الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما هو الله

داود روفائيل خشبة

2019 / 10 / 20
الادب والفن





ما هو الله؟
داود روفائيل خشبة

(هذا أحد موضوعين حُذِفا من الترجمة العربيى لكتابى "أبو الهول والعنقاء")

[نُشر هذا المقال أولا فى دورية ButterfliesAndWheels فى 1 يولية 2007]
“Yif god is, whennes comen wikkede thinges?
And yif god ne is, whennes comen gode thinges?”
"إذا كان الله موجودا، فمن أين أتت الأشياء الخبيثة؟ وإذا كان الله ليس موجودا، فمن أين أتت الأشياء الطيبة؟"
(بويثيوس Boethius، عزاء الفلسفة، الباب 1، النثر 4، والنص باللغة الإنجليزية من ترجمة تشوسر Chaucer.)

كثيرا ما شكوت من ضحالة وتفاهة وفقر المناقشات الجارية حول التوحيد والإلحاد. فى هذا الإسهام (الذى آمل أن تتبعه إسهامات أخرى ) أريد أن أضخّ بعض دم الحياة فى النقاش. إذا كنتَ – أيّا كان الجانب الذى تؤيده – تجد فى كثير مما أقول ما تختلف معه بشدّة، بل ما يثير سخطك وغضبك، فسيكون هذا خيرا. إننى أقصد أن أحرّك المياه الراكدة، أن أبث الاضطراب فى المواقف الفكرية الساكنة.
فكرة الخالق أو فكرة الخلق مفلسة ميتافيزيقيّا. إنها فكرة توجِد من الألغاز أكثر مما تحلّ منها. بل إنها فى الواقع، لا تحلّ شيئا. إذا سألنا: "لماذ يكون هناك أىّ شىء على الإطلاق بدلا من لا شىء؟"، نرى على الفور أنه لا يمكن أن تكون هناك إجابة. تقديم فكرة الخالق لحلّ سرّ الكينونة mystery of being يربك ويعقـّد القضيّة فحسب. فى المكان الأول، يبقى السرّ الأقصى ultimate mystery حيث كان. إذ، لماذا يكون هناك ذلك الخالق أو الكائن الأول بدلا من ألا يكون؟ لا توجد إجابة. بالإضافة لذلك، يواجهنا لغز ما أوعز للخالق أن يصنع شيئا حيث لم يكن هناك شىء. الكينونة هى السرّ الأقصى وليس من سبيل لجعلها تستسلم لاستجوابنا. علينا أن نقبلها بشروطها هى.
من المفهوم فى يسر أن نرى فكرة الخالق الذى يصنع العالم على أنها محاولة فجّة من البشر فى طفولة الحياة الإنسانية لحل اللغز. من اليسير أن يخطر لهم هذا الحل قياسَا على صنعهم هم للأشياء.
ما الذى يجعل كثيرين من الناس فى أيامنا هذه يقبلون هذه الإجابة ويعتقدون أنها معقولة بل وجليّة؟ من جديد، الإجابة بسيطة. الثقافات التقليدية المتوارثة تلقـّنهم إيّاها. فإذا سأل سائل: "لماذا ينبغى علينا أن نقبل تلك المعتقدات المتوارثة على أنها صحيحة؟"، فالإجابة المتوارثة هى أن تلك الإجابة أوحى بها ذلك الخالق نفسه. من قال هذا؟ تلك المعتقدات المتوارثة ذاتها. علينا أن نقبل العقيدة المتوارثة لأن العقيدة المتوارثة تخبرنا بأن الخالق أوحى بها وعلينا أن نقبل أن الخالق أوحى بها لأن العقيدة المتوارثة تقول لنا ذلك.
أقول إنه يكون سهلا أن نرى عبثية كل هذا لو أننا استطعنا أن نحمل أنفسنا على أن نفكر لأنفسنا بأنفسنا. للأسف، إننا – أكثرنا فى كل الأوقات وأحسننا فى أكثر الأوقات – لا نفكر لأنفسنا بأنفسنا. إنه أكثر راحة بكثير أن ندع الآخرين يفكرون بالنيابة عنّا وأن نتلقى المنتج الفكرى، جاهزا، معبّأ ومغلفا بغلاف جذاب، يصلنا فى عقر دارنا، ومعه فوق ذلك وعود بمكافآت مغرية.
لنسأل من جديد؟ لماذا نصدق تعاليمنا التقليدية المتوارثة؟ لأنها تأتينا من الله. حسنا، لنغمض أعيننا عن التوائية هذه الإجابة. دعونا ننظر فى مؤهّلات ذلك الإله كما تقدّمه تلك المعتقدات المتوارثة ذاتها. دعونا للحظة نضع جانبا التبجيل والرهبة اللتين زرعتهما فينا تربيتنا التقليدية وننظر إلى إله التوراة، إله بولس، إله سفر الرؤيا، إله القرآن. لنحكم عليه بالمعايير الأخلاقية العامة المقبولة الآن فى المجتمعات المهذبة المتحضرة. نجد أفعالا وأقوالا ينكرها حِسّنا الأخلاقى. صحيح أننا نجد فى التوراة وفى الأناجيل وفى القرآن الكثير من المشاعر ومن المُثل الجميلة. لكننا نجد مشاعر ومُثلا مماثلة، أو حتى أجمل وأبدع، فى ثقافات إما بلا آلهة أو بها آلهة لم نعد نأخذها بجدّية، وذلك قمين أن يبيّن لنا أن تلك المشاعر والمُثل، التى نعتزّ بها عن حقّ، مستقلة عن اعتقادنا بإله التوحيد.
يكفى هذا بصدد الحُجّة الكوزمولوچية لوجود الله. لننتقل الآن إلى الأونطولوچيا.
السؤال: "هل الله موجود؟" سؤال سخيف. وجود الموجود لا يحتاج برهانا. تذهب إلى رجل فى قبيلة بدائية فتسأله: "هل الله موجود؟". يجيبك: "طبعا. تعال. سأريك." يأخذك إلى داخل كهفه أو كوخه ويريك التمثال الذى يتعبّد له قائلا: "ها هو الله". أىّ برهان أفضل من هذا يمكنك أن تطلب؟ من الناحية الأخرى، كيف يمكنك أن تثبت بالدليل عدم وجود الله؟ أن نحاول أن نثبت منطقيّا عدم وجود ‘عدمٍ مجهول’ هو منتهى اللغو، أسوأ أنواع الجدل اللفظى العبثى.
ليس الشىء المعقول إذن أن نسأل: "هل الله موجود؟" بل أن نسأل: "ماذا نعنى بـ الله؟". على امتداد تاريخ البشر كان للناس أفكار عديدة مختلفة عن الله. الكثير من المفاهيم القديمة لم يعد أعضاء الجنس البشرى فى زماننا هذا يأخذونها بجدّية، وعلى هذا يمكننا أن نترك تلك المفاهيم للأنثروپولوچيين. ماذا عن الأفكار الباقية معنا فى الأديان المؤسسية؟ عندئذ يمكنك أن تحاجج بأن هناك الكثير فى تلك الأفكار مما يتعارض مع القِيَم الأخلاقية أو مع الاعتبارات العقلانية. ماذا إذن؟ ليست هناك استحالة منطقية فى فكرة كائن يكون له من القوة والبراعة ما يمكنه من أن يصنع الكون ويديره حسب أهوائه وأن يكون فيه مع ذلك من النقص ومن النزوات مثل ما تشهد به كتبنا المقدسة.
إجابة أ. ن. وايتهيد A. N. Whitehead النهائية على السؤال: "ما هو الله" تلخـّصها الفقرة الختامية من الفصل الثالث من تكوّن الدين Religion in the Making (1926). سأقتبس هذه الفقرة الجميلة كاملة:
"نظام العالم ليس عارضا. ليس من شىء [كائن] فى الواقع يمكن أن يكون [له كيان] فى الواقع بدون قدر من النظام. البصيرة الدينية هى إدراك صدق هذه المقولة: إن نظام العالم، عُمق حقيقة العالم، قيمة العالم فى كله وفى أجزائه، جمال العالم، نشوة الحياة، سلام الحياة، والسيطرة على الشرّ، كل هذا مرتبط معًا — ليس عَرَضَا وإنما بفعل هذه الحقيقة: إن الكون يُظهر إبداعية بِحُرّية لامحدودة، ومجال صُوَر بإمكانات لامحدودة؛ لكن هذه الإبداعية وهذه الصور هى معا عاجزة عن التحقق فى واقع بدون الانسجام المثالى المكتمل، الذى هو الله."
هل هذا يبرهن على وجود الله؟ السؤال، إذا أردنا الدقة، بلا معنى. ما يعطينا إياه وايتهيد هو طريقة للنظر إلى العالم، رؤية للعالم، فيها يُظهر العالـَمُ معنى وقيمة. وخلاصة تلك النظرة أننا، إذا كان لنا أن نجد معنى وقيمة فى الكون، يجب أن نرى النظام، والاتساق، والعقل، والخير، كسِمات أصيلة فى الحقيقة. هذا ما أعنيه حين أقول: "أن يكون يعنى أن يكون خيّرا"، حين أقرّر أن الحقيقة القصوى يجب أن تكون عاقلة وخيّرة، حين أصف الحقيقة القصوى بأنها الـ أزل الـ خلاق وحين أقول إن الـ أزل الـ خلاق هو الحب.
إذا أبدلنا ‘الروح’ بـ ‘الله’ فى برهان خلود الروح الشهير فى الـ فايدروس لأفلاطون ، يكون عندنا ‘برهان’ ممتاز على أزلية الله. ولكن ماذا ‘يبرهن’ البرهان فى منتهى الأمر؟ لا شىء. إنه لا يبرهن على وجود الله ولا يخبرنا بشىء عن ماهية الله. ما يفعله هو أن يقرّر الحقيقة المثالية لفكرة الأزل عندنا، بنفس الطريقة التى يقرّر بها ‘برهان’ أفلاطون فى الـ فايدروس وفى القوانين وحُججه فى الـ فايدون حقيقة مُثل التلقائية والنزاهة المتمثلة فى المفهوم السقراطى الأفلاطونى للروح.
لكن، بينما يتحدث بعضٌ من أحبّ الفلاسفة إلىّ عن الله، وبينما أرانى أستطيع أن أعلن صادقا أنى أعتقد بالله بمعنى حقيقى تماما وعميق، إلا أنى أراه من الأفضل أن نبتعد عن استخدام لفظ ‘الله’ فى المناقشات الفلسفية، إذ أن فيلسوفا يستخدم اللفظ سيجد نفسه مضطرا لأن ينفق من الوقت فى توضيح ما لا يعنيه بالكلمة أكثر مما يكرّسه لبيان ما يعنيه بها. وينطبق هذا أيضا على كلمة ‘الإيمان’. إننى أستطيع أن أقرّر دون تردّد أن أىّ فلسفة لا يكون لها لـُبّ من الإيمان تكون خاوية وبلا قيمة. لكن كلمة الإيمان هذه مثقلة بارتباطات غير مواتية بمفهوم الوحى ومفهوم العقيدة الدوجماتية. لذا فإننى، بينما أقرّر أن العقل ليس فحسب متوائما مع شىء يمكن أن نسمّيه الإيمان، بل إن العقل يكون بلا مغزى بدون الإيمان بذلك المعنى المعيّن، إلا أننى عمومَا أحاول الابتعاد عن هذه الكلمة المريبة.
لأن هذا يبدو شديد التعقيد، دعونى أقدّمه بطريقة مختلفة. الإيمان بالمفهوم المعتاد هو فى رأيى سخرية بالفكر وسُبّة للعقل الإنسانى، والمحاولات المعتادة للمواءمة بين الإيمان والعقل يتضح أنها ليست سوى تحايل بالألفاظ أو خداع للنفس. لكن من ناحية أخرى، بمحض التفكير العقلانى لا يمكننا أن نجد طريقنا لا إلى أى حقيقة ولا لأى قيمة. كـَنـْت Kant وجد أن عليه أن يدعم ويكمل العقل الخالص بالعقل العملى. أتباع كـَنـْت أعادوا العقل Reason إلى الكل Whole لينقذوه من نقائه العقيم. وايتهيد عاد بالحقيقة والقيمة من جديد إلى العالم بتوكيده لتكامل التجربة. كانت تلك كلها تحرّكات مفعمة بالبصيرة. كى نحافظ على كرامتنا وقيمتنا ككائنات إنسانية، يجب أن يكون لنا عقل غير مقيّد، لكنه يجب أن يكون عقلا ذا قلب نابض. أنا أرى أن السبيل الوحيد لتحقيق ذلك هو أن نجد كل الحقيقة وكل قيمة فى داخلنا. الوضوح الذاتى للحقيقة والقيمة فى داخلنا هو الإيمان الذى نحتاجه، هو الله الذى تاق إليه المؤمنون وضحّى به غير المؤمنين.
يعبّر وليم إرنيست هوكنج William Ernest Hocking تعبيرا جيّدا عن هذه الفكرة المراوغة فى الكلمات الآتية: "مولد فكرة الله فى العقل – القول بأن ‘الـ حقيقة حيّة، قدسيّة، يوجد إله’ – هى من اللطف، مثل نسمة من الروح بالغة الرقـّة على وجه الماء، حتى أن نظرنا إلى الداخل يعييه أن يقول ما إذا كان الله هنا يُظهر ذاته للإنسان أو إذا كان الإنسان هنا يخلق الله."
إذا لم أكن قد أحنقتك بما فيه الكفاية يا قارئى العزيز، دعنى أزدك غيظا بشىء أشبه بتهويمات المتصوّفين:
الله حقيقة
إذن الله لا يوجد
فالحقيقة هى ضدّ الوجود
محيط الدائرة ليس فى الدائرة
محيط الدائرة ليس خارج الدائرة
محيط الدائرة لا يوجد
إنه فكرة
إنه حقيقة
إنه لا يوجد
لكنْ بغيره لا وجود لدائرة
قد تكون هناك أشياء مدوّرة فى العالم
لكنْ بغير تلك الحقيقة التى لا توجد
لا شىء مدوّر هو دائرة
ولا هو حتى مدوّر
الله فكرة
الله حقيقة
الله لا يوجد
لكن بغير ذلك الإله الحقيقى الذى لا يوجد
لا شىء فى العالم له معنى
لا شىء فى العالم له قيمة
لا شىء فى العالم له حقيقة
لا شىء فى العالم له وجود
الفكرة التى تشكـّل عالمى هى فكرتى أنا
إنها تنبع من عقلى
فكرتى تحتوى عالمى
ثمّة فكرة تحتوى العالم الذى يحتوينى أنا
فكرة مَنْ؟
أىّ عقل يَلِدها؟
هذا سؤال لا يستطيع أحد أن يجيب عليه
لا العلم ولا العقل الخالص يستطيع الإجابة
هذا سؤال لا نملك غير أن نصنع حوله الأساطير
ولا بدّ لنا من أن نصنع الأساطير
بغير الأساطير يفسد عالمنا
لكنْ حين ننسى أن أساطيرنا أساطير
يفسد العقل الذى خلق الأساطير
بفسد ويموت ويتحجـّر
بموت العقل
يموت الله
عندئذ يوجد الله
لكنه لا يعود حقيقة
الله الميت الموجود هو إله الدين
فى القرن الثانى الميلادى كتب مكسيموس من صور Maximus of Tyre فى مؤلـّفه الجميل "دفاع عن الأوثان" كلمات مجنـّحة أحبّ أن أختم بها هذا المقال: "ليعرف الناس ما هو إلهى (to theion genos)، دعوهم يعرفوا: هذا كل ما هو مطلوب. إذا وَجَد اليونانى فى فنّ فيدياس Pheidias ما يجعله يتذكر الله، إذا وَجَد المصرى ذلك فى تعبّده للحيوانات، ووَجَده شخص آخر فى نهر، ووَجَده آخر فى النار — فإنى لا يضيرنى تباينهم؛ فليعرفوا فقط، فليحبّوا، فليتذكروا."
داود روفائيل خشبة
20 أكتوبر 2019
https://philosophia937.wordpress.com








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحياتي للفاضل الاستاذ داود روفائيل خشبة
محمد البدري ( 2019 / 10 / 20 - 22:38 )
لما جهلت من الطبيعة أمرها.. وجعلت نفسك في مقام معلل
أثبت ربـــا تبتغي حلأ به.. للمشكلات فكان أكبر مشكل

بيتين شعر حل بهما الشاعر الزهاوي مشكلة شئ اسمه الله
اما الباقي فعلينا بدراسة الطبيعة ففيها الاجابة الشافية

تحياتي واحترامي وتقديري

اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??