الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ليلى والذئاب: الفصل السابع/ 1

دلور ميقري

2019 / 10 / 24
الادب والفن


يفيق أهل الدار على صياح الديك، تتغلغل الشمس المشرقة للتوّ في أبدانهم، التي جعلها نسيمُ الفجر باردة وهيَ مرصوصةٌ إلى بعضها البعض على الفرش السميكة، الموزعة بين قسميّ الدار. شجرة اللوز، بعشرات الأعين الخضراء لثمارها، هيَ ذي تحدّقُ في حنوّ إلى آل السيّد أوسمان، المضطّجعين على مقربة من ظلالها المتكاثفة رويداً. إلى الأعلى منها، كانت سماءُ الصيف المتأخر تزيلُ على مهلٍ بمكنسة الأشعة الذهبية، آخرَ آثار الفجر. آل عليكي الصغير، من ناحيتهم، كانوا مكومين في فرشةٍ بلون خضرة الحديقة، البارزة أغصانها من وراء سدّةٍ حجرية، تفصلها عن القسم السفليّ من أرض الديار.
كون نساء المنزل أول من ينهضن من الفراش، للمضيّ إلى مشاغلهن، يرى الرجالُ ذلك فرصةً سانحة للتأمل في هموم الأمس وما لو بالوسع السيطرة عليها في خلال اليوم. وحدهم الأطفال، وكانوا ثلاثة، مَن حقّ لهم البقاء في فراشهم صُحبة الدفء والدِعَة والأحلام. أحد أولئك الأطفال، كان صبياً لم يبلغ بعدُ عامه الأول، انزلقت قدماه الطريتان من تحت اللحاف ذي الألوان الكردية الحارة. إنه " صلاح "، وكانت شملكان قد أنجبته بعدما بلغ سنّ الولد البكر الخامسة. لقد أعطاه الأبُ اسمَ ابن صديقه القديم، الأمير، وكان يُنادى أيضاً ب " صالح ". الأمير، كان قد قطع صلته تقريباً بالشام ويبدو أنّ المقامَ طاب له في أكبر حواضر الجولان، القنيطرة، التي يقطنها قومُ حميه الشراكسة، المشكلون أغلبية سكانها. طفلُ أوسمان، كان تقريباً صورةً عن أبيه، بلون بشرته المائل إلى السمرة وتقاسيم وجهه الكبيرة. كذلك لاحَ أنه سيماثلُ، مستقبلاً، ما عُرفَ عن الأب من خفةِ ظلٍ ومرح.
شاء القدرُ أن تضع ليلو وليدها، وكانت بنتاً، بعد أشهرٍ قليلة من مجيء ابن شملكان. وكانت هذه الابنة مستلقية الآنَ بجانب والدها، عقبَ قيام الأم للبدء بأعمال المنزل. البنت، مُنحت اسم " نظيرة "؛ والذي سيختصر على اللسان الكرديّ إلى " نازو ". أشعة الشمس، الساقطة على جانبٍ من وجه الفتاة الجميل، أبرزت جلياً لونَ بشرتها الأبيض المُشرَّب بالورديّ. هكذا جمال، كان يحتاج لدرعٍ يصدّ العين الشريرة: الخرزة الزرقاء، وكانت رفيقة طفولة ليلو، ورثتها الابنة وكان من الممكن ملاحظتها معقودةً بقبّة قميصها.

***
أشعة الشمس، المسلطة على وجهه عبرَ شبكة من أغصان الحديقة، ليست هيَ ما كان يُزعج عليكي آغا الصغير، المتمدد بعدُ في فراشه. رائحة روث الخيل، المنفوحةُ قويّةً وحرّيفة في أنفه من جهة الإسطبل، بعثت أفكاراً غائمة بخصوص عمله في تجارة الماشية. منذ نحو ثلاث سنين، وجد نفسه يُمارس هذه التجارة، وكان نجاحه العجيب فيها أقرب إلى المعجزة. لم يكن أيّ من آله قد كشفَ عن موهبة تجارية، أو امتلك حتى رأسين من الماشية؛ بله هوَ مَن كان قبلاً يتهيأ للحصول على وظيفة لدى الدولة، تخلّصه من العمل على الكرّوسة.
صدفة، تنتمي للحظ السعيد أكثر منها للشطارة، كانت قد قادت أقدامه إلى هذا السبيل. إن صديقه حمّوكي، المعتكف دوماً في عمله الهادئ ببساتين الحارة، جاءه يوماً كي يعرض عليه شراءَ قطيع هائل من الأغنام بسعرٍ زهيد. ولأن صديقه، حسَبَ قوله، كان وسيطاً لمربّي ماشية من الجزيرة، فإن عليكي آغا الصغير لم يخشَ أن يكون في الصفقة غشٌ أو خداع. في هذه المرة أيضاً، احتاج لمعونة أخيه الوحيد. الأخ، كان آنذاك قد اشترى دكان معلّمه الحلاق من ورثته، وما لبثَ أن اغتنى نوعاً ما من هذه المهنة بحيث أنّ يديّ امرأته غطتهما الأساور الذهبية.

***
في تلك الآونة، كان العديد من شباب الحارة يستثمرون قوتهم وجسارتهم في أعمال مخالفة للقانون. فيما مضى، كان مسموحاً لبعض الزعماء، وتحديداً من العائلات الكردية العسكرية، أن تكون لهم فرقٌ مسلّحة من بني قومهم يستعينون بها لتعزيز سطوتهم بحجة معاونة والي الشام في مهمة فرض الأمن. لما تم حلّ هكذا تشكيلات غير نظامية، بعيد فتنة عام 1860، اتجه بعضُ عناصرها إلى التطوع في سلاح الدرك، فيما آخرون انضموا إلى قطّاع طرق أو شكّلوا عصاباتهم الخاصّة.
الصفقة المعنية، وكانت السببَ في اغتناء ابنيّ السيّد نيّو، تمت في حقيقة الأمر مع إحدى عصابات الحارة. أفرادها الطائشون، كانوا قد رصدوا في يوم من الأيام قطيعاً من مئات الأغنام، يرعى على مقربة من قرية في ريف الشام، تقع على حدّ البادية. كون الوقت ظهراً، والحراس المرافقون قد ابتعدوا إلى بقعة جميلة كالواحة، مشرفة على سبخة هنالك، كي يتناولوا الغداء ـ ما كان من أولئك النهّابين إلا الهجوم بغتة مع قعقعة أسلحتهم النارية. ثم عادوا مع غنيمتهم إلى الحارة، مستعملين عدداً من العربات التي تجرها الخيل.
ما لم يكن في حسبانهم، أنّ غلاماً من الرعاة كان قد استبد به الرعب لحظة الهجوم، فانسل إلى إحدى تلك العربات وأخفى نفسه بين الأغنام. بدؤوا بإفراغ حمولتهم في إسطبلٍ يقع على طرف وادي صفيرة، صُنع بشكل ارتجاليّ ليكون مأوىً للدواب لحين بيعها، حينَ اكتشفوا وجود ذلك الأعرابيّ الفتى. يبدو أنهم أشفقوا عليه. كان يهتف مذعوراً، " ناشدتكم الله ألا تقتلوني، وسأكون عبداً لكم ". بعدما تشاوروا في أمره، طلبوا منه أن يواصل مهمته كراعٍ للأغنام المسروقة.
هذا الفتى، انتقلت ملكيته إلى عليكي الصغير حينَ اشترى القطيع. وبالطبع، كان أفراد العصابة قد أوصوا الراعي المسكين، مهددين متوعّدين، ألا يذكر شيئاً لكائنٍ من كان عن موضوع السرقة. وإنه هوَ مَن فجّرَ في نفس معلّمه الجديد نوازعَ الحنق والندم، بإفشائه سرّ الصفقة، وذلك لما رجاه يوماً أن يُطلق سراحه كي يُحاول العودة إلى ربعه. عندئذٍ، أوشك عليكي آغا الصغير أن يتخاصمَ مع صديقه حمّوكي ويعلنه القطيعة التامة، لولا أنّ الأخير أقسمَ بكونه يجهل خلفيّات الموضوع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شاهد .. حفل توزيع جوائز مهرجان الإسكندرية السينمائي


.. ليه أم كلثوم ماعملتش أغنية بعد نصر أكتوبر؟..المؤرخ الفني/ مح




.. اتكلم عربي.. إزاي أحفز ابنى لتعلم اللغة العربية لو في مدرسة


.. الفنان أحمد شاكر: كنت مديرا للمسرح القومى فكانت النتيجة .. إ




.. حب الفنان الفلسطيني كامل الباشا للسينما المصرية.. ورأيه في أ