الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فينومينولوجيا المُعاناة، والسبب: قبعَة

مزوار محمد سعيد

2019 / 10 / 11
كتابات ساخرة


خلال عودتي من عملي ككل نهاية أسبوع متعبا، وأثناء سيري مارًّا بإحدى الساحات العامَّة، داهمني صبية في مقتبل العمر ركضا باتجاهي، حتى أنَّ أحدهم فاجأني بسؤاله: هل أنتَ هو السَّاحر؟
لا أنكر أنَّ هذا السؤال قد أثارني في البداية، لكنني قررتُ أن أضبط أعصابي وأحاور سائلي من باب العِبرة من حوار ابليس لرب السماوات والأرض، يوم تمرّد ابليس عليه وكفره بسيدنا آدم رافضا السجود له "القصة معروفة".
وإذا بي أبادر الصبي بالسؤال: كيف عرفتَ أنني ساحر؟
أجاب: من لباسك؟
سألته: من القبعة تقصد؟
أجاب بابتسامة تكلمت أكثر من معاني كلماته: نعم!
سألته: هل تدرس؟
أجاب: نعم!
سألته: في أيِّ مستوى؟
أجاب: الرابعة ابتدائي.
سألته: إذن هلا قمتَ بإعراب جملة "أنتَ ساحرٌ"؟
أجاب: ساحر هو فعل ماضٍ مبني على الفتح
وقبل أن أسأله قلت له: إذن أنتَ لستَ مجتهدًا في دروسِك، وهذا ما أثار سخرية زملائه، فامتعض الفتى وظهر ذلك على وجهه بشكل واضح، لأبادره بالسؤال: هل كلمة ساحر قابلة للتعريف بالألف واللام؟
أجاب: نعم.
علّقتُ: إذن هي ليست فعلا، صح؟
أجاب: نعم
سألته: وما حركة حرفها الأخير، فتحة أم كسرة؟
أجاب: ضمة، نعم ضمة.
علّقتُ: إذن هي ليست مبنية على الفتح، صح؟
أجاب: نعم.
علّقتُ: يا بني، بدل أن تنشغل بالساحر وقبعاته، عليك استثمار وقتكَ في مراجعة دروسك، ثمّ مضيتُ في طريقي.
هذه الحادثة البسيطة وقعت في نفسي موقِعًا عظيما، وجعلتني أفكِّر مليا في كلمات هذه البراءة التي جعلها الله في طريقي، ربما هي تذكِرة لأناس يتفكَّرون.
ما أثار ذاك الفتى هو لباسي غير المقبول "جزائريا"، فقد اعتدتُ على وضع إحدى قبعاتي التي أعشقها كثيرا على رأسي قبل خروجي من البيت للعمل أو لقضاء حاجياتي، فتذكَّرتُ ما أعانيه بسبب قبعاتي من هذا التجمُّع الاجتماعي التقليدي حد العصب، معاناة "نفسية" بالأساس، تنفجر في الكثير من المواقف أمام وجهي في شكل سخريات، همزات وتعليقات ترتقي إلى دركات الإهانات أو الضرر الروحي على أقل الأصعدة تأثيرا. أعرف معرفة تقترب من الجزْم، بأنَّ ذاك الفتى لم يأتني بشكل عفوي ليطرح عليَّ سؤالا كهذا وبهذه الطريقة، بل كان مُرسلا من أحد الجبناء، الذين يولون الأدبار في أيام الزحف، ومع هذا، فألف شكر لهذا الجبان المتخفي خلف سترة براءة صبي على هذه الوقفة الفكرية الرائعة، وإن أزعجني الموضوع ككل بحكم أنني أعتبره من صميم حياتي الخاصة، إلاَّ أنني تذكرتُ خاتم الأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام، وقصته الشهيرة مع أهل الطائف، إذ لم يجرؤ من هؤلاء القوم أحد على مواجهة رسالة النبيِّ الكريم، ليرسلوا إليه سفهاء قومهم وصبيتهم يرمونه بالحجارة، فما أشبه اليوم بالأمس، غير أنَّ الحجر كان سؤالا محمولا على تابوت التقاليد.
أنا طويل الشعر الأشعث، المرتدي لقبعات، بعضها على الطريقة الإيطالية، وبعضها الآخر على الطريقة الاسبانية والبقية من أهواء وأمزجة مختلفة، واحدة منها على الطريقة البريطانية العريقة، وأخرى عبارة عن طربوش أحمر رائع على الطريقة التونسية، كما أملك قبعة سوداء على طريقة رعاة البقر، وقبعة بيضاء ناصعة على طريقة أثرياء هيوستن-تكساس... وغيرها.
بالمختصر، أنا هاوي للشعر الأشعث الطويل نسبيا والمتدلي من تحت قبعة لا يهمني إلى أي مكان أو ثقافة ترمز، ولا لأي قوم تشير، فأنا أجد راحتي في ارتدائها على حسب مزاجي ونفسيتي.
فهمتُ منذ زمن بعيد، بأنَّ شكلي هذا غير مقبول "جزائريا" انطلاقا من أبي النزيه، كون أنَّ البعض يردد على مسامعي عبارة: خالف تُعرف؛ وكأنني طالب للشهرة – رغم أنني أتمنى لو كنتُ شفافا لا يراني أحد عند عبوري شوارع مقبرتنا الكبيرة التي نسميها بقلة أدب موزون ومقفى بـ: الجزائر.
بعض المتدينين ينظرون إلي من زاوية التكفير، فأنا "متشبه" بالنصارى على حسب تعبيرهم، رغم أنني مسلم قلبا وقالبا، مع العلم أنَّهم ليسوا وكلاء على نواياي في الحد الأدنى كما اعتقد، وأنّني أرى بأنَّ الوحيد الذي مَن يحق له محاسبتي هو الله عز وجلّ.
البعض يراني متكبرا، وهذا النوع من الجزائريين لم أفهم رأيه لحد الآن، ولا على أي أساس تمَّ بناؤه، وعلى حسب اعتقادي "المتواضع جدا"، فإنَّ هذه الفئة قد قاستني بمعيار الفوقية/التحتية، وما دمتُ حسب اعتقادهم أقلد (لَـﭬْوَر) بمعنى الأجانب، فهذا يعني أنني متكبر على ألبسة بلدي التقليدية التي لا يرتديها أيُّ احد منهم.
لنفرض أنني مختلف عن باقي الجزائريين –الذين هُم في محيطي على الأقل- في لباسي، أليس هذا من الجمال، من مبدأ ايليا أبو ماضي: كن جميلا ترى الوجود جميلا!
لقد مات جاك دريدا وحيدا وهو يحاول التأسيس لفلسفة الاختلاف، هذا الجزائري الذي عاش غريبا في الجزائر وأوربا، بين ضياع الأرض ومتاهة الهُويات، فما أحوجنا للقبول باختلافاتنا كجزائريين، كمواطنين على هذه الأرض، كبشر يتقاسمون الهويات ذاتها منذ قرون.
إلى متى نبقى سجناء دوائر دوغمائية مسيَّجَة ومحكمة الإغلاق، ما تلبث حتى تنفجر في وجوهنا، ويتجدد انفجارها كل حين؟ إلى متى نبقى نرثي مجدنا الضائع مختصرين الإنسان الجزائري في لباسه، مركبه، مشيته وطريقته المجردة في النفاق؟
أحب قبعاتي كلها، وسأبقى أرتديها كلما طاب لي ذلك، وسأنزعها عن رأسي متى شئتُ ذلك أيضا، فلا تضيِّعوا أوقاتكم الضائعة معي... والأيام بيننا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع


.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو




.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05


.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر




.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب