الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ليلى والذئاب: الفصل السادس/ 5

دلور ميقري

2019 / 10 / 23
الادب والفن


العربة، الحاملة ابنيّ السيّد نيّو، وصلت إلى الساحة المتسعة الأطراف، المُعرَّفة عند الأهالي باسم زعيم كرد الشام السابق: شمدين آغا، مَن عاش حياةً حافلة بالمجد ثم قضى نحبه، ضريراً معتقلاً، على أثر فتنة عام 1860؛ أي قبل ولادة أيّ من الأخوين.
ولو أنّ الوقتَ نهاراً، لكان بالوسع أيضاً رؤيةُ مقامٍ تعلوه قبتين، يحتفي بزعيم آخر من زمن أقدم، ينتصب في الجهة الجنوبية من الساحة. عليكي الصغير، الذي علمنا وعيه المبكر وشغفه بالتاريخ الخاص بقومه، كان قد أصغى ذات مرةٍ إلى الأمير حينَ تكلّم عن تلك الآبدة الأثرية، الأيوبية: " الرجل المدفون هناك، كان أميراً وعالماً. شغفه بعلم الفلك، جعله يأمر ببناء مرصد لمراقبة النجوم في بستان الميطور بأسفل صالحية الأكراد. الناس في ذلك الزمن، أشاعوا أن الرجل كان يحاول رؤية الله! ".
على أنّ المعلومة المتعلقة باسم القنطرة، " أجليقين "، المار من تحتها الدرب المؤدي إلى سوق الجمعة، كان العم أوسمان هوَ من جلاها لأجيره. قال له ذات مساء، لما اجتازا القنطرة، " أجليقين، كان جد أجداد الأسرة المشهورة في الحي، ويقال أنه حارب مع السلطان سليم الأول في معركة ضد شاه العجم. إذ اندفع هذا الفارس الكرديّ نحو صفوف الأعداء، دونَ أن يأبه بالسهام والرماح المتطايرة نحوه، وكأنه موقن بأنّ أجله قد حانَ. لما رأى السلطان ذلك، فإنه هتفَ بإعجاب: ‘ أجل يقين ‘، ثم كافأه بعد انتهاء المعركة برتبة عسكرية كبيرة ".

***
وها هيَ العربة تعبر القنطرة، التي لم يحن أجلها بعدُ، وكان راكباها كما علمنا في الطريق إلى سوق الجمعة. فما لبثت أن فغمت أنفَيّ الشابين الرائحةُ الحريفة للمكان، الطاوية تحت رقّها كل ما تيسّرَ من نكهات البضائع المعروضة هنالك. كأنما العربة أخذت تتجول في عالم آخر، يبعد آلاف الأميال عن عالم الحارة البائسة، التي تركها الأخوان قبل دقائق.. بله ما يكونه شعورُ أيّ منهما، لما يجد نفسه في متاهة أسواق الشام، الذاخرة بكل نفائس الدنيا؛ حدّ أن تُذهل أحد الرحالة الطليان، فيقول أنّ المرء لو كان يُخبئ ماله داخل قصبة رجله لكسرها حالاً كي يُقبل على شراء ما أمكنه من الأقمشة والتحف والأطعمة!
بيدَ أنّ حوذيّ الكرّوسة، كان قد ألِفَ المكان وذلك لطول معاشرته له. عيناه، كانتا تجولان عادةً بين صفوف المتسوقين، بحثاً عن زبونٍ. ولقد كانت العربة مشغولة الآنَ بزبونٍ من نوع مختلف، يسعى وراء ما حرّمه الله. عليكي الصغير، وربما بسبب تأثره بالعم أوسمان، كان أكثر تسامحاً في مسألة الحلال والحرام. بل إنه جرَّبَ مرةً تذوق جرعة هيّنة من الكحول، خفيةً عن عينيّ معلّمه، فهاله ما تركه الشرابُ في رأسه من خدرٍ لذيذ وكما لو أنه سقطَ بغتة في إحدى جنائن الحلم. عليه كان إذن أن يغبط أخاه، المعتاد على مقارعة الأقداح صُحبةَ أصدقاءٍ لطيفين.. وربما لا يخلو الأمرُ من نساءٍ أيضاً.. من يدري؟


***
لو شاءَ عليكي الصغير أن يسأل أخاه عن النساء، لبادر هذا بما كان مأثوراً عنه من صراحة للقول، أنه يعشق واحدة منهم، حَسْب، ولا يبتغي غيرها كشريكة حياة. ليسَ في هذا اليوم، المتجهّم السماء برغم حرارته المرتفعة ـ بل فيما بعد، سيُعرف على الملأ سرُّ الابن الأصغر للسيّد نيّو: الشاب، عشقَ ابنة أحد سكان هذه المحلة، وكان تاجرَ حبوبٍ واسع الرزق. رآها ذات مساء في السوق، وكانت خارجة مع خادمة الدار في شأنٍ ما. عليكي الكبير، كان آنئذٍ يسعى إلى بائع الخمر نفسه كي يتموّن لسهرته مع الأصحاب. التقت جمرتا عينيّ الفتاة بعينيه للحظات، وإذا هيَ تُزيح جانباً من طرحتها عن سحنةٍ بلون الزبدة، حسنة التقاسيم، وقد انطبعت فيها بسمةٌ جسورة.
في حقيقة الحال، إن عليكي الكبير ذهبَ إلى سوق الجمعة، راكباً عربة أخيه، وذلك بغيَة لقاء فتاته. وكان من المقرر بعدئذٍ أن يعرّج على بائع الخمر، قبل توجهه إلى موعده مع الأصدقاء. لقد أدهشَ أخاه، ولا غرو، حين نزل من العربة وقال له: " لا داعي لانتظاري بعد شرائي حاجتي، فإنني أرغب بالعودة مشياً إلى الحارة ". دون أن ينتظر جواباً، دار على نفسه ثم اتجه نحوَ صف من المحلات، سطعت أنوار مصابيح مداخلها. وبينما سارت كرّوسة أخيه الكبير، راجعة من حيث أتت، حادَ هوَ إلى ناحية أحد الأزقة، الغارقة في العتمة. ثمة عند جدار منزلٍ من دورَيْن، وقفَ بحذر وعيناه مصوبتان نحوَ الأعلى، أينَ النافذة ذات الأضلاع الخشبية المتشابكة، المنبعث منها نورٌ خافت. ويبدو أن الفتاة كانت هنالك وراء الستارة الخشبية، إذ ما أسرعَ أن صارت أمامه غبَّ نجاحها في التسلل من الدار دونَ أن تثير الانتباه: " لنسرع إلى الخرابة، لا وقت لديّ "، قالتها وسارت إلى الجهة المطلوبة بخطواتٍ عجولة ملهوجة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شاهد .. حفل توزيع جوائز مهرجان الإسكندرية السينمائي


.. ليه أم كلثوم ماعملتش أغنية بعد نصر أكتوبر؟..المؤرخ الفني/ مح




.. اتكلم عربي.. إزاي أحفز ابنى لتعلم اللغة العربية لو في مدرسة


.. الفنان أحمد شاكر: كنت مديرا للمسرح القومى فكانت النتيجة .. إ




.. حب الفنان الفلسطيني كامل الباشا للسينما المصرية.. ورأيه في أ