الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في سبيل مشروع نقدي عربي.. القواعد والمنطلقات الثقافية وإشكاليات التأسيس

سامي البدري
روائي وكاتب

(Sami Al-badri)

2019 / 10 / 24
الادب والفن


في سبيل مشروع نقدي عربي..
القواعد والمنطلقات الثقافية وإشكاليات التأسيس

سامي البدري

لعلنا لا نأتي بجديد إذا ما قلنا أن المشاريع النقدية تتأسس على مشاريع ثقافية متماسكة، وإن المشاريع الثقافية مرتكزها ومحركها الأساس والرصين هو الفلسفة، بصفتها الوعاء الكبير والجذر المتين والرصين لأوجه ووسائل التعبير الفكري والثقافي لأي مجتمع من المجتمعات.
وإذا ما طبقنا هذه المسلمة على حياتنا الثقافية العربية فإن أول ما سنؤشره، كخلل وكمعوق ثقافي، هو خلو الذاكرة العربية من الجهد الفلسفي، لحد ما قبل العصر العباسي، وكل ما جرى الحديث عنه في العصر العباسي في هذا الصدد لم يتعد دور ترجمة بعض الجهد الفلسفي اليوناني، وتهميش تلك الترجمات بحواشي الشروحات، وفي أقصى الحدود، تأطير بعض الرؤى حولها من وجهة نظر الفقه الجديد، في حين أن المشاريع الثقافية التي تؤسس لمشروع نهضوي - حضاري كبير، لا يمكن أن تقوم إلا على قواعد فلسفية رصينة وأصيلة، ولعل مثال النهضة الأوربية، التي إتخذت من الفلسفة اليونانية قاعدة إنطلاق وتأسيس لها، خير مثال على ما نقول.
وإذا ما إتفقنا على فهم أن المشاريع الفلسفية، في النهاية، هي مشاريع نقدية شاملة، نخلص إلى نتيجة أن فقر مشروعنا الثقافي العربي من النقد إنما يعود، في النهاية، إلى سبب إفتقاره للجهد الفلسفي في ذاكرتنا الثقافية الأم، التي لم يكن لها من عماد غير الشعر (الشعر الجاهلي)، من واقع كوننا أمة شعر (في التعبير الثقافي عن جهدنا الفكري والثقافي)، وكما يصطلح تراثنا على هذه الحالة بالمقولة التي مازلنا نتداولها إلى هذه اللحظة: الشعر ديوان العرب.
ولعلنا لا نجافي الحقيقة إذا ما قلنا أن الجهد الفلسفي يكون المحرض والمربي الحقيقي للذائقة السليمة التي هي أهم أسس وقواعد النقد، بإعتبار أن الذائقة سابقة، في النقد، على باقي عناصر وبنى النقد.
وإذا كانت الذائقة السليمة، بقدرتها الحسية والانفعالية، هي المحرك الأساس لتأسيس منطلقات النقد والمشاريع النقدية، فيما بعد، فإنها مثلت الركيزة الأساس للفلسفة، كرؤية وفعل نقدي تمحيصي، وخاصة فيما يخص الفلسفة الوجودية، التي نقلت التعبير الفلسفي، من صيغته المجردة القديمة، إلى صيغته الفنية المتمثلة بأشكال التعبير الأدبي وأجناس الأدب الحديث، شعرا ومسرحا ورواية.
ورغم أن هذه النظرة العامة تبدو تبسيطا ممجوجا، إلا أنها كفيلة بأن تضعنا أمام حقيقة واقعة هي أن الذائقة، كوسيلة تمييز نقدي، هي أيضا وسيلة إنضاج للبؤر التي تمحور حولها جهد الفلسفة، بعد خروجه من القوالب البحثية المجردة إلى فضاءات الترويض والتجميل (وخاصة فيما يخص جهد الفلسفة الوجودية)، وخاصة في جنس الرواية، الذي بدأ إشتغال حقله الوجودي، الروائي الروسي الكبير، فيودور دستويفسكي.
وما يشغلنا هنا في أمر الذائقة هو مدى أهليتها لإداء دور الأساس أو نقطة الإنطلاق التي تبنى عليها الفرضيات النقدية ـ كقاعدة للتفلسف وبناء الرؤية الفلسفية ـ في نسج وتمتين قواعد ومنطلقات الإسئلة التي ترسم وجه المشكلة وأوجه تمظهرها، وهي بالتالي قواعد ومنطلقات المشاريع النقدية الأدبية، ولعل مثال الفلسفة ومشروعها النقدي خير مثال على ما نقول.
فالذائقة العامة، ذائقة أي مجتمع من المجتمعات، هي المرآة التي تعكس ثقافة المجتمع، بعمقها المعرفي والفكري، وتدلل على مستوى نضوج منطلقاته وآفاق تطلعاته، وإذا ما كانت وسائل تعبيره عن مشاكله ـ بالدرجة الأولى ـ قد حققت القدرة على عكس نضوجه الثقافي والقيمّي (في صورتهما الفلسفية وتعبيرها الأدبي عبر الأجناس الأدبية)، وأيضا نضوجه النفسي والإدراكي، في الجرأة على الطرح والعرض (السريري)، الغير متردد، وبإرادة ورغبة غير مقموعتين، تحت أي طائلة يفرضها المجموع الاجتماعي، تحت دعاوى المواريث والعادات التي تفرض على الأفراد وتقمع حرياتهم الشخصية.
الذائقة الناضجة هي التي تمنح البناء الاجتماعي أدوات نقدية رصينة ومتوازنة وثابتة (غير إنسلاخية) تؤهله لإنتاج مشروعه الثقافي المستقر والغير قابل للمساومة.
إن المشروع الثقافي لأي مجتمع من المجتمعات هو صورة لذائقته النفسية وطريقة تفكيره وأخذه للحياة.. ومجتمع بلا ثقافة ينتجها عقل رصين، لن تتعدى حدود ذائقته، أزقة حواريه وأسواقه الضيقة وسطوة مؤسساته البيروقراطية، سواء كانت إجتماعية أو إدارية أو سياسية.
والمشاريع الثقافية للمجتمعات لا تنتجها إلا ذائقة ناضجة مؤهلة لإنتاج قواعد ومشاريع نقدية (أدبية ثم ثقافية) تمنح، أولا، إنتاجها الأدبي والفكري ما يستحق من دراسة وحفاوة وتقويم، ثم تمنحه التقييم الذي يؤهله لأن يكون أداة فعل وتغيير وإنضاج لسيرورة العملية الثقافية التي تسيّر المجتمع، ثانيا.
وعندما يحكم الذائقة وضع ثقافي وفكري مختل أو متخلف، يظل المجتمع وتطلعاته محكومان بوضع ثقافي، أقل ما يقال عنه مترجرج أو غير قادر على هضم والتفاعل وقبول الأفكار الجديدة والمتطورة، التي تنتجها بعض عقول أبنائه الكبيرة، التي لا تتوافق مع حالة الركود (النفسي، التي يخلقها الإرث الاجتماعي، عادات وتقاليد) التي يعيشها، والتي هي تمثل قاعدته الثقافية غير المعلنة أو التي يتجنب الإعتراف بها، ويسعى أعضاء مؤسساته لإدغامها أو تضييع ملامحها كمشكلة تستحق المواجهة والحل.
ولعل حالة المجتمعات العربية خير مثال على ما نقول؛ فالذائقة العربية المحكومة بإرث ثقافي متأرجح ومختل ـ هو سلسلة من العادات والتقاليد والمواريث الاجتماعية ـ تأبى الخروج من أسر هذا الواقع، لأنها ببساطة لا تملك المؤهل الثقافي الذي يساعدها على هضم الأفكار (الثقافية) التي تناقض أو تعاكس قوالبها (النفسية) الراسبة في العقل الباطن، والتي تمثل قواعدها الثقافية الحقيقية.. وهنا أنا لا أتكلم عن المجموع العام وإنما عن النخب الثقافية، التي تتمثل في المجتمعات العربية في المؤسسات الأكاديمية، على وجه الخصوص.
ولنأخذ هنا مثال الكوادر الأكاديمية التي تشتغل في تدريس النقد الأدبي، فهذه الكوادر، التي درست وتدرس المناهج النقدية الأوربية في الجامعات العربية، لم يمكنها تعليمها الأكاديمي (والكثير منهم تحصل على شهاداته العليا المتخصصة في النقد من الجامعات الأوربية) من إبتداع مشاريع نقدية من نتاج عقولهم وبما يناسب الثقافة العربية، كنتاج للعقل والتركيبة النفسية العربية. فنحن نرى إستاذ النقد (وهو غالبا ما يستحلي أن يسمي نفسه ناقدا) يدرّس لطلبته مناهج أو مدارس البنيوية والتفكيكية والسيميائية المستوردة، على مقاعد الدرس، لكونها منهاج مقرر من قبل الوزارة، والأهم لأنه لا يملك غيرها، لأن العقل العربي لم ينتج مشروعا أو منهجا نقديا... بل ولا حتى مجرد رؤية بملامح محددة، نستطيع أن نسميها رؤية نقدية. ولهذا نرى هؤلاء الأكاديمين عندما يمارسون النقد ويطبقوه على نصوص الثقافة العربية، أما أن يطبقوا المناهج الأوربية، فيأتي شكل النقد فجا غريبا على الذائقة العامة، أو يطبقوا عليها ـ وهذا هو الأعم الأغلب ـ إنطباعات ذائقتهم، بإرثها النفسي/ الاجتماعي، والذي عندها سيكشف تهافت هذه الذائقة وتخلفها، لأنها لا تختار للتطبيق إلا أكثر النصوص سطحية، لأنها نتاج الذائقة العامة لمنتجيها أولا، ولتوافقها مع الذائقة الاجتماعية العامة، التي يجد نفسه مجبرا على مراعاتها، ثانيا، لإعتبارات ما أنزل فيها النقد ولا الثقافة من سلطان: فقط لأنها تعكس ثقافته الراسبة في عقله الباطن والجمعي فعلا!
ولهذا نجد أنفسنا أمام مشكلة ثقافية كبيرة، تتمثل في إهمال وإقصاء النزر اليسير من الأعمال الثقافية الكبيرة (في حقل القصة والرواية على وجه الخصوص) التي تنتجها بعض العقول العربية الكبيرة (الشاذة!!)، تارة بحجة جرأتها، وأخرى بإبتعادها عن الواقع، وثالثة ـ وهذا المضحك المبكي في تخلفه وترديه ـ لعدم إنسجامها مع الذائقة العامة و(حرماتها الثقافية)!!
والسؤال المهم: من قال أن الذائقة العربية تمتلك من النضج ما يضعها في مرتبة (القداسة) وعدم مساس التطوير، وبأي دليل؟ هل أنتجت الذائقة الابداعية العربية روايات تضاهي روايات ماركيز أو جيمس جويس أو فرانز كافكا أو ارنست همنغواي، في عمقها الفكري والتثقيفي و(الذوقي)؟ هل أنتجت الذائقة العربية ـ كمرجعية ثقافية هنا ـ مشروعا نقديا نستطيع أن نقول إنه جهدا ثقافيا و(ذوقيا) عربيا يكون مرجعا لمشروع ثقافي عربي كبير، ويعكس حالة ثقافية متميزة، بهوية عربية خالصة؟
وللأسف، وهذا أكثر ما يحز في النفس، بالنسبة للمؤسسات الأكاديمية العربية، إنه مازالت أغلب رسائل وأطاريح طلاب الدراسات العليا في الجامعات العربية، عندما تريد أن تطبق ما تدرسه على نماذج الرواية والشعر، تعود إلى كلاسيكيات هذا النتاج، أو ما تصالحت عليه ذائقة أكاديميي النقد على إنه هو النتاج الأفضل في تصوير وتجسيد مشاكل المجتمع، في الأعم الأغلب؛ وغالبا هو أيضا ما يفعله نقادنا الأكاديميين أو من يطلقون على أنفسهم متخصصين، في قراءاتهم النقدية للنصوص. ففي الألفية الثالثة نجد كتب الدكتور فلان.... إستاذ النقد الحديث في جامعة كذا، ومن درس الأدب الحديث لمدة كذا من السنين في الجامعة الفلانية، يعود لما كتب نجيب محفوظ في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي ليطبق عليها (رؤاه) النقدية، بإعتباراها التحف الأدبية الخالدة التي لا تقهر ولم تقهر.. وهذا لا يعني الإنتقاص من قيمة إنتاج نجيب محفوظ أو غيره، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يعقل أن في كل الكم الذي كتب فيما بعد نجيب محفوظ ومعاصريه، لا يجد نقادنا الكبار ما يطبقون عليه رؤاهم؟ وإذا كانوا هم الكبار من يهمل قراءته وتقييمه، فلمن يتركون هذه المهمة؟ لقد أحدثت رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) للروائي السوداني (الطيب صالح)، وهذا على سبيل المثال فقط، نقلة نوعية كبيرة، فنيا وذوقيا وفكريا، في تاريخ الرواية العربية، ولكني لم أصادف دراسة ترقى إلى حجمها على مدى ربع القرن المنصرم؛ في حين كان من المفروض أن يركز على هذه الرواية جهدا كبيرا من أجل تحقيق الزلزال، الذي سعت إلى تحقيقه هذه الرواية، في ذائقة المجتمع العربي، وهي فعلا قد حققته في ذاتها... ولكن لمن كان له أذن، فعلا، ويريد أن يستغلها في الغرض الذي وجدت من أجله: السماع! في حين، وفي كل يوم تطالعنا الصحف والمجلات ودور النشر بعناوين من مثل: المكان في الرواية العربية... ثلاثية نجيب محفوظ نموذجا.. شخصية البهلول في الرواية العربية... رواية أولاد حارتنا، لنجيب محفوظ، نموذجا.. أثر المدينة في الرواية العربية... رواية بداية ونهاية، لنجيب محفوظ نموذجا.. وحقيقة الأمر إننا لا نجد نقدا ولا نجد ناقدا، وإنما نجد ذائقة عربية مبهورة بسلطة وثنية الدعاية فقط! والمشكلة في أن هذه الذائقة التي مازالت مبهورة بما كتب نجيب محفوظ، في عام 1940 ، سحبت هذه الذائقة ومعاييرها على ما كتب وسيكتب منذ ذلك التأريخ إلى اليوم! أي أن هذه الذائقة عينها، والتي عجزت عن إنتاج مشروع نقدي، تمام العجز، هي التي مازالت تصدر أحكام الجودة والقيمة على ما كتب عام 2006 وما سيكتب عام 2018 !
علينا أن نعترف أن ثمة إشكالية فكرية/ثقافية تحكم وتتحكم بمصير نمو وإرتقاء الذائقة العربية، وأن أسباب هذه الإشكالية، ذهنية/نفسية، تتأتى من عدم نضوج العقل والتركيبة النفسية العربية، بسبب تركيبتها البدوية/الصحراوية، التي تمثل حالة إنغلاق في مديات وآفاق التفكير والقدرة على تقبل الجديد والمناقض من الأفكار، وهذا هو ما يمثل حالة الجمود والنكوص أمام إشتراطات حالة التعاطي، مع فلسفات الأشياء، كأطر عامة، والإنسجام مع فكرة قبولها.
وتتمحور إشكالية الذائقة العربية في فكرة الرفض المسبق الأصم للأفكار، وأيضا في عدم الإيمان بالأفكار بعد تحولها إلى حقائق؛ وهذا ما أدركه (لورنس) بحسه العميق، بعد أن عاش في جزيرة العرب وخبر الذائقة العربية عن قرب بقوله: (العرب لا يؤمنون بما يدعون إليه). أما أسباب هذه الإشكالية فتعود وتتعلق بالبنية الخاملة للعقل العربي بالفطرة، وبالتالي ـ وهذا ما يترتب على بنية الخمول ـ عدم القدرة على تقبل الأفكار الجديدة، بسبب فقدان رهافة الحس و(ضمور) أدوات التمييز أو القابلية على التعامل معها وهضمها.
ولنقرب الفكرة نسوق مثال التعامل مع منتجات العلم والتكنلوجيا الحديثة، فقد فرضت هذه المنتجات نفسها على (الذائقة العربية النافرة) بحكم الحاجة، لا بحكم الوعي والإيمان بقيمتها وأهميتها، لكونها، في التفكير العربي العدمي (كل شيء إلى زوال لأن هذه الحياة مرحلية ومصيرها الفناء) مجرد أدوات تسهيل، (مادية لا روحية) والحاجة هي التي تجبره على التعامل معها وبها، لا لكونها نتاج فكر إنساني خلاق يجب أن يوقر، وإنها جاءت ضمن صيرورة رقي فكري يجب أن تدرس حركيته، وأن يكون العقل العربي جزءا من عملية فهمها وإكمالها وإنضاجها.
الإنسان العربي كسل، وهذا الكسل بالتأكيد لحق ذائقته وشمل قابلياتها (التقبلية والنقدية) بأثره، ولهذا فهي لم تتحول إلى أداة إنضاج فلسفي، وأداة تمييز نقدية واعية تؤسس لمشروع نقدي ينسجم أو يحتوي طرق تفكيره وأخذه للحياة ويعبر عن حسه.
الرؤى الفلسفية (مناهج ومدارس) لا تأتي من فراغ ولا تولد في فراغ، بل هي تأتي كنتاج تطوري لمشروع نقدي، تدفع بإتجاهه ـ كحاجة ـ ذائقة نقدية أصيلة الوعي، ولها القدرة على إستيعاب وإحتواء حاجات الوعي والنمو الفكري المتوالدة، والتي عادة توصلها الأجناس الأدبية، عبر نتاجها، في دواوين الشعر والمجاميع القصصية والروايات وما يكتب للمسرح.

الذائقة الرصدية العربية متباينة تباينا (صقيعيا) فعلا، من بقعة إجتماعية إلى بقعة، ولا تربطها جوامع أو منطلقات فكرية الأسس من الأساس.. بمعنى أن الأدب العربي ـ بأستثناء بعض الشطحات الشاذة ـ تحكمه مرحلية الدافع للتفكير والإنتاج، ولا تحكمه قواعد عملية فكرية أو مشروع فكري/فلسفي يعبر عن حاجات ومشاكل ثابتة تعبر عن مصيره (الفكري) الكبير.
وهذا يعني بالمثال، أن الشاعر العربي، على سبيل المثال، إنتظر هزة نكبة وحرب فلسطين، عام 1948 ، لكي يبحث عن أساليب شكل ومضامين جديدة (أو مغايرة لمألوفاته لما قبل تلك الحادثة، إن شئنا الدقة) ليعبر فيها عن حجم تلك المأساة.. وهكذا الحال مع ما تبع تلك الحرب من حروب وكوارث مماثلة.. وإذا كانت الساحة الأدبية، في تلك الفترة، مقتصرة على الشعر، لعدم نظوج تجربة روائية ومسرحية يعتد بها، فإننا نجد أن تجربة هذه الأجناس في المراحل اللاحقة، كانت مرحلية الأهداف والمضامين هي الأخرى، وبالتالي لم تعكس (توجه رؤيوي فلسفي) محدد، يعبر عما كانت تعالجه (الذائقة النقدية) العامة أو تتصدى له من إشكالات ومشاكل فكرية وفلسفية.
من نافلة القول أن نذكر هنا، أن المشاريع والمدارس النقدية لا تأتي من فراغ، إنما هي حاجة تولدها حالة نضوج فكري، ترتقي بدورها بأساليب وآليات إشتغال وتعامل الذائقة، التي هي تعكس المستوى الثقافي لأي مجتمع من المجتمعات. وكلما توسعت آفاق الذائقة وإرتقت في البحث عن مستويات إشباعها، ولدت أدوات ورؤى نقدية جديدة تساعدها في البحث عن مضامين جديدة تجيب عن أسئلتها الجديدة وتسد فراغاتها.
كما أن المشاريع النقدية الناضجة، هي التي تمتلك وسائل الإحتجاج التقويضية للمفاهيم القديمة والناكصة وأدوات إنضاج البدائل الفكرية الأكثر حداثة وتوائما مع تطلعات العقل والحس الجديدة، ومثل هذه المشاريع لا تصنعها إلا ذائقة رصينة لا تساوم ولا تنفعل ولا تتنازل عن كونها وسيلة الإنضاج الفلسفي المتطلع إليها، لأن الفلسفات لا تولد من برودة العقل وجهامة صياغاته المجردة، التي تصنع الأنظمة الصماء، إنما من مراحات الحس النقي (الذائقة) التي تهذبها قوانين العقل، ومن هنا تولد المشاريع النقدية التي تقود بدورها إلى الرؤى أو المناهج الفلسفية، وهذه هي نقطة إختلاف الفلسفة عن العلم وقوانينه المجردة.
هذا الإستنتاج يوصلنا إلى أهم المشاكل التي واجهتها المناهج النقدية الأوربية الحديثة، لدى الأوربيين، والمستوردين لها من غير الأوربيين؛ فبالنسبة للأوربيين ظهرت مشكلتها من كون أنها قامت على رؤى فلسفية بنظام مجرد أهمل دور الذائقة، ذلك الإهمال الذي أحال عملية قراءة النص (نقديا) إلى ما يشبه القراءة العلمية التي تحكمت فيها قوانين النحو أو الإشارات التي أحالت جسد النص، بعد عزله عن روحيته الحسية والمشاعرية، إلى ما يشبه جسد الماكنة الحديدي، الذي يجب أن تطبق عليه قوانين الهندسة الميكانيكية ليعرف موضع الخلل في عطلها أو ضعف إدائها؛ ولعل هذا هو السبب الذي عجل بموت بنيوية رولان بارت (التي لم تعش، من الناحية الفعلية، سوى عشر سنوات من عام 1960 إلى عام 1970 في الأوساط النقدية الفرنسية) في فرنسا وأوربا، لأنها سعت إلى علمنة الأدب إستنادا إلى هذه الرؤية، وهذه هي الإشكالية التي وقعت فيها ونفرت الأدباء والنقاد منها. أما في البلدان أو الثقافات غير الأوربية، والعربية منها على وجه الخصوص، فإن هذه المناهج مازالت تدرس في جامعاتها، كمناهج أساسية قائمة وكتأريخ لتطور المناهج النقدية، لعجز هذه الثقافات عن إنتاج مناهجها أو مشاريعها النقدية الخاصة بها والملائمة لطرق تفكيرها وأنسقتها الثقافية. وعليه نرى أن ما كتبه مدرسو هذه المناهج الأكاديميين من قراءات نقدية للنصوص العربية وفق رؤية تلك المناهج، جاء بقطيعة مع الذائقة العربية ولم تستسغه حتى (الثقافة العقلية) العربية، لا لصعوبة هضمه من قبل العقل العربي، بل لعدم إنسجامه مع الذائقة العربية، لأنه لم يكن من نتاجها ومن نتاج إشتراطاتها وحاجاتها الثقافية والفكرية.
ولهذا نرى، في ثقافتنا العربية وإصداراتنا الأدبية، أن ما يكتب من نقد تطبيقي بالإعتماد على المناهج الأوربية أو بتطبيقها، قد إنحسر ليقتصر على البحوث الأكاديمية، وأما ما تتداوله مجلاتنا وصحفنا في صفحاتها الثقافية فهو ليس أكثر من إنطباعات الذائقة، لأنها تكون الأقرب للفهم والأكثر إحاطة بحاجات ذائقتنا وفهمنا الأدبيين والثقافيين.
وهذا يعني في النهاية ـ على المستوى الثقافي ـ أن الذائقة ليست كيس تبضع أو وعاء حمل للأشياء، بغض النظر عن هويتها وأغراض إستخدامها، إنما هي أداة خلق ثورية وفعل إختبار وتصنيف، بمرجعية الحس السليم.. وهذا الحس هو ما تفتقر إليه البنية الثقافية العربية، إضافة إلى البنية الذهنية القادرة على التفاعل والتوليد والإنسجام مع الأفكار الجديدة.
وإذا ما أردنا أن نفلسف تخلف الذائقة العربية أو تحجره عند نقطة (وعي) أو (تاريخية) واحدة، نقول أن الذهنية العربية، وهي السابقة على الذائقة، تعاني من إشكالية على مستوى التقبل والهضم والإستيعاب لكل ما هو يناقض مألوفاتها المكتسبة، بسطوة التقادم التأريخي والنص الفوقي (اللاهوتي)؛ وعليه فإنها، وبدل أن تربي وسائل وأدوات حسها وتفاعلها، فإنها تربي وسائل حماية دفاعية لحماية حالة الركود التي توفر لها حالة من الإستقرار وراحة الكسل، ضد أو في مواجهة حالة الشك التي يولدها وضع التفاعل، والبحث عن مبررات لمشروعية وصلاح الجديد، وخاصة فيما يتعلق بالبنى المفهومية والقيمية التي ولد عليها... وأظن أننا لسنا بحاجة للتذكير بقصة تقبل حنفية الماء، من قبل فقهاء عصر دخولها إلى حياة العرب، والتي أجبر تحليل أو شرعنة إستخدامها إلى تسمية مذهب فقهي كامل بإسمها!
أن إفتقارنا، كعرب، للمؤهل والحس النقدي الأصيل، هو ما يقف حائلا بيننا وبين إمتلاك قابلية البحث والقدرة عليه، وأيضا ظهور الباحثين، النقديين، في حياتنا الثقافية.
وعندما أقول أن ليس في الثقافة العربية من يمتلكون روح البحث والقدرة على بذل جهد الملاحقة والإستقراء والإستنباط، فإني أعني أن ليس في الثقافة العربية من يؤمنون بقيمة البحث الفلسفي... بل لا يشعرون بأثره في حياتهم من الأساس، لأنهم (منتمون) إلى واقعهم، كما يقول كولن ولسن، ولأنهم متصالحون مع أنفسهم على فكرة الإستسلام القدرية: (ليس بالإمكان أحسن مما كان)! وبصياغة أكثر قربا من صيغة التفكير العربي: بدل أن أهدر جهدي ووقتي في البحث عن وجع الرأس، الأفضل أن أبحث عن مصادر لتعظيم ثروتي وزيادة مساحة رفاهي... وهذا ما يتفق عليه جميع العقلاء، من كافة الجنسيات وكافة الثقافات، والحقيقة التي لا مراء فيها: هذه هي حدود (الذائقة) العربية وما ولدته من آفاق!
إشكاليات التأسيس

الإشكالات البنيوية
------------------------
فيما يخص النقد الروائي، علينا الإعتراف والتعامل مع جنس الرواية على إنه جنس مستورد (دخيل) على الثقافة والذائقة العربيتين، فتراثنا الثقافي لم يعرف من أساليب القص غير الحكاية، وفي أبسط أشكالها؛ وعليه، وهذه مشكلتنا (النقدية) الكبرى، إننا مازلنا لا نرى الرواية، (كجنس أدبي ومستقبل)، بل عبر حكايتها كقصة؛ بل أن تماسك الحكاية، كبنية درامية، هو أهم ما يشغلنا ويحدد (موقفنا) النقدي والتقييمي لها، وليس بناها التقانية والفنية، كجسد فني إبداعي وفكري، له إقتراحاته الثقافية الإزاحية والتقويمية لبنى الحياة الثقافية والفكرية للمجتمع، وطبعا هذا ما يقف حائلا أمام تأسيس مناهج نقدية جريئة واعية، وهذا ما يخص الجانب الإجرائي طبعا.
أما فيما يخص الجانب الفكري، وهو الجانب الإرتكازي الرؤيوي في عملية التأسيس للمشاريع النقدية الرصينة والواعية، فمازالت مشكلة التابوهات الكابحة (الجنس، الدين، السياسية) هي المهيمنة المعيقة/الرادعة التي تقف حائلا أمام عملية تأسيس المشروع النقدي الواعي لحاجات وضرورات المجتمع العربي، كفعل ثوري خلاق، يزيح القديم والبالي من الأفكار، والتي لم تعد تتناسب وروح العصر وطفراته العلمية والتكنلوجية، لتستبدلها برؤى وتصورات ومقاربات أكثر إنسجاما مع روح العصر..، وطبعا هذا الإشكال تندرج تحته أخطر المهيمنات التي صارت تتحكم في جانب إنتاج الفن الروائي وعملية نقده، وهي المهيمنة الأيديولوجية، التي باتت تتحكم في فرضها المشاريع النقدية الزائفة أو واجهاتها (النقد الرسمي السلطوي) الذي تمثله الصفحات الثقافية في الصحف الرسمية والجوائز السخية، التي صارت حاليا هي المعيار المهيمن والموجه لعملية كتابة الرواية وإنتشارها، تحت الشعار المعمول به، رغم عدم إعلانه: نحن من نختار لجان التحكيم ونحن من يمنح الجوائز السخية، ومن يريد أن ينال مكافئاتنا السخية فليكتب ما يوائم رؤانا الايديولوجية...وإلا فإنه من الخاسرين!

الإشكالات المفهومية/الفنية
---------------------------
مازال الفهم النقدي العربي يتعامل مع النص الروائي على إنه فعل سرد حكائي، وليس كبنية قص لرؤية تخليقية لفعل التغيير الثقافي. بمعنى أن الفعل النقدي مازال يتعامل مع النص الروائي كعملية روي لقصة حدثت في الواقع، أو تفرعت منه، وليس كمقترح ثقافي تشوفي لفعل حياة ثقافية جديدة. وهذا يعني في النهاية، ترسيم حدود سقف الرواية، وتحديد هويتها وجواز صلاحيتها، بسقف الأعراف الذوقية العامة والرؤية الايديولوجية الحاكمة. وهذا يعني أيضا، خضوع روح النص الإبداعية لجملة المحددات التي لا يجب أن تتجاوزها لتحصل على الإعتراف بهويتها أولا، وصلاحيتها للتداول و (الإستهلاك) ثانيا، تحت مسمى الواقعية ومعالجتها لهموم الواقع، من وجهة نظر ايديولوجية.
ومثل هذا الفهم في النهاية يقولب النص الروائي عند نقطة أو تحديد بعينه، وبالتالي يحصر عملية التعامل النقدي معه في حدود التقييم، المدح أو الذم والمفاضلة على غيره.
وتنسحب هذه الإشكالية على عملية (التمرير النقدي!) في الفهم والتقبل الفنيين للنص الروائي بالذات، وهو العبء الذي على النص الروائي تحمل محمولاته ودفع ثمنها، فيما لو عملت على إزاحته معالجة نقدية متسرعة أو معادية لنسقه وطرحه ومعالجته المغايرات للفهم السائد والشائع أو الجاهز لدى المؤسسات الرسمية (الأكاديمية والرقابية).


الإشكالية المؤسساتية
-----------------------
هذه الإشكالية، والتي يستمد أصحابها سلطاتهم من بريق اللقب العلمي (أظن أن تسميته اللقب الأكاديمي تكون أكثر دقة)، وليس من جهد معرفي وتنظيري حقيقي، قد تحولت لكابح وعقبة كأداء في طريق العملية الإبداعية، وعلى كلا طرفيها، الإبداعي (النصوصي) والنقدي على حد سواء. فمن جهة الإبداع السردي، صار رواج عمل روائي يحتاج لمباركة (لقب علمي مؤسساتي) من أجل تمريره ورواجه، ومن جهة النقد صارت مقالة لإسم أكاديمي، حصل على جائزة من هذه الدولة أو تلك، أو لتسويق إعلامي باذج، لها نفس الدور تقريبا، في عملية التمرير والترويج، وخاصة إذا ما تبعت هذه المقالة لعملية فوز بجائزة كبيرة من جوائز الرواية التي تكاثرت، تكاثر فطر الحقول، مؤخرا، وصارت هي معيار الترويج الأول للرواية العربية، وخاصة في ظل غياب الجهد النقدي الأمين، وأيضا غياب جهد عرض الكتب (النقد الصحفي) من الصفحات الثقافية للصحف العربية.
ولكي أوضح أبعاد هذه الإشكالية، سأسوق هنا مثالا من جهد ثلاثة من ألمع الأسماء النقدية العربية، المصري صلاح فضل، السعودي عبدالله الغذامي، وأخيرا العراقي عبدالله ابراهيم.. هذه الأسماء الثلاثة نالت شهرة واسعة ونالت تكريمات وجوائز كبيرة، وعلى هذا الأساس سأنظر في أخر ما قرأت لهم في النقد التطبيقي.. صلاح فضل آخر ما قرأت له هو قراءة له في رواية العراقية، أنعام كجه جي (طشاري) وهذه الرواية، وربما هذا ما حرض فضل على التوقف عندها، وصلت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية، وحقيقة الأمر هي ليست أكثر من حكاية ساذجة، وخاصة إذا ما قارناها بروايتها التي سبقتها، الحفيدة الأمريكية، والتي وصلت للقائمة القصيرة لنفس الجائزة في دورة سابقة؛ وما أثار إستغرابي وأثار شكي في إخلاص الرجل للجهد النقدي هو توقفه أمام حكاية طشاري الساذجة وعزوفه عن رواية حقيقية، تعددت مستوايات إشتغالاتها، التكنيكية والتقانية والفنية والفكرية، مثل رواية الحفيدة الأمريكية. والأمر نفسه وقع فيه الدكتور عبدالله ابراهيم في تقديمه للترجمة العربية لرواية (الساعة الخامسة والعشرون)، فقد صب كل جهد قراءته لتلك الرواية على جهدها الحكائي - الدرامي، من دون باقي إشتغالاتها، والغريب أن قراءة الاثنان كانت إنطباعية صرف. أما الدكتور الغذامي، وهو مثل سابقيه، له إرثه اللافت للنظر في (هوامش) التنظير، ولكنه عندما جاء ليطبق منهجه المفضل (في التطبيق، السيميائية، فهو يرى نفسه سيميائيا) إختار أكثر النصوص بؤسا في إشتغالاتها، ولشعراء لم يواكبوا حركة التجديد والحداثة، بل ومغمورين تماما، ولم يتعد نشرهم حدود الأراضي السعودية.
سقت هذه الأمثلة لأدعم ما ذهبت إليه في أن الجهد النقدي العربي، وهو إنتقائي تماما، لم يكن يوما جهدا منظما ولا مخلصا لأمانته العلمية ولا الثقافية، بل ولا حتى الأدبية.. جهد تحكمه المزاجية والعلاقات الشخصية، بل وحتى المصالح المادية الآنية الضيقة.

ما سأخلص إليه في النهاية، هو أن الذائقة والذهنية العربيتين مازالتا تعانييان في تقبل وهضم الرواية، هذا الجنس الأدبي الجديد على أشكال التعبير العربية؛ ومازالتا لا تريانها إلا في حدود الحكاية، وفي حدود أو ما تتوفر عليه من بنية درامية وعبرة وموعظة أخلاقية، والغريب أن هذا يأتي على مستوى الجهد النقدي الأكاديمي بالذات، رغم أن الساحة الروائية العربية تتوفر، ومنذ منتصف القرن الأخير، على جهد روائي يرتقي بعضه، ورغم قلته، إلى مستوى العالمية.
هل يصر الجهد النقدي الأكاديمي العربي على تحقيق مقولة الفرنسي (معرفة النقاد في الأدب لا تزيد على معرفة بائعات الهوى في الحب)؟، ومقولة لو كان النقاد يعرفون شيئا عن الأدب لنجحوا في أن يكونوا روائين أو شعراء؟ ولابد من أن أذكر في النهاية إني حاصل على مؤهل أكاديمي عالي في النقد الحديث، وأني أول ما أعني بملاحظاتي هذه جهدي الشخصي، قبل أعني بها زملائي..
هل يحق لي الآن الخروج والذهاب وأنا أدندن بلحن فرح، كأي صانع فرغ لتوه من إداء عمله؟ لا بالقطع!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي