الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


للنحاس المشتعل في الذاكرة/ قصة قصيرة

رندة المغربي

2006 / 5 / 19
الادب والفن


كيف للدهشة أن تباغتني به لموعد لم أعد له من قبل أمام متجر صغير بين هذه الأزقة المتشابكة؟!
حين يغلي إدام الطعام في قدور "تقربع*" ملبية نداء يد أمي لسحبها من فوق رفوف المطبخ لتلقي بداخلها شرائح البصل المقطعة على شكل أهلّة سقطت للتو من أواخر الشهر بين أصابع أمي ، وبقى هلالي وحيداً في مدينة لا تغفو شهورها على كتفها المفقود !

عينا أمي الدامعة يتوضأ بها بياض البصل الناصع وقشره الذهبي يتطاير على أرضية المطبخ الزرقاء حيث تجتهد نملة صغيرة بسحب فتات الخبز لجحرها المندس بين الشقوق الأرضية ..

تُقطع أمي أعناق الكوسة و تقشر اللفت و حبات البطاطس وتشرح حبة القرع الكبيرة لشرحات سميكة محتفظة بقشرتها البرتقالية الملساء وتشفي فخذ اللحم الوردي وتنهال عليه بالساطور فتفتت عظامه وتقطعه لقطع كبيرة ..
تبهرها برأس الحانوت و الفلفل الأسود والزنجبيل وتلقي بها مع أعواد القرفة وشعيرات من الزعفران الإيراني داخل "البرمة" مع رُب الطماطم الطازجة
وتفرم ضمة البقدونس و الكزبرة ذات الرائحة الشهية إن خالطها زيت الزيتون و فصوص الثوم المهروسة فوق نار هادئة ..
تلح يداها بالماء وتبسمل وهي تفرك المفتول براحتيها بعد أن روته برشات من الماء المملح ثم ترفعه في "البرمة" فوق " الكسكاس"*
ليطيب على بخار ماء اللحم والخضار المبهر بالتوابل الشهية ، تعاود الكرة ثلاث مرات ، تفتل المفتول بيديها مع السمن السائل كأنه الذهب المُذاب !
ثم تعيده إلى "البرمة" وتلصق من حولها عجين لحجب البخار المتسلل من حواف القدر .. وتعكف عليه تداريه وتحرسه كأنه كنزها المرصود !

لـ "بابور" الكاز طقوسه وهيبته ولحنيني المطل من شقوق الدهشة لرؤية النحاس المقدس بلمعته الصافية خلف زجاج العرض ثورة في صدري !
حبة الليمون المشطورة لنصفين تحك بها نحاس البابور المخضر أمي فيعود ليلتمع من جديد ..!
يهفهف القلب لجلال قامته القصيرة في فضاء الذاكرة المستيقظة بمخالبها الناعمة فتخدش
تماسكي لتسقط آخر ورقة لحضارة مكتسبة وتتعرى الرغبة الجامحة لبدايات المشهد ، حيث تتفتق الرؤية على قنينات الزيت الصافي تلمع بين "مرطبانات*" البهارات و مُربى المشمش والسفرجل و أكياس الملوخية المجففة تميل على الحائط بالقرب من أطواق البامية المجففة والملضومة بخيوط ملونة تتدلى من رؤوس المسامير المثبتة على الحائط الدامع من الأبخرة المتكاثفة حيث رائحة بهارات أمي السريّة تفغم
الأنوف وتثير غريزة الجوع بجوف صاحبها .

أمي التي تجلس القرفصاء وتمسك بـ"البابور" وتدكه بقبضتها الممسكة بيده القصيرة ليصعد الكاز إلى عنقه ثم تشعل عود الكبريت بيد تحرسه من نسمة تمر فتخطف شعلته .. تقرب العود المشتعل من عينه العمياء فتمنحها الرؤيا و تمنح مطبخنا الدفء ورائحة الوقود الوديعة ، فهل لا تزال أعواد الكبريت تحتفظ بمكانتها أمام مسدسات القدح المصوبة إلى أعين الغاز ؟

للكاز أيضاً هيبته و احترامه في الذاكرة! حين يغزونا القمل ونحن تلاميذ صغار تصب أمي الكاز في "طاسة*" ألمنيوم رقيقة وتغمد المشط ذو الأسنان المرصوصة بها ثم تمشط خصل شعري من منابت الشعر حتى أطرافه فيشتعل الرأس بسخونة لذيذة تقضي على الرغبة الملحة بالهرش ، فيتساقط القمل فوق الغطاء الأبيض الذي أجلستني عليه أمام مدفئة علاء الدين كأنه حب من الفلفلِ الأسود !
للقمل فلسفته ولليد التي تهرش الرأس طريقتها بالبحث عن بنات الأفكار!
"أنا أهرش إذاً أنا أفكر " هكذا كان يردد أبي ساخراً من رؤوسنا التي غدت مزرعة للقمل في فصول الدراسة!
أفكرُ كيف لهذا "البابور" البدائي و المسقط من حسابات المتحضرين أن يجد طريقه هنا في متجر صغير بين أزقة "جي موكه" *؟
حيث الغاز الكهربائي و زجاجه المسطح المشتعل يمنح أصحابه هدنه نفسية مع جنون الحضارة فتنخفض قوته الحرارية وترتفع بضغطة
زر !
لا رائحة الكاز ولا "الشحبار" الأسود يجول بالمطابخ المجهزة من الفرن الآلي حتى صنابير الماء العاملة بالأشعة ، بتمرير اليد
أمامها لينسكب الماء بدون أن تدير يد الصنبور الصدِئة لتقتصد بعصب الحياة و سرها الأزلي !

لم يعد "للقاشطة*" دورها السحري بشطف أرضية الديار حيث تصطف علب الصفيح وقد أفرغت من زيت الزيتون و الزيتون والجبنة العكاوي و ثقبت من الأسفل و ملئت بالتراب وغرس فيها الفل والياسمين والحبق والريحان و الدالية المشدودة للأعلى بأسلاك معدنية لتنهض بحملها الثقيل من قطوف العنب المتدلية كالضروع الممتلئة بالحليب !
كان للاختلاف في الجنس بين علب الصفيح و أصص الفخار الملونة وفاق ولغة احترام ولهفة ! كلاهما يصطف أمام الآخر متباهياً بغرسه المزهر ..
كأنهما يستعدا لدبكة الأفراح في أماسي الصيف حين تنكسر الشمس على حبال الغسيل المطوحة في الهواء الطلق فتفرش أمي الحصير فوق الأسمنت الرطب والمغسول للتو بـليْ الماء وتصلح الشاي الأخضر بالنعناع ذو الملمس الخشن ، تحتفظ به في كوب ماء مطعم بالتراب لتحافظ على شروشه المتدلية والمنتزعة للتو من تراب دارنا طرية وندية ..

تغسل أكواب الشاي المغربية الكبيرة والمزينة بخطوط مذهبة و رسوم باللون الأخضر والخمري وتضعهم على صينية فرشتها بغطاء من الكروشيه وتصف بجانبهم زجاجة مكعبات السكر وكوب من الماء تضع به ملاعق الشاي ذات المقابض الفضية
وتعكف بتحنان على أبريق الشاي المغربي ترمي بداخله قبضة الشاي الأخضر وتعقبها بماء ساخن ، تدير السائل محركة أبريق الشاي بقبضتها ثم تصب الماء الساخن في حوض الماء وتستبدله بماء آخر تجعد سطحه وتصاعد معدله في غلّاية الماء كدليل على درجة غليانه المنشودة ..
تغلق أبريق الشاي النحاسي المحفور بحروف عربية وكلمات ترحيب بالضيف بعد أن دست به ضمة من النعناع المغسول والمُقطف بعناية وتتركه جانباً حتى "يطلق" الشاي خضرته المُرة
تكون أمي قد استحمت و عقدت على رأسها منديل من الشاش الأبيض وارتدت قفطانها الحشيشي وتربعت كملكة في وسط أرض الديار
فوق مساند الصوف التي خيطت بعد ثلاث ليالي من غسل ونفش الصوف بالخيزران فوق سطح الدار .
تضع صينية الشاي أمامها ، تقلب الأكواب المنكفئة وترفع يدها بإبريق الشاي ذو القوائم الأربع مصوبة فوهته نحو جوف الكوب المطلي بالألوان والمحدد بخيط ذهبي لامع ، ترفع يدها وتهبط بها فوق كوب الشاي والسائل الأخضر ينسكب كأنه شعاع نور يقطر من أكمام قفطانها الفضفاضة .. خشخشة أساورها الست حول معصمها أسمعها تنبعث من قلبي وأنا أقف متأملة من خلف زجاج العرض لمعة النحاس المهيبة في بابور وضع بمتجر أوروبي للزينة فقط!

...............

هوامش :

* تقربع لفظة عامية تعني إصدار أصوات تشبه الطقطقة
*البابور لفظة عامية لموقد بعين واحدة يعمل بالوقود "الكاز"
* البرمة والكسكاس اسم يطلق على أواني مخصصة لطبخ المفتول في المغرب العربي
* القاشطة أداة لتنظيف الدور
*طاسة لفظة عامية لإناء من معادن مختلفة
* جي موكيه منطقة في الدائرة السابعة عشر في باريس
*مرطبان إناء من الزجاج
* الشحبار دخان النار الأسود








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية


.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي




.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب


.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?




.. قصة غريبة عن أغنية أنساك لأم كلثوم.. لحنها محمد فوزي ولا بلي