الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من شاعرية اللفظ إلى شاعرية المعنى.. نحو رؤية جمالية جديدة.

الطيب عبد السلام
باحث و إعلامي

(Altaib Abdsalam)

2019 / 10 / 6
الادب والفن


من شاعرية اللفظ إلى شاعرية المعنى
نحو رؤية جمالية جديدة

اتوقف قبل أن اكتب شيئا عن الشعر لفيض البهجة و الضوء اللذان يغمران بصيرتي، إنه عناق جائش أكثر من كونه شيئا يقال، نخون جماله حين نكتب عنه، نمنع تدفقه حين ندله على الطرق.. لكن ما عسانا أن نفعل، فليكن كلاما و كأنه فضاء مفتوح لحركة الجمال لا طريقا مدرسيا مسدودا، نعم ثم مفارقة في هذه العبارة كوننا نقول ان طريقنا المفتوح هو معبر الجمال فنمدرسه دون قصد،تماما كما يحجب اللفظ المعنى و الكوكب الطاقة و الجسيم الموجة، لكنه حجب لا بد منه لحدوث التجلي و إنعكاس جمال الضوء في الخضرة الزاهية التي يهطل عليها.
لكن ما هو الجمال أبتدارا؟
الجمال هو "وقع الأثر" هو التجلي و الكشف هو فعل الإحالة لا الإحالة نفسها، الكلمات لا تقول شيئا إنها تصف و تدور مثل الكواكب حول الشمس، جمالها يتأتى بمقدار ما تعكسه من تألق الضوء، لا جمال للضوء في ذاته.. الجمال يحدث نتيجة إنعكاسه و حلوله، تماما كالمصابيح الملونة، او كواكب ملونة تدور حول المعنى مصيرة ذلك الضوء الواحد رؤى و مشاهد عدة يمليها عليها وضعها و ظرفها المداري حول الشمس، الجمال هو هذه الفرادات و السير بين الإحالات و التلذذ بإمساك الخيط و هو يتفرع إلى خيوط تتفرع إلى خيوط أخرى رأين الخيوط الصغيرة منسلة من الخيط الكبير.
لكن ما هو المعنى؟
المعنى هو رمز الحقيقة، النصب التذكاري الذي نقيمه على شرفها، الشمس التي يحل فيها الضوء و يفيض منها، إنه العين الرأية التي نتملى عبرها الاشياء
و نتملاها في عين تلك الأشياء، إنه تجربة العقل البشري مع نفسه ماشيا تجاه الاشياء محاولا فهم تحققها و فهم نفسه في تحققها، الرؤية هي المسافة، هي المصفاة التي تجتبي الماء و تتركه بعد ان يمسها بإمتزاجه، ليس شيئا خارج التجربة بل هو في علاقة ميلاد مستمر مع التجربه، لا مسلمات إذ ان المسلمات تجعل من العقل اعمى او مكررا لما رأى، تجعله بعيدا عن حيوية الحياة محتجبا عنها بتأليهه للحظة سابقة نصبها مقياسا لكل ما سيأتي بعدها، غير واعي بمسألة الصيرورة و فعلها المستديم في تبديل كل شئ.
الجمال إذا هو منذور هذا الهم! منذور الدلالة على هذا التألق و الشعر هو عين كل جمال، الشعر الذي كلما ذهبنا إليه عدنا منه ناقصين و شاعرين أننا لم نستنفذه بعد، فنعاوده لإخذه كمعاودة الموج للشط بينهما اللقاء الأبدي و الوداع الأبدي.
إن جمال الجمال يكون في حيويته، و جمال الشعر يكون في حيوية كلماته او أثاره، و تلك الأثار لن تستطيع الإضاءة بالجمال ما لم تقفز في تدفقه، و لن يكون ذلك القفز إلا لعقل حر حاضرا بوصفه شاهدا لا قائلاً، يذبل الشعر بسرعة إذا ما حاول سجن المعنى و تجميده، لإن المعنى بطبعه منفلت و حين يمسك في كلمة او جرة فإنه سرعان ما يصير رمادا و ينأى القارئ عنه لإنه "قد قرأه".
و المعنى ايضا "واقعي" في حدوثه، ليس فعلا يتأتى من كائنات فضائية، بل هو يومي جدا و يمشي مع الناس في الطرقات، مشية مخالسة لإنه يظل دوما فائض نقصانهم، و لذا فهو يعاف الكلمات الأشبه ب الاشواك و الحصى، تلك الكلمات التي تشوهه لتحكم بإسمه، يستثقلها جدا بل و لا يعرفها ايضا، يبتسم مستفهما ثم يقول : هل يعنونني انا؟
قدرهم ان يبنوا معابد لإلهة إبتدعوها غيا ثم نصبوا ذواتهم كهنة لها، فلما لم يزرهم العابدون إحتجوا و قالوا : "لم يفهمنا أحد".
إنهم شظايا كونية تائهة، و ليس تيها نبيلا كما يظنون بل هو تيه الغبار الكوني الذي هو فضلات الكون.
الشعر ليس وحيا من السماء، ولا حتى كلام يقوله الناس البسطاء.. إنه بالضبط أشبه بالقنديل المضئ، فلا هو زجاج و لا هو ضوء، بل إنه هذا الإمتزاج بين المادي التأريخي و الخيالي الأبدي، ليس إبحارا في الخيال و التوهمات و ليس نداء باعة على بضائعهم، إنه وزنة موسيقية شديدة التفرد، وزنة لا قانون لها او طريقا بعينه يتبع، لإنها شديدة الحساسية تجاه اي تكرار و تقليد، هي وزنة لها صوتها الموسيقي المغايّر لتقول تألقها و سطوعها، إنها مشي بالملعقة على حبل السيرك، أقل حركة زائدة بها تطيح بحضور الجمال و يتصير الشعر محض كلام من ماء و تراب، لكل نفس دربها و مذاقها و تردد لونها، تردد كفيل بجعل الشعر محروسا ب الأبدية.
إن إكسير الخلود ليس خرافة بل هو دائم الحضور متى ما حظينا برؤية إلتماعته، رؤية تحتاج إبصارا من نوع خاص، إبصار بريئا كطفل و عارفا كحكيم، إبصارا يدخل الصيرورة كل مرة لإول مرة تماما كما نتنفس الأوكسجين كل مرة لإول مرة، إبصارا سامحا لما يُرى أن يفصح عن نفسه فلا يملي عليه تجارب رؤاه..إبصارا بريئا عامرا بالشك في نفسه و منفتحا على تجدد الحدوث و تجدد إحتمالاته.
اللمحة الخاطفة في الإمتداد.. اللمحة التي قالت كل شئ و لم تقله.
هكذا يظل الشعر "شابا إلى الأبد".
حينما تقراء شعر أنس مصطفى تستشعر شاعرية الإحالة الملهمة إلى خيالك و إلى إمتداد الكلمات صوب كلام لا مرئي يحيا بين هوامشها، الكلمات عند أنس هي طيور تسبح في الفضاء في سفر طويل لا تحيطه مادية الكلمة او الصفحة، و احيانا تكون ازهارا او بيوتا مهما خفتت اضواءها يظل الحنين زائرها الأبدي.
بيد أن طيور أنس و هي تحلق لا تراها تحلق كسرب للمعنى، بل أن كل طائر بينها هو مسكون ب الأفق و بالمعنى بطريقته الخاصة، "ممسوس بالمعنى ب كيفه"، لسنا إزاء "خطبة للحنين" بل في إصغاء شديد الثراء للطائر في حيزه من التحليق و هو الحيز الذي يصنعه الحيز الذي يجاوره، و ما يصنع الحيزان صوب حيز ثالث، إننا لا نعبر من لفظة إلى معنى، لا نعبر في اي مباشرة او قول نهائي بل أننا في أفق شديد الحركة شديد التداخل معطيا في النهاية" ملمح المعنى" المعنى المنفلت بدوره من ملمحه لكونه هو الأخر ملمح للحقيقة.
الكلمات في اكف أنس معاودة مستمره و إلحاح على الإستغراق فيها، ما إن تقلب الصفحة حتى تستشعر أن الطيور قد عاودت سفرها و البيوت تتأمل مغاربها، و كأنك كنت محض كاميرا فوتغرافية جمدت في صورة فوتغرافية ما شأنه المضي الأبدي.
و المعنى الأنسي يحيل الكلمات محض دلالات، محض أثار مؤقته لإنثيال جوه الرؤيوي و المجرة التي تملاء مادته الصامتة المظلمة.
أشعار الهايكو اليابانية أيضا و إن كانت شحيحة المعنى لكنها بضئيل معناها ذاك فإن الكلمات تستعيرُ تدفق الطبيعة و أزدهارها المستمر،و إن كانت إستعارة باردة و كما هي، تماما كمن يقطف الثمرة دون أن يأكلها.
إن المعنى في جوهره "حاصل العلاقة" إنفعال النفس بالحياة و بالطبيعة، طعامها منها و الروح الجديد المتولدة من ذلك الإتصال، إنه "اللمسة البشرية" على صخر الطبيعة و "صوته" بين أصواتها، إنه "طيته" من السديم بتعبير چيل دولوز.
إنه ليس إصغاء بحت، و ليس قولا بحت إنه ب الاحرى "صدى" الذي هو تفاعل بين الطبيعة الحية و الطبيعة البشرية الحية.
إنه "المسار الذي في المسار" فلا هو إنمحاء بحت لصالح المسار كشعر الهايكو و لا هو إنمحاء للمسار المحيط لصالح المسار الخاص كما يفعل مأمون التلب و جماعته،حينما يتصير الشعر هذيانا أكثر من كونه "إحتفال بجمال الإحالة التي و هي تحيل تكون جزاء من جمال ما تحيل إليه و تصطلي بنوره".
المسار المحمود درويشي هو خير مرآة ترينا "صيرورة الفوارق" فدرويش بعكس أنس الذي "صرعه المعنى" فذاب فيه جدا لدرجة أن انس لا يمكن إستحضاره او إستذكاره إلا حينما يقراء، بعكس درويش بحكم تجربته" الشديدة الدنيوية" إزاء أنس الروحاني الحالم.
درويش يعيد المعنى إلى الأرض و يصبر على قلق معناه في حيز الجسد، صبرا اودى به في النهاية إلى "مرض شرايين القلب"، رفض درويش إطلاق "سراح المعنى" ف أمسك "جمرة اللغة"، كان فدائيا جدا كفدائية بروميثيوس و هو يسرق النار من ألهة الاولمب و يمنحها لنا.
البرية الدرويشية هي المدينة و المقهى و اسوده عالية الزئير المكنيكي، إنه يرى هذه البرية الشرسة التي في قلب المدن الأسمنتيه، يرى في تلك البربرية البرية "تألق المعنى و تغير شكله"، لذا فقد كان شاعرا "من قلب المعمعة" و ليس ك أنس الذي و إن كان في هامش المعمعة إلا أنه بكى منها و أحتمى بطفولته،و بماضيه احيانا أخرى، "تأريخ معناه الخاص".
لذا درويش مقيم بيننا جدا، مقيم في عزلتنا بين المعية، كلماته مثل المارة في شوارع المدن الاوربية و العواصم العربية التي صنعها المستعمر، إنه صدى "لقاءات عدة و أشد تشابكا".
إن درويش قبل الشعر لديه "رؤية شعرية" شديدة الحساسية لإيقاع اليومي و لإيقاع الأبدية، إيقاع اليومي عبر إستعماله للغة خفيفة او كما وصفها هو في نصه لأعب النرد "او كريش في الظلام" خفة مستساغة و راهنة، و أبدية من ناحية "ثقل المعنى"، إن درويش و ككل ثقب أسود كان يعلم ان القوة و الديمومة و الجاذبية ليست في القول بل ما في وراء القول،في "الإحالة" الإحالة المنخرطة في دورها في حوار شبكي مع كل الإحالات، معاني المعاني التي هي معاني لمعان أخرى،كان محترفا في جعل الكلمات تقود إلى الشعر عبر التساؤل و الإنفتاح على الكليات الخالدة الملازمة للنفس البشرية، اعني كليات الوجود و الجمال و الحب و السياسة، لم يكن مستغرقا في اليومي بل ناقلا هذه التأملات و المواقف إلى أفق "فوق زمني" عابر للإنتصارات و الشعارات الأيديلوجية عبر فتحها على "فلسفة التاريخ"، و الذهاب إلى الماضي للحديث عن الحاضر، و الإصغاء إلى الحاضر بوصفه شجرة لبذرة الماضي، "راجع مقالي في الحوار المتمدن: من تاريخ التفكيك إلى تاريخ الصيرورة" .
إنه يوقظنا و بإستمرار من الغرق في فناء اليومي ليجعل من هذا الفناء اثرا لخلود يتجاوزه و يتجاوز كلماته برغم إستبسالها في الحياة، إنه يفتح مأساوية التلاشي على بهجة الميلاد الجديد، ميلاد يحرضنا على التوق إليه و التأمل فيه فيكون قلبنا بمثابة المغنى لعرس لن يشهده لكنه يشم رائحة يوسفه.
إنه يضع المسبار اللفظي على تخوم الغلاف الجوي، ثم يطلقه من بعدها ليلتحق بألاف النيازك و رسائل الحياة المبتعثه للمجاهيل القصية، المجاهيل التي ينسرب منها و لوهلة كوكب مثل كوكبنا.
وصل محمود بالشعر إلى الغلاف الجوي ضامنا شبابا ابديا، و من ثم أدرك أن هذا الشباب هو رهين كهنة كونيين فناداهم
و أنسحب من وجههم لائذا بقدرتهم مكتفيا بأنه حي و حر حين ينسى.
إلى هذا الحد.. إلى هذا الشجن...شجن اشعار المدن الغارقة و مثابرتها نحو الخلود المجهض وضع درويش جماليته بوصفها تجليا لشاعرية الصيرورة.. الصيرورة التي تفوقه شاعرية و جمالا تماما كما يفعل الأنبياء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ثقافة اوكي 03-06-2024 • فرانس 24 / FRANCE 24


.. القصف والنزوح لم يمنعها من الغناء.. رهف ناصر تحاول إيصال رسا




.. رهف ناصر فنانة توصل رسالتها عن طريق الغناء


.. باللغة العربية والإنجليزية.. الفنان التونسي حكيم بالكحلة يكش




.. الفنان التونسي حكيم بالكحلة: تقديم الأدوار الكوميدية صعب