الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أوّلُ أجرٍ أتقاضاه

ضيا اسكندر

2019 / 10 / 10
سيرة ذاتية


في نهاية ستّينيات القرن المنصرم، لم أكن قد تجاوزتُ الثانية عشرة من عمري عندما كنت أتجوّل مغامراً في شوارع اللاذقية، مبتعداً عن الحيّ الشعبي الذي أقطنه عدة كيلومترات. كنت أحسُّ بأنّي أصبحت شابّاً بوسعي الذهاب والإياب إلى بيتي دونما رفقةِ أحدٍ من أسرتي.
مرةً وكنت أسير الهوينى في ساحة الشيخضاهر ببطءِ سائحٍ ينظر بشغف إلى كافة الاتجاهات، أراقب المحلات التجارية وباعة الأرصفة والمارّة، ولم يكن في جيبي قرشٌ واحدٌ. وإذ برجلٍ كهلٍ مربوع القامة تبدو عليه ملامح الثراء والطيبة بآنٍ معاً، يحمل كيساً من الخضراوات يناديني بصوتٍ متصدّعٍ:
- عمّو، لو سمحت هل يمكنك حمل هذا الكيس عنّي، فقط حوالي ثلاث دقائق ريثما أصل إلى بيتي؟
وبحماس الشباب الذين يُطربون لإسداء خدمة للكبار قلت له:
- تكرم عمّو.. وَلَوْ!
وسارعتُ إلى حمل الكيس الذي كان يزن حوالي خمسة كيلوغرام ومشيتُ بمحاذاته. شكرني الرجل واستأنف حديثه قائلاً بتنهيدة:
- إن ظهري يؤلمني، ولم يعد بمقدوري حمل الأوزان الثقيلة.. بأيّ صف تدرس يا بنيّ؟
- بالصف السادس عمّو..
- برافو، وأين تسكن؟
- بحيّ الرمل الشمالي.
- أوه، وماذا تفعل هنا لوحدك؟!
- إنني أحبّ السينما وسأزور جميع الصالات لمعرفة الأفلام التي يتم عرضها..
- مم، وما هي الأفلام التي تشاهدها عادةً؟
- أفلام هرقل وماشيستي وأفلام رعاة البقر (الكاوبوي)..
- عظيم.
لدى بلوغنا منتصف زقاق جانبي قريب من الساحة توقّفَ بغتةً وهو يمدّ يده إلى جيبه وأخرج منها فرنكين وقال لي وهو يرقبني بإعجابٍ هادئ:
- أشكرك يا بني، ها قد وصلتُ إلى بيتي. خذ هذه «الخرجيّة» اشترِ بها ما شئت..
أودعَ في كفّي الخرجيّة واستلم منّي كيس الخضراوات واتّجه إلى بيته.
وقفتُ مذهولاً، فهذه أول مرة في حياتي آخذُ أجراً عن عملٍ أقوم به. شعرتُ بأن حصولي على الخرجيّة من رجلٍ كهلٍ مريضٍ ساعدته في حمل أغراضه إهانة لي. ركضتُ خلفه منادياً باستحياء:
- عمّو.. عمّو لو سمحت!
وقف الرجل متسائلاً:
- نعم يا بنيّ ماذا تريد؟
قلت له وأنا أتلعثم بإجابتي:
- عمّو، لا أريد خرجيّة لقاء قيامي بحمل كيس لزمنٍ قصير. أرجوك! فإذا عرف والداي بالأمر سيوبّخاني على فعلتي..
تأمّلني قليلاً وقد تهلّلت أساريره ثم ربّت على كتفي بحنان وقال بلهجة مرحة:
- لا تقل يا ابني لأحد بأنك أخذتَ أجراً من رجلٍ مريض بسبب مساعدتك له..
- لا.. أرجوك، فأنا ساعدتك هكذا لأنني تربّيتُ على احترام الكبار والوقوف إلى جانبهم عندما يحتاجون إلى مساعدة.
لمحتُ توهّجاً في عينيه هو خليط ما بين الحزن والسرور وهتف بتأثّر:
- الله يرحم البطن الذي حملك. أنت ولد يفخر المرء به. ولكن إذا كنتَ تريدني أن أزعل منك، سأستعيد الفرنكين.
- لا عمّو، أرجوك لا تزعل.
ومددتُ يدي إليه محاولاً إعادة الفرنكين. أمسكني بساعدي وقد اغرورقت عيناه بدموع السعادة والامتنان وقال بصوتٍ متهدّج:
- هذه هدية منّي لك، وإذا لم تقبل بها والله سأبكي..
رنوتُ إليه، أحسستُ أن الحمرة تغمرني. وقفتُ مرتبكاً لبرهة وقد خذلني الكلام. ثم أعدتُ يدي إلى جيبي وابتسمتُ له وقد أشرق وجهي بالبهجة. بادلني بابتسامة عذبة وضمّني إلى صدره لثوانٍ وانصرف.
تسمّرتُ لحظات في المكان تتقاذفني مشاعر شتى، لعلّ أبرزها حالة الفرح التي غمرتني وتغلّبت على باقي المشاعر الأخرى. وقلتُ في سرّي بنشوة المنتصر: «وأخيراً سأعود اليوم إلى بيتي بسيارة السرفيس وليس سيراً على الأقدام كما جرت العادة. وسأنظر من شبّاك السيارة متباهياً إلى أولئك المعتّرين أمثالي وهم يغذّون السير نحو مقاصدهم راجلين».
قرّرتُ الاحتفال بهذه المناسبة العظيمة؛ فاشتريتُ سندويشة فلافل بنصف فرنك وتابعتُ جولتي إلى صالات السينما. وبين الحين والآخر أتفقّد ما بقي معي من الخرجيّة مدندناً بارتياح وأنا في بالغِ السعادة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المدرجات تُمطر كؤوس بيرة في يورو ألمانيا.. مدرب النمسا يُحرج


.. لبنان يعيش واقعين.. الحرب في الجنوب وحياة طبيعية لا تخلو من




.. السهم الأحمر.. سلاح حماس الجديد لمواجهة دبابات إسرائيل #الق


.. تصريح روسي مقلق.. خطر وقوع صدام نووي أصبح مرتفعا! | #منصات




.. حلف شمال الأطلسي.. أمين عام جديد للناتو في مرحلة حرجة | #الت