الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أكتوبر والأدب

أسامة عرابي
(Osama Shehata Orabi Mahmoud)

2019 / 10 / 5
الادب والفن


لم يكن للأدب بوصفه حقلًا مستقلًّا يجعل من اللحظة التاريخية المحددة ، لحظة من لحظات الإنسانية التي تفتح الأمل صوب تطور متصل ، أن يتخلف عن مواكبة حدث عسكري كبير بحجم حرب أكتوبر عام 1973 التي أتت في سياق التحركات السياسية والدبلوماسية الرامية إلى التوصل إلى تسوية لحل الصراع العربي – الإسرائيلي ، وفي القلب منه القضية الفلسطينية ، عبر سياسة هنري كيسنجر القائمة على الاحتواء بالمفاوضات ؛ إثر انتفاض جيل السبعينيات الطلابي وتصديه لمشروعات الحل السلمي التي برزت مقدماتها إلى الوجود مع قرار مجلس الأمن في 22 من نوفمبر عام 1967 . وهو ما عبرت عنه قصة قصيرة لفتحي إمبابي دعاها باسم "حكايات قديمة " ، ضمتها مجموعته القصصية "السبعينيون" (2009) ، سرد لنا من خلالها وقائع التحقيق التي جرت مع أحد قيادات الحركة الطلابية الذي صرخ في وجه رأس النظام الذي كان يعلل تسويفه في اتخاذ قرار الحرب بالضباب ومصاعب التحرك السياسي في ظل المناخ الدولي الملبد بالغيوم ، ولم يتوانَ عن طرد الخبراء السوفييت لتنفرد أميركا بالشرق الأوسط ومقاليده ؛ فصرخ قائلا: "لا يا سيدي .. نحن نرفض حلولك الاستسلامية .. نحن نريد الحرب .. نريد وطنا تستعاد أراضيه بكرامة".
وقد انقسم الأدباء في نظرتهم إلى حرب أكتوبر وماهيتها إلى فريقيْن اثنيْن :
فريق رأى فيها حربا تحريرية للأرض استعادت فيها الأمة كرامتها وسيادتها الوطنيتيْن ، وشعر من خلالها المواطن العربي بالعزة والنصر ؛ إثر سنوات ست من الهزيمة الماحقة في الخامس من يونية عام ألف وتسعمائة وسبعة وستين ؛ مما بدَّد زهو الصلف الذي استخف بالكيان الصهيوني عقب نصره السريع ، وأوهامه في إجبار العرب على الاستسلام من دون شروط ، والقبول – من ثم – بحقه المزعوم في الوجود . وهو ما نلاحظه جليا في "طقاطيق" توفيق الحكيم ، ودروس أكتوبر لنجيب محفوظ ، وخواطر نزار قباني الشعرية ، وقصيدتي صلاح عبد الصبور " إلى أول جندي رفع العلم في سيناء" ، و" إلى أول مقاتل قبَّل تراب سيناء" ، وقصائد أحمد فؤاد نجم الأربع : ضليلة فوق راس الشهيد.. منشور وطني علني رقم واحد .. دولا مين ودولا مين .. عطشان يا صبايا ، وقصيدة فتحي سعيد "أقبِّل العلم" ، وقصيدة مصطفى عبد الرحمن "بطولات" ، فضلا عن قصائد شتى لأحمد الحوتي وأحمد سويلم وحسن النجار وأحمد عنتر مصطفى وسواهم .. وكذلك في قصص ومسرحيات وروايات من طراز : المرصد لحنا مينا ، ومن يذكر تلك الأيام ؟ لحنا مينا ونجاح العطار ، ورأس العش وياحبيبتي يا مصر لسعد الدين وهبة ، والغريب والرفاعي لجمال الغيطاني ، ومحاكمة عم أحمد الفلاح للدكتور رشاد رشدي ، والحرب والسلام ليوسف السباعي ، وفي الحرب في بر مصر وفي الأسبوع سبعة أيام وتجفيف الدموع وحكايات الزمن الجريح وأطلال النهار ليوسف القعيد ، وسقوط بارليف لهارون هاشم رشيد ،وعملية نوح لعلي سالم ، والعبور لفؤاد دوارة ، وقناديل البحر لإبراهيم عبد المجيد ، ومجموعة عكا 778 لتوفيق فياض ، والمصير لحسن محسب ، وحكايات الحب اليومية للدكتور نعيم عطية ، ورفقة السلاح والقمر للدكتور مبارك ربيع ، والرقص على طبول مصرية لفؤاد حجازي ، ومن وحي أكتوبر لصلاح إبراهيم عبد السيد وعزيزة صادق ، ونوبة رجوع لمحمود الورداني ، والدم والرصاص لعبد الفتاح رزق وغيرهم . وفريق آخر تناول حرب أكتوبر بوصفها حربا محدودة رمت إلى تحريك أزمة الشرق الأوسط ، في إطار سعي الإمبريالية الأميركية الحثيث إلى إعادة ترتيب أوضاع المنطقة بما يخدم مصالحها الحيوية ، ولم ينِ يرصد تداعيات الحرب السلبية على واقعنا الاقتصادي بانفتاحه وتبعيته وطبقاته الصاعدة وخطاياه المادية والأخلاقية والقيمية ، وطمس الهوية الحقيقية لمصر، وزيارة العار إلى القدس وعقد اتفاقية كامب ديفيد التي أخرجت مصر من حلبة الصراع مع عدونا التاريخي وفصمت علاقتها بالقضية الفلسطينية ؛ بفضل نهج التسويات الجزئية والمفاوضات الثنائية وعزل الدول العربية بعضها عن بعض لتحصل أميركا على أقصى قدر ممكن من التنازلات ، كما تجلت في قصيدة "سوق العصر" لعبد الرحمن الأبنودي في ديوانه المعروف باسم " المشروع والممنوع" ، ومسرحية "برج المدابغ" لنعمان عاشور ، ومسرحية "سؤال من قرية تميرة للاستفهام عن مسألة الحرب والسلام" لمحمود دياب ، ومسرحيتي " الصخرة ، والعصافير تبني أعشاشها بين الأصابع" لمعين بسيسو ،على سبيل المثال لا الحصر.
غير أن نظرة وانية متمهلة إلى الأعمال الأدبية التي حاولت الاقتراب من هذا الحدث الكبير وما حمله من معانٍ ودلالات ، تلفت انتباهنا إلى غلبة جاذبية الشعار السياسي اللحظي عليها، واللغة الفنية المباشرة التي لم تستطع تجاوز الصيغ النمطية للمأثورات السياسية السائدة ومعجمها اللغوي الكلاسيكي .. ومن ثم ؛ عجزت عن محايثة تاريخ اجتماعي – سياسي له عمق جمالي ومعرفي ، بمقدوره الإمساك بالحياة بكل كثافتها وقلقها وحريتها. على نحو ما نلمسه ، مثلا، في قصيدة صلاح عبد الصبور " إلى أول جندي رفع العلم في سيناء" :
تراك ،
وأنت في ساح الخلود ، وبين ظل الله والأملاك
تراك ، وأنت تصنع آية ، وتخط تاريخا
تراك ، وأنت أقرب ما تكون
إلى مدار الشمس والأفلاك
تراك ذكرتني ،
وذكرت أمثالي من الفانين والبسطاء
وكان عذابهم هو حب هذا العلم الهائم في الأنواء
وخوف أن يمر العمر، لم يرجع إلى وكره
وهاهو عاد يخفق في مدى الأجواء
فهل، باسمي وباسمهمو لثمت النسج محتشدا
وهل باسمي وباسمهمو مددت إلى الخيوط يدا
وهل باسمي وباسمهمو ارتعشت بهزة الفرح
وأنت تراه يعلو الأفق متئدا
وهل باسمي وباسمهمو همست بسورة الفتح
وأجنحة الملائك حوله لم تحصه عددا
وأنت ترده للشمس خدنا باقيا .. أبدا ... إلخ .
لذلك رأى جُلّ الكتاب والشعراء أن حرب أكتوبر أتاحت لهم اكتشاف لغتهم الخاصة ، ومغزى ارتباطهم بالأرض الذي يستردهم من سديم قصي ، ليرتحلوا مع الوطن إلى آماد بعيدة تعمِّق رهاناته ، وتشتق مفاهيم جديدة على صعيدي الحياة والإنسان ، تتدفق خلالها الرغائب والأحلام لتخاصر مطلق الحرية ، فتتداخل الأزمنة والحكايات ؛ بما يفضي إلى صهر كامل لوحدة الحقيقة والمعنى في تجلياتها الحياتية والعيانية ، كما عبَّر عنها عبد الرحمن الأبنودي في قصيدته "المتهم" المهداة إلى كل شهيد عربي في الماضي وفي المستقبل :
ما تكتبوش اسمي على قبري / ولا تنصبوش شاهد / ولا تغرسوش صبَّار / ما تنظموشي القصايد / ولا تلعبوشي معايا لعبة الأشعار / وادي الحكاية بأمانة : / لمَّا لقيت وش الوطن بيضيع / اسم الوطن بيضيع / ريحة الوطن بتميع / والشوك بيتجاهل زهور الربيع / قررت أفدي الجميع / نطّيت في قلب الزمن / سديت عيون العفن / وهتفت باسم الوطن / الوطن هو الديانة / والوطن من غير زنازينهم خيانة ... إلخ .
وبهذا ولد الجندي المصري من أقانيم الحرية التي منحتها له حرب أكتوبر حين أعانته على تحرير فاعليته من شروطها الكابحة ، ومن شعور الأمة الجمعي الذي يتزاوج فيه الخاص بالعام .. المكان بالزمن .. والجسد بالحياة .. فقدَّم للعالم ملحمة بطولية أذهلت إسرائيل نفسها بأساليب مواجهته ومستوى تدريبه ؛ مما زاد من وطأة النقمة الشعبية داخل الكيان الصهيوني على قيادته العسكرية ، وظهرت حركات احتجاج أشهرها " حركة مواطن إشكنازي " ؛ وهو جندي قاتل في خط بارليف ؛ مما دفع حكومة جولدا مائير إلى فتح تحقيق في نتائج الحرب ، وسميت هذه اللجنة باسم رئيسها " لجنة إجرانات " التي أوصت بإقالة رئيس أركان الجيش "دافيد إليعازر" ، ورئيس الاستخبارات العسكرية " إلياهو زعير"، ثم أقيلت حكومة غولدا مائير وتألفت حكومة جديدة برئاسة إسحق رابين. وهو ما أطلق خيال الشاعر أحمد فؤاد نجم وملأه بالآمال العريضة ، كما نلمسه في قصيدته " منشور وطني علني رقم واحد" :
أيها المواطنون / أيها المواطنات / مصر من طول السكات / بتناديكم / تسمعون ؟ / عطروني بالبارود / كحلوني باللمون / عايز أغمض / أو أفتَّح / يرجع الشوف للعيون / والقى سينا جوّا حضني / والجناين والزتون / يا حبايبي / يا جنودي / ما عساكم تفعلون ؟ / يحكى من أمثال زمان / كل وقت وله أدان / يا بهية وخبرينا / يعني إيه / معنى الأدان ؟ / لمَّا نصحى في الصباح / والخلايق مجروحين / تبقى حي على الكفاح / والسلاح يا مظلومين ... إلخ .
ودفع الكتّاب إلى تسجيل بطولات نادرة واستثنائية كبطولات العميد أركان حرب صاعقة إبراهيم الرفاعي مؤسس وقائد المجموعة 39قتال ، على نحو ما فعل جمال الغيطاني في روايته "الرفاعي" ، وبطولات نايف العاقل ورفاقه البسلاء كما رصدها حنا مينا في روايته "المرصد"،أي مرصد جبل الشيخ .
غير أن فرحة أحمد فؤاد نجم وأمله في النصر لم يدما إثر إعلان الرئيس أنور السادات قبوله وقف إطلاق النار ؛ توطئة لتسوية جزئية بين مصر وإسرائيل تُفضي إلى فتح قناة السويس وانسحاب إسرائيلي محدود لمسافة عشرة كيلو مترات شرق القناة ؛ ومن ثم خلق جوار طبيعي مع مصر ، وإجبار سوريا على خوض حرب خاسرة تخضعها للشروط الإسرائيلية، فكتب "الفاجومي" قصيدته "عطشان يا صبايا" معبرا عن حزنه وتخثر أحلامه :
عطشان يا صبايا / وانا عاشق.. ع السبيل / عطشان / والمية ف بلدي / على عكس ما يجري النيل / والنخل العالي مطاطي / والجذع الواطي ذليل / والريح العاكس / كابس / والريح العاطي / بخيل / والنسمة اتعكر لونها / من هم الناس / يا خليل / عطشان والنيل في بلدنا / والزرع أخضر / وجميل / وانا كنت امبارح خالي / واليوم دا / صبحت عليل ... إلخ .
وبذلك وقفت هذه الأعمال في معالجتها حرب أكتوبر ، عند تخوم لحظة العبور فحسب ، وما خالج النفس من انفعالات ومشاعر مشحونة بالأمل في النصر وهزيمة العدو الكولونيالي العنصري ، متوكئة على لغة تقريرية .. منبرية زاعقة ، لم تستطع أن تمتح من صيغ الحياة وأسئلة المجتمع وذاكرته ؛ فراوحت بين التسجيل والخطابية ، ولم تُحْدِث صدمتها الدلالية ( اللسانية والرمزية ) في إطار رؤيوي بصير. لهذا جاء بناؤها الدرامي ضعيفا .. مترهلا .. كما شكت مسرحيات عدة من طراز مسرحية " محاكمة عم أحمد الفلاح " للدكتور رشاد رشدي مدير أكاديمية الفنون ومستشار الرئيس أنور السادات للشؤون الثقافية، شكت من إسقاطات سياسية مجانية ، وكليشيهات مكرورة جاهزة .. وتغييب لأبعاد الصراع السياسية مع العدو الصهيوني ، كقوله : " الحكاية يا إخوان .. مش حكاية حرب وسلام .. دي حكاية أهم وأعم ؛ حكاية الإنسان مع الشيطان " ! أو سرده حكاية عم أحمد الفلاح ( رمز المقاتل المصري ) مع إسرائيلي جريح التقاه صدفة في سيناء ، فحمله على كتفه ، فكان جزاؤه زخات من الرصاص أطلقها على رِجْله فقطعها .بَيْدَ أن عم أحمد النبيل لم يأبه لإجرام الصهاينة هذا ، ومضى في كرمه لا يلوي على شيء ، وما إن صادف طيارا إسرائيليا أعزل ، حتى دار بينهما حوار متهافت خالٍ من أي محتوى سياسي جاد ، أو فهم راقٍ لإستراتيجيات السياسة الأميركية – الإسرائيلية في الشرق الأوسط في الماضي والحاضر . لذلك راح يجترّ الأفكار الشائهة عن قضية الحرب والسلام ، والصورة الزائفة عن العدو الصهيوني الهش ..الأخرق ، على نحو ما يلخِّصه لنا الحوار التالي :
عم أحمد : هيه.. أعمل فيك إيه دلوقتي ؟ أعمل إيه ؟
الطيار ( يرفع يديه مستسلما ) : ماعنديش سلاح ، أنا في عرضك يابيه !
عم أحمد : في عرضي؟ لا ، قولي انتم بتحاربونا ليه ؟
الطيار ( لا يرد ) .
عم أحمد : ما تتكلم .. خرست ليه ؟
الطيار : ها قول إيه ؟
عم أحمد : السؤال ده صعب عليك ؟ نسأل سؤال تاني : الأسطورة راحت فين ؟
الطيار : الأسطورة ؟
عم أحمد : أيوه .. أسطورة الجيش الذي لا يقهر .. مش دا اللي كنتم بتقولوه ؟
( الطيار يفكر قليلا ، ثم يشير إلى جعبة السلاح التي يحملها عم أحمد ) .
عم أحمد ( محتجا ) : غرضك تقول إننا غلبناكم بالسلاح ؟
الطيار : أيوه .
عم أحمد ( حانقا ) : بالسلاح بس ؟
( الطيار يهز رأسه موافقا ) .
عم أحمد ( أشد غضبا وهو يرمي بالسلاح بعيدا ) : طب آدي السلاح أهو .. تعالى .
الطيار ( خائفا لا يدرك ) : آجي فين ؟
عم أحمد : ادخل لي ، احنا الاثنين أهه من غير سلاح . ادخل لي .
الطيار ( يزداد خوفه ) : دقيقة واحدة أفكر .
عم أحمد : تفكر في إيه ؟ إنت مش راجل ؟ يالله ( يتقدم نحوه مشمِّرا ساعديه ) : واحد .. اثنين .
الطيار ( فجأة يجري مذعورا وهو يصيح ) : مصري .. مصري .. مصري .
أما شخصية عم أحمد الفلاح فوقعت ضحية التسطيح الإنشائي ، والبلاغة الملتبسة المستندة إلى خيال فقير ، ولغة متعثرة ، كما ينقلها لنا المشهد الآتي :عم أحمد لحمه دهب ، عضمه فضة ، شعره من نور السما ، جذوره في الأرض الطيبة .. صيف وشتا .. سنة بعد سنة ، رواها .. وروته .. وِلِدْها .. وولْدِتُه .. ما اقدرش أقول إنه ابنها وإنها أمه ، اللي أعرفه إنه دمها وهي دمه .. إلخ . ثم يعقد محاكمة لأمشاج غريبة .. عجيبة من البشر بناء على رغبتها التي لم تتضح لنا أسبابها أو مبرراتها ، حتى إن اثنيْن منهم طلبا الإعدام لنفسيهما جزاء لهما على ما قاما به من أدوار مشبوهة : الأول فرَّ من الجيش ليتمكن من إعالة والده المعاق ، لكن حين نشبت الحرب استجاب لداعيها الوطني ؛ فاستلّ رشاشا صوَّبه نحو دبابة فأجهز على مَنْ فيها ، والثاني مُحْدث نعمة كان يحترف التسول ، والثالث أراجوز ، والرابع حاوٍ يُجيد الخداع والمخاتلة ، والخامس أبو لسان الثرثار المتفاصح البارع في "الكلامولوجيا". وبذلك لم تستطع مسرحية "محاكمة عم أحمد الفلاح " أن تتجاوز النظرة التقليدية إلى الواقع ومعطياته، وتكوين علاقة حرة متكاملة معه تمكّنها من فضح التناقضات والأساطير السياسية التي تعمل على تمويهه وتقنيعه ؛ وذلك بفضل لغتها الفنية العاجزة عن أن تجعل من الحاضر لحظة مكثفة مرتبطة جدليا بالماضي والمستقبل .
أما مسرحية "رأس العش" لسعد الدين وهبة ، فتطرح شيئًا أعمق يضع قضية الحرب والسلام على أرضية وعي تاريخي يلامس أسئلة الفرد والجماعة ، لكن سرعان ما تغيم الرؤية ، وتفقد البوصلة الهادية إلى فهم الخريطة السياسية والاقتصادية للمجتمع المصري وعلائقها المتشابكة . فرشاد الذي غدا واحدا من الكولاك بعد أن كان فلاحا معدما ، يتحمس بحكم وضعيته الطبقية الجديدة ومصالحه ، للصلح مع إسرائيل وإنهاء حالة الحرب : " نصطلح .. نتفاهم معاهم ونخلّص نفسنا ، ولمّا نبقى قادرين عليهم نبقى نخلّص حقنا".. بينما يذهب عطية الذي كان مجندا في حرب 1956 وفقد ذراعه فيها ، إلى حتمية المواجهة العسكرية مع العدو الصهيوني الاستئصالي الذي خَبَرَه وأدرك أهدافه التوسعية الاستيطانية :"ما هو لو استنينا كده ، الناس هتطق من الغيظ وتموت .. وموتة بموتة نموت هناك أحسن".. في الوقت الذي ضغط فيه محمد خفير القرية على الشيخ رجب صاحب الحانوت لافتعال أزمة تموينية تمكنه من رفع الأسعار والتربح منها .. غير أن الرجل لم ينصع لما طلب منه ، مسوّغا رفضه بأن"الناس مش قادرة تصلب طولها .. بعتوا رجالتهم في الحرب.. اليهود هيستلموا الرجالة هناك ، واحنا نستلم الولايا والعيال هنا.. هُمّ هيلاقوها منين ولا منين؟". وبذلك تميط المسرحية اللثام عن هذه الوحدة الديالكتيكية القائمة بين الطبقي والوطني ؛ فهما – كما يقول المناطقة _ واحد بالشخص ، اثنان بالاسم . غير أن المؤلف يرى أن روح أكتوبر تلبست المجتمع وأخذت بتلابيبه ؛ فأنشأته خَلْقا جديدا وبشرا سويا . لهذا ما إن عاد اثنان من المقاتلين إلى القرية في مهمة ما ، وقصّا على أهلها صورا من الحرب وما قدّماه فيها ، حتى انتفضت عن بكرة أبيها تثأر مما لحقها من غبن على يد رئيس الجمعية الزراعية ، وتومرجي الوحدة الصحية ، ولم يبيتوا ليلتهم إلا بعد ردم البركة الآسنة التي أهملت زمنا. فهل دفعت حقا حرب أكتوبر إلى مواجهة اجتماعية سياسية بين المستغِلين والمستغَلين كما يزعم سعد الدين وهبة.. أم إن حرب أكتوبر التي قادتها برجوازية مشوهة ذات تطور رث أسهمت بسياستها الاقتصادية الأنانية في خلق أجواء غير صحية أشاعت الفساد والرشوة وتهريب رءوس الأموال إلى الخارج وترسيخ علاقات غير متكافئة مع الغرب بحكم اندماج اقتصادها العضوي في الاقتصاد الرأسمالي العالمي وخضوعها لقوانينه؟ ومن يقرأ اتفاقية الفصل بين القوات المصرية – الإسرائيلية والمشروعيْن المقدميْن من موشي دايان ومن السادات يجد تطابقا في الرؤية حول ضرورة إعمار قناة السويس وانتهاج سياسة الانفتاح الاقتصادي واستثمار رءوس الأموال الأميركية والأجنبية وإلغاء دور القطاع العام ؛ الأمر الذي دفع الدبلوماسية الأميركية إلى التحرك السريع باتجاه إنجاز التسوية وتقوية العناصر المعتدلة في الشرق الأوسط ، بل إن موافقة السادات والسعودية على رفع حظر النفط عن أميركا قبل أن تتوصل سوريا إلى اتفاقية فصل بينها وبين إسرائيل ؛ جعل موقع إسرائيل يزداد قوة في المفاوضات . وهو ما عبَّر عنه بقوة عبد الرحمن الأبنودي في قصيدته "سوق العصر" :
يلكزني حساني شهيد أكتوبر / بيد غرقانة دم / وعيون طايلها الهم / يسألني عن موتُه / ويهزني صوتُه / يقوللي : لما انت ما بتكرهش أمريكا / أنا مت ليه .. ؟ واللي قتلني قوللي مين بالظبط ؟ / وقاللي حساني: أكدبك ؟ حاشا / بس انت / ماتقولليش عاد الباشا / لإنُّه عاد من زمان / وابنه اللي متربي على اليوم ده / رجع من زمان / طلع وماله المستخبي بان / واستولى على الشقة وع الدكان / ونظِّم الطوابير للغلبان / رجع اللي بيدرس أصول الهوان / يعلِّي صوته في القاعات / وينجعص في صفحة الجورنان / رجع يدافع عن ماضيه الكبير / في ذل شعبه الفقير/ هذا أوان الأونطة / والفهلوة والشنطة / تعرف تقول جود نايت/ وتفتح السمسونايت/ وتبتسم بالدولار...؟ تقفل بيبان الوطن/ وتقول بتفتحها ؟ وترمي مفتاحها ؟ وتبيع في أمك وابوك؟/ وداع يا أرض الوطن/ تحت الطوفان الجديد/ يا ضحكة التجار/ هيه اللي حتوصلنا لشطوط الأمان/ وتصلّي بينا العيد...إلخ. وبذلك نجمت عن مفاوضات التسوية مع مصر عقب حرب أكتوبر، سياسة الانفتاح الاقتصادي أي التبعية الكاملة لرأس المال العالمي الذي يجري تدويله في صورة الشركات متعدية الجنسيات ، وعادت الرأسمالية التجارية والمالية القديمة وكبار ملاك الأرض المتسلطون من قبل ، وتشكلت فئة طفيلية من السماسرة والموظفين الكبار في الدولة ، وأصبح من شروط منح القروض الأميركية لمصر وغيرها أن تنفق قسما كبيرا منها في قطاع الخدمات بما لا يخلق تراكما نقديا قابلا للتوظيف من جديد ، ويساعد على إيجاد مشكلات تنموية تدفع إلى تراجع النمو في القطاعات الإستراتيجية الأساسية ، بل تمخضت عن اتفاقية الفصل بين القوات المصرية- الإسرائيلية ، الحرب الأهلية في لبنان. لذا قال عبد الرحمن الأبنودي في قصيدته السابقة :
"ماعادتْش حربنا واحدة زي ماكانت لأ حربنا حربين : حرب الدولار والرغيف / حرب المدن والريف/ موت يا الفقير ياللي طعامك جهاد/ من إمتى شفنا الضرع ناشف .. وجاد؟ ودا....ع/ يا أرض الوطن تحت الطوفان/ لإني ناوي أغرق مع الغرقان/ لإني ناوي أفقر مع الغلبان/ وأبحث عن الإنسان/ في قلمي وف صوتي/ وحافضل أقول الحق/ حتى ولو ده كان/ سبب موتي" .
وقد استطاع نعمان عاشور أن يقدم الكوميديا الاجتماعية الناقدة في مسرحياته التي رصدت طبيعة المأزق المصري الراهن ، والتحولات الاقتصادية التي أدت إلى إعادة توزيع الثروة والدخل الوطني لصالح الفئات الطفيلية والبيروقراطية ، وأبعدت الناس عن الفهم العقلاني والمنطق العلمي وجعلت انتماءهم الاجتماعي مشوها . فبعد أن رأى جودة والعمدة في مسرحية "وابور الطحين" أن "المكنة بقت اشتراكية".. وألفى عطوة في مسرحية"عطوة أفندي" أن "المحل بيشتغل حسب القانون الاشتراكي.. العمال في مجلس الإدارة.. والأرباح سنوية.. والعلاوات دورية.. والتأمين بيمشي".. وتمنى محمد النمس في مسرحية"بلاد بره" أن يخرج جنينه "غير دول (يقصد النماذج التي تعرضها المسرحية) ، وبعيد عنهم ، ومش منهم.. لازم يطلع من رمل الصحرا ومية النيل وطين الأرض ..ابن المستقبل غير دول كلهم".. وجد العم نعمان عاشور في مسرحيته "برج المدابغ"(1974 ، وعرضت عام 1977)، مجتمعا مصريا آخر يقوم على المضاربات والتلاعب في سعر العملة وارتفاع أسعار الريوع والتهليب والقوادة . وهو ما يجسِّده هنا "حي الدقي"الذي يقيم فيه السائحون العرب الباحثون عن المُشَهِيات والمسليات ، ويلتقون عبره بالوسطاء والسماسرة الذين يؤجرون كل شيء من الشقق المفروشة إلى الساقطات .. وهنا يبرز نموذج سلامة بيه "الشيخ سلامة سابقا" الذي جمع بين الدنيا والدين ، وشهد حراكا اجتماعيا أتاح له القفز والصعود وتكوين الثروات.. وعلى دربه ، سار ابنه عصام وكريمته وبعلها ، ومعهم "دولت هانم والأجر على الله" التي تتاجر في كل شيء ، ولا تتورع عن فعل أي شيء يأتي لها بالمال الوفير والصفقات المربحة. وبين هؤلاء جميعا ، يتحرك الرائد هشام سلامة على كرسي متحرك ، بعد أن فقد إحدى ساقيه في حرب أكتوبر ، تطارده نظرة الجندي الذي أصابه صاروخ فصل رأسه عن جسده ، فسجلها في لوحة من رسمه ، يقف فيها الصاروخ على هيئة عمارة أبيه ؛ مستخلصا منها المفارقة بين من عَبَرَ ومن هَبَرَ .. بين من افتدى شعبه وسعى إلى تحريره ، ومن تاجر بدمائهم واستباح أرواحهم النبيلة.. غير أن الصاروخ الذي قتل جندي أكتوبر ، لن يفتأ أن يرتد إلى نُحر صاحبه ليصيبه في مقتل عندما تختل معادلة الصراع ، وتتغير قواعد اللعبة . وساعتها سيهرب الانبطاحيون بمالهم الحرام ، كما هرب سلامة بيه تاركا عمارته قبل أن تتصدع مثل نظيراتها المجاورات. لهذا رأى محمود دياب في مسرحيته"رسول من قرية تميرة للاستفهام عن مسألة الحرب والسلام"(أنضج الأعمال التي كُتبت عن حرب أكتوبر) جدل الداخل والخارج بين رجال الأعمال وأصحاب المشروعات الحرة ، والمتروبول الرأسمالي العالمي الذي تمثل إسرائيل أداته العدوانية التوسعية في المنطقة. ومن ثم ؛ يأتي استيلاء الحاج دسوقي المليونير على أرض ابن أخيه المقاتل الذي استشهد في حرب أكتوبر "فكري" ، واضطلاعه ببث دعايات الأعداء المغرضة عن سقوط مدينتي السويس والإسماعيلية في يد إسرائيل لتوهين عزيمة الشعب المصري ، يأتي في سياق الانحياز الطبقي الذي أفرزه الاستقطاب الاجتماعي الحاد الذي أنتجه عقد السبعينيات الساداتي وتنفيذه سياسات صندوق النقد والبنك الدولييْن .الأمر الذي دفع أهالي القرية إلى مواصلة الحرب على الاستغلال والنهب اللذيْن تمارسهما قوى التبعية للخارج ، التي تدرك أن زيادة الاستثمارات الأميركية في مصر رهن بانتفاء حالة الحرب مع إسرائيل ، والاعتراف بها ، وفتح الأبواب على مصاريعها أمامها . لذا أوقفت الرقابة عرضها ، فقدَّمتها فرقة جامعة دمشق في مهرجان دمشق للفنون المسرحية عام 1977. غير أن مسرحيتي "الصخرة والعصافير تبني أعشاشها بين الأصابع" لمعين بسيسو ، تتناولان موقع القضية الفلسطينية من التسوية الجزئية بين مصر وإسرائيل عقب حرب أكتوبر، وإقامة كيان سياسي للفلسطينيين "أقل من دولة ذات سيادة" بتعبير إيهود باراك ، أوشبيه بباندورا أو موناكو بتعبير بنيامين ناتنياهو؛ إذ لن يحصل الفلسطينيون سوى على قطعة صغيرة ممزقة الأوصال من الأرض الفلسطينية من غير جيش ، ومن غير حق العودة ، وملحقة بدولة إسرائيل. لهذا قال صوت الرجل المدفون تحت القبة ( رمز القضية الفلسطينية المقبورة ) في مسرحية "الصخرة": مسموح لفلسطين أن تتكلم أن تكتب .. لا أن تمشي أبدا / أن تحمل علما لا أن تحمل سيفا . وراح صوت الرجل المدفون يسأل المذيع : هل أصبحت نانسي كيسنجر مطربة الشرق الأولى؟ في إشارة إلى الدور الذي نهض به هنري كيسنجر في حرب أكتوبر ومفاوضاتها التي رمت إلى الحفاظ على المصالح الأميركية في حوض البحر الأبيض المتوسط . وهو ما يذكرنا بما دوَّنه المناضل الفلسطيني المغدور أبو إياد ( صلاح مصباح خلف) في كتابه "فلسطيني بلا هوية" من أنه التقى في شهر تموز/ يولية 1973 جوزيف شادر أحد الأعضاء الرئيسين في المكتب السياسي لحزب الكتائب ، وكان على علاقة وثيقة ب"بوب كلي" الدبلوماسي الأميركي الذي يعمل في بيروت ، ويتردد عليه. فأنهى إليه أنه علم من مصدر موثوق به ، أن حربا عربية إسرائيلية ستنشب قريبا ، وستقوم مصر وسوريا بمهاجمة إسرائيل بُعيد ذلك بشهريْن ، وأن مؤتمرا للسلام سوف يعقد إثر ذلك بقليل ، وستدعى منظمة التحرير الفلسطينية إلى مائدة المفاوضات إلا إذا جرت تصفيتكم قبل ذلك. لهذا صرخت المرأة حافية القدميْن ( رمز الشعب الفلسطيني العنيد) مخاطبة الرجال والنساء الذين يدورون حول القبة مؤكدة لهم : أيا وطنا لن يصبح مخفر شرطة / يا وطنا لابد وأن تصبح موسيقى دمه / مارسيلييز العالم/ أنت وعدت الأرض العربية بالوردة والزلزال.. ومضت المرأة في مسرحية "العصافير تبني أعشاشها بين الأصابع" تغني جذلة لساقها اليسرى : من علقني فوق الخشب نزل من الخشب / ناولني / تفاحة / قال : خذيها واستمعي لي :/ من علقني فوق الخشب / فوق الأرض كان يخاف / فلو لمست قدمي الأرض / ستتبعني الأرض / والفقراء يصيرون ملوك الأرض.. وهنا يؤكد شاعرنا الفلسطيني حرص العدو الصهيوني والقيادة الفلسطينية المتنفذة على تقييد حركة الشعب الفلسطيني وتصفية مقاومته المسلحة ؛ حتى يتمكنا من تمرير كل الاتفاقيات السرية والتنازلات التي قدمت بدءا من البرنامج المرحلي في الدورة الثانية عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني عام 1974 ، ومن الدورة السابعة عشرة إلى الدورة التاسعة عشرة ، والمشاركة في مؤتمر مدريد وثنائيات واشنطن وسواهما . لذا صاحت المرأة في وجه المتآمرين متوعدة : قدمي جرس الأرض / من يتبع قدمي أعطيه جرس / دقي يا قدمي يا جرس الأرض / ستعشش في أذني عصافير الأرض / ستعشش بين أصابع قدمي عصافير الأرض / دقي يا قدمي يا جرس الأرض .. وعلى هذا النحو، استطاعت أعمال نعمان عاشور ومحمود دياب ومعين بسيسو والأبنودي أن تتجاوز الطابع الاحتفائي .. التمجيدي الرسمي لحرب أكتوبر ، وأن ترى ما وراء الحدث من تحولات خطيرة أصابت بنية الحياة المصرية على مختلف الأصعدة ، وأفضت إلى تكريس الهيمنة الأميركية – الإسرائيلية على الشرق الأوسط ، وضرب حركة التحرر الوطني في عمقها العربي ؛ بتحييد مصر عن دائرة الصراع العربي – الإسرائيلي ، وجعل المفاوضات السياسية وليس العمل العسكري الطريق الوحيد للتسوية كما قال موشي دايان . من أجل ذلك :
أحب أغني النصر في بلادي / بشرط يبقى النصر نصر الناس / نصر المكن ع الفاس / والعيشة بالإحساس / والطفل والكرَّاس / ورغيف ما يبعنيش في دكانه / وكرامة تهزم إهانة / واحس ليَّا وطن / واحس ليَّا ناس / وحاجات ماليهاش حصر / ساعتها أحس بمصر .. كما قال الأبنودي في قصيدة "سوق العصر" .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مخرجة الفيلم الفلسطيني -شكرا لأنك تحلم معنا- بحلق المسافة صف


.. كامل الباشا: أحضر لـ فيلم جديد عن الأسرى الفلسطينيين




.. مش هتصدق كمية الأفلام اللي عملتها لبلبة.. مش كلام على النت ص


.. مكنتش عايزة أمثل الفيلم ده.. اعرف من لبلبة




.. صُناع الفيلم الفلسطيني «شكرًا لأنك تحلم معانا» يكشفون كواليس