الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تفاصيلٌ بسيطة تُنقذنا.

زيدان الدين محمد

2019 / 10 / 7
الادب والفن


"التفاصيلُ الصغيرة: خيطٌ سَلس لصُنع عقد من الطّراز الفاخر."
- نَدئ عادل.

في عالمٍ يسفحُ في سُخامِ التفاصيل، "إِنني من أكثرِ النَّاس صعوبةً، لأنني ممّن يهتمّون بالأشياء البسيطة، وتسعدهم التفاصيل الصغيرة، ولا أحد يهتم لمثل هذة الأشياء" على حدِّ تعبير دوستويفسكي وهو يشيرُ بصوبِ تلك التفاصيل المسجُورة بالبساطةِ، والتي من شأنها استيقافك لتُسكركَ بلذّة المزاهر في حين أنَّ العالم مشغول بقرعِ طبولِ الحربِ والغضب.

الأحداثُ الكبيرة، ليست بالغالب هي ما يثري حياتنا اليومية، والتي نحنُ بحاجةٍ لها لإنقاذنا وانتشالنا مِن عُرامِ عجلةِ الحياة الرُّوتينية. في حين أن تلك الأحداث الصَّغيرة قادرة على إنقاذنا ونثرَ لطيف الثَّلج في طُرقنا الصادخة. وأنتَ في عالمٍ مُدقع بالمعاطبِ، وقد تغيبُ عن مُصافحتكَ الآمال الكُبرى المُضنية حياتك، وتُهلككَ في انتظارها، علاوةً على مسودّة المتاعب التي تغرقُ بها يوميًا. و ريثما أنتَ بحاجةٍ لتجاوز كُل شيء، هُنالك التفاصيل البسيطة، الصغيرة، الشاردةُ من أكفِّ الأُفق الصعيبة، بإنتظارك دائمًا لتلتفتَ لها؛ فهي وُجدتْ لتُغني فقركَ بحاجتها لو أنَّكَ أُولعتَ بمخفيّاتِ الأمورِ وبساطةِ التفاصيل.

لستَ في حاجةٍ لامتلاكِ سيَّارة بوغاتي لتجاوز كُل شيء هو مُرهقكَ، كما أنَّ امتلاكك ساعةً مِن سويس ميليتري لَن تجعلَ الوقت لمَّاعًا باذخًا، وتذكرةٌ إِلى رينيه الفرنسية لن تُقدّم لكَ حقلَ اعتذارٍ عن مأساتكَ في وطنك، كذلك تجوّلك في مُتحف ميرو في برشلونة لَن يغنيكَ عن بهو لوحاتِ كاسبر ديفيد فريدريش والمُمكن الغرق فيها من خلالِ شاشةِ جهازك. أنتَ أيضًا لستَ في حاجةٍ لحضورِ مسرحيات شكسبير في لندن لتستطعمَ عبقرية حبكتهِ الأدبية. لستَ بحاجةٍ للثراءِ والتَّرف لتُحقق المُتعة، ولا بحاجةٍ للخلودِ لتتذوّق الحياة. فأنتَ إنْ ظننتَ أنَّ أيًا من هذهِ الأمور بإمكانكَ التتخفّف بها مِن أوتادِ الشَّقاء عليكَ فكأنَّما تبتغي الصيد في عرينةِ الأسدِ.

"تُنقذنا الأحداث الصغيرة". لعلّها حياتي أضحتْ تسيرُ على هذا النحو مُنذ أنْ أودعتُني في لطائف التَّفاصيل، وأبسط الأمورِ ،و لَدْن الأحداث. فمنظرُ نافذة تتسلّلُ سهام الشمس مِن خلالها ببراعةٍ ساحرة، تذودُ أوهامي السَّحيقة الباكية. التحامُ الصَّباح بسحابةٍ تفضُّ لنا عقود الدّر، قادرةٌ بتقديم اعتذارٍ لي عن كُل سوء يرتعُ في العالم. منظرُ حبل غسيلٍ يُعانق بلل الملابس المنشورة، يُنجيني من كربِ البلوى، واقتفاء ظلال الأشجارِ لا يخليني مِن تجدّدِ النُّعمى. وهكذا فإنِّي أتجاوزُ كُل شيء، بمسكِ بسمة حبيبةٍ راضية، بِطِراز الحُسن في صوتِ فيروزٍ، بعمودِ إنارة يحرثُ ظلاميتي، بتأمّل وريقات النعناع في شايٍ أتنفّس طيبه، بمقطوعةٍ لِشوبرت، بعذوبةِ شوبان في فالس الوداع، ببُكاء تشايكوفسكي في بُحيرة البجعِ، بجنون موتسارت على عرشِ البيانو، بنصٍّ اكتشفهُ صُدفةً في كتابٍ منسيًا على الرَّفِ، بالغوصِ في "ضِياع" الأخوين رحباني، بارتصافي شارعًا أبادلُ فيه الغُرباء حديثًا عابرًا، بقصيدةٍ عرجاء أُتمم كتابتها لحسناءِ الملامح، برُؤيةِ أصابع طفلٍ تُقطِّر عالمًا من خربشاتِ البراءة، بلوحةٍ فنيّة اتخطَّى بها تكويني الطِّيني، بِنباتاتٍ منزلية تُورق في ارجاءِ المنزل، بمشتلٍ أتوقّف قُباله لأتنفّس اخضراره، بلمسةِ قُماشٍ في متجرٍ للتو اكتشفته، بفناجينِ القهوةِ المُختلفة، بكتابٍ اقتنيه للتو، بفكرةٍ رشيدة استنبتُها من استنتاجٍ حصيف، بلونِ زهرةٍ تُعانق عينيّ، برقّةِ النَّدى على خصرِ العُشبِ، بغرقٍ مُنقذٍ في زوايا الفنِّ، بخطيبِ الرَّعدِ وحِبال الأمطار المُرسلة من السماءِ، بثمرةٍ تُعلن وجودها، بلبلابٍ على أكتافِ المنازل، بليلةٍ كافوريّةِ النجوم رقدَ الدّهر عنها.
بكُل تلك التَّفاصيل الزاخرة باللُطف والتي تعجزُ اللُّغة ترجمتها، والتي لا يلتفتُ كثيرًا منّا ليمنحها فُرصةً لتُعندل أيامه، وتصفي باله، ويستدفعُ بها المرء نقمة أحواله، بإمكانكَ أن تتجاوزَ تعسّفات الحياة. ولعلّها هذهِ التَّفاصيل البسيطة المُختبئة في جديلةِ أيامنا هي ما أشارَ إليها ماركوس أوريليس بِحاجتنا لها من أجل أن نحيا حياةً ينقشها الرضا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال