الشريف يرصد جانبا من الدمار في شمال غزة