الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين قدسيَّة النّقْد وقدسيَّة النّص قراءة في:كتاب -مرايا نقدية في الشعر الفلسطيني المُعاصِر- –بروفيسور عمر عتيق

عمر عتيق
أستاذ جامعي

(Omar Ateeq)

2019 / 10 / 30
الادب والفن



للكتابة أبعادٌ لا نهائيّة تجتَمِع لتُعطي صورةً بسيطة عن النّفْس والرّوح. إذا تناوَلَ النقد البُعدَ اللغَوي والسّياقي الظّاهِر والصّوَر والاستعارات والرّوابط معَ التَاريخ والأسطورة والكتابات الأخرى واتّخَذَ قدْرًا كبيرًا منَ المقاييس، تبقى النّفس وتبقى الرّوح غائبة، غامِضة وبعيدة...
قبلَ أن أقرَأَ كتاب: "مرايا نقدية في الشعر الفلسطيني المُعاصِر" فاضَ في نفسي مخزونٌ من قراءات لمقالات نقديّة مختلِفة وشعرت بالهمّ لأنّني توقَّعْت أنني أمامَ نصوصٍ أكاديميّة، نظَريّة مُتعِبة وأمامَ مقاييسَ تقتحِمُ النّص وتُشرِّحُهُ وتكشِفُ عِلَلَهُ ورُبَّما ميزاتِهِ! وبعدما قرأتُ الكتاب وجدتُ أمامي أكاديميًّا ذا قامة كبيرة ومُميَّزة يحتَفِلُ بالحياة داخل النّص ولا يُخفيها بالنظريّات والفلسفة النّقديّة والأكاديميا...وفكّرْت: هل كلمة مرايا جمع مرآة أم جمع مَرِيَّة وهي الناقة غزيرة الإنتاج!!
في شِعْر يوسف الخطيب وجدْتُ عالَمًا كانَ مغمورًا ليسَ بالنسبةِ لي فقط وإنّما بالنسبة لكثير من القرّاءحسبما أوضَحَ بروفيسورعتيق. تحليل شعر يوسف الخطيب كانَ تحليلًا لفِكْرِهِ وسَبْرًا لأغوار النّفْس والنَّصّ معًا، وتَحليقًا معَ خَيالِ الشاعر وصُوَرِهِ، مُظهِرًا كلَّ جماليّاتِها خاصّةً في التّناصّ الدّيني... فاستخدام الاستعارات الدينيّة أعطى تركيزًا على لبِّ الفِكرة التي طَرَحَها الشاعر وعلى الأرضِ التي نبتَتْ مِنها، واعتَبَرَ التناص ص24 "تَجَلِّياتٍ روحانيّة وإشراقاتٍ إيمانيّة نابِعة من دُفْقات وِجدانيّة".واعتبَرَ التناص الديني المُنصهِر بالسياقِ السياسي في لوحةٍ فنّيّة، وعْيًا يحتاجُ بالضرورة إلى نوعٍ منَ الحسِّ التاريخي والحِسّ الفنّي الذي يربِطُ بينَ النصِّ الحاضر والنصِّ الغائب. ص26. بثَّ بروفيسور عتيق في شعر يوسف الخطيب ضوءً وصَلَ إلى كلِّ زاوية وكلّ طبَقة من طَبَقاتِ النصّ، وظَهَرَتْ إثْرَ ذلك الكثير من زوايا النص المُعتِمة وغير المرئيّة، فظَهَرَتْ الأصنام المُبَجَّلة لتَدُلَّ على تقديسِ الزُّعَماء!
في كثيرٍ منَ المَواطِنِ النقديّة التحليليّة شَعَرْتُ، كقارئة، بالتماهي الواضِح-Empathy- بيْنَ الناقِد والمُبدِع وكأَنَّ النّاقَد هوَ الشاعِر نفسُهُ مع التشديد على "وكأَنَّ" ...
حتّى التعالُق بيْنَ النصّ المسيحي والإسلامي اعتبَرَهُ المؤلِّف ثقافةَ توْحيد تنِمُّ عن قُدْسيَّةِ النسيجِ الفكري للشاعِر وتُسخِّرُ توحيدَ الأماكِن المقدَّسة لتُصبِحَ الجُغرافيا فِكريَّة وَحْدَويَّة تُلغي تضاريسَ المعتقداتِ الطائفيّة! ص29.
إذا كانَ النقد عِلْمًا ومقاييسَ أكاديميّة نظريّة عِندَ كثيرٍ منَ النُّقّاد، فهْوَ عندَ بروفيسور عتيق، بالإضافةِ إلى ذلك، روحٌ تعيشُ النّص فيعيشُ فيها. حتّى التكرار اعتبَرَهُ "أمنيةً مُنْتَظَرَة" ص32، فكانَ نقدُهُ بارِعًا في إعطاءِ مصداقيّة للإبداع وبإظهارِ جمالياتِهِ بكامِلِها، حيْثُ استبدَلَ مِبضَعَ الجرّاح بالأشِعة الخارِقة لطبقاتِ النّص.
أمّا عن نقد إبداعِ الشاعر أحمد دحبور، فإنَّ المؤلِّف يعيشُهُ ويُحْييهِ ويرسُمُ حياتَهُ وإبداعَهُ لحظةً بِلحظة!وفي هذا الباب يَضَع نصّ أحمد دحبور تحْتَ مِجهر سيكولوجي فيعلو الألم وتُحلِّقُ الصوَر الشِّعريّة في فضاءِ الرّوح. ولم يكنِ النّقد هنا إلّا ضربًا من ضُروبِ التَّبَنّي للنَّص وإعادة تكوينِهِ، حيثُ تتعلَّقُ معاييرُ النّقْد بالنّص وبالإبداعِ المُطلق! والضوءُ الذي يغمُرُهُ بِهِ إيجابيٌّ بالتعريف، إلى حدّ أنَّ النّقْدْ أضافَ إبداعًا على إبداع...
وهكذا ينبثِقُ النقد من داخل النص وليس من نظريّاتٍ جاهزة. والناقد هنا لم يطبِّق نظريّاتِهِ على النصّ وإنّما استدرَجَهُ النّص ليصِلَ إلى منابِعِ الإبداع! وهنا أسأل: هل يُمكن أن يعتمِدَ المُبدع على اللغة والكلمات لتُزوِّدَهُ بوسائلِ التعبير، أم أنَّ الذات والخَيال والفِكْر والحُلُم تفرِضُ حُضورَها وتشُقُّ طُرُقًا مختلفة لإيجاد الصورة والسياق المُعَبِّرَيْنِ عنْها؟
هناكَ مُبدعون خَلقوا حالاتٍ نادرة- غريبة وبسيطة جدًّا للتعبير عن حالات كوْنيّة فلسفيّة إنسانيّة. وبناءً على ذلك، فإنَّ في مركزِ الإبداع يوجد عالم المُبدع الدّاخلي بِفِكْرِهِ وخيالِهِ ودلالاتِهِ الخاصّة، وليس فقط الحقل الفكري العام بدلالاتِهِ وشعاراتِهِ.
وهنا في هذا الكِتاب تطرَّقَ بروفيسور عتيق إلى البُنْيَة التحتيّة العميقة للقصيدة والتي تحوَّلَتْ إلى روح تحيا في جَسَدِ النصّ، حيْثُ لم تكن القصيدة في بحثِهِ هيكلًا تُطَبَّقُ عليهِ مقاييسُ النقْد. فالنقد هنا يعيشُ الإبداع بكل لَحَظات تكوينِهِ ويستحضِرُ روحَهُ! والناقِد هنا هو قارئٌ ومتذوِّق مُبدِع ومُبحِر ومُشارِك في عُمْقِ النصّ ودلالاتِهِ مُظهِرًا عبَقَ الإبداع! اقتباس ص63: "تمتصُّ القصيدة تفاصيلَ الأُسطورة" ولم يعتبرْ ذلكَ اجترارًا!!وفيص34 اعتَبَرَ التكرار أَلَمًا وأُمنية للتخفيفِ من حِدَّةِ الأَلَم. وفي ص66 قال: "تضمين نصوص آخرين في نصِّ القصيدة يدُلُّ على تفاعُلٍ أكيد بينَ أجزاءِ التاريخ الروحي والفكري للإنسان". فالفضاء النفسي للقصيدة يستحضِرُ السياقَ النفسي فيها.
في كُلِّ مَدْخَل أو تمهيد لفصْل عن مُبدعٍ ما تتجلّى لغة بروفيسور عتيق بجمالٍ ساحِر اقتباس ص81: "وتنسابُ الألفاظ العامّيّة من حنايا التراكيب الفصيحة في الفضاءِ اللغَوي إذ إنَّ المستوى النفسي للألفاظ لا يقِلّ حرارةً عن ألفاظِ الحُبّ ذاتِها، فالمُعْجَم الشعري يكاد يضيق إلى دَرَجة لا يجِد فيها الشاعِر بديلًا عنِ الألفاظِ العامّيّة التي تختزِلُ حرارةً وِجدانيّة لا تُدانيها ألفاظٌ أُخرى، وتُصبحُ ألفاظًا أثيرة لا بديلَ لها في معاجِمِ اللغة".
وهذا وَرَدَ أيضًا في التمهيدِ الرائع للبَحْث في شِعْر عزّ الدين المناصرة. وعن "جفرا" قال: ص83 "دلالات جفرا من زِئبَق، كُلَّما أمسَكْنا بدلالة انفَلَتَتْ مِنّا عناقيد دلاليّة". وهنا يتغنّى النّاقد بالنّص ويُعيد إبداعَهُ، وبذلك قراءةُ النقد تُضيفُ مُتعةً على مُتعةِ القصيدة!
وفي سياقٍ آخر ص101 يقول: "في نهايةِ المَقطَع أصبَحَ الشاعر مُثقَلًا مُختنِقًا بِغَصَّةِ المنفى وهو إحساسٌ يستدعي تركيبًا استعاريًّا مُكثَّفًا، إذ إنَّ المستوى النفسي يتقاطع مع المستوى الفنّي في الخطابِ الشّعري!". وهكذا يصِلُ الناقد إلى المستوى العميق المُضمَرِ الغائب للنصّ! ويُصبِحُ نقدُهُ دُروسًا في جماليَّةِ الكتابة وفي ترويضِ اللُّغة تمامًا مثلما هوَ دروسٌ في النقد، أقتبِس: "عشْقُ الإنسان للمكان في اللّاوعي، يكشفُ عن أسرارِ الباطِنِ التي لا تتجلّى إلّا في حالةِ الصفاءِ الروحي." ص105. فهوَ يدخُلُ إلى عالمِ الشاعِرِ الداخلي عن طريقِ النّصّ ويصِفُهُ ليسَ قبلَ أن يتماهى مَعَهُ، ويرصُدُ المشاعِر في كلِّ الحالات النفسيّة. وعلى سبيلِ المثال في وصفِهِ للحُبّ تتجلّى قُدرةٌ سِحريّة لديهِ في تفاعُلِهِ مع النصّ ويكشفُ التجلّياتِ النفسيّة للشاعِرِ المُحبّ والمرأة التي يُحِبّ. وفي ص124-125 يُبدِع بروفيسور عتيق في رَصْدِ الشَّحناتِ الدلاليّة والإيحاءاتِ الوِجدانيّة للكلماتِ العامّيّة مثل: عجعَجَتْ وربَّعَتْ وحتّى للضميرِ المُتَّصِل في بلادِكُمْ!وأبرَزَ التعابيرَ المحكيّة التي تقبع في بطون المعاجِم/على حدِّ تعبيرِهِ (مثال: الغزل بالدالية ص126). مع كلّ قراءة لجماليّةِ النقد والنّصّ كنتُ أرى الناقد جالسًا بارتياح وهدوء ومُناقِشًا بحنان ومُتَغَنّيًا بالعربيّة ودلالاتِها وظِلالِها وثَرائها اللانهائيّ، إن كانَ في بُطونِ المعاجِم أو في تراثِها الأدبي أو في المَوْروثِ الشعبي الشّفَوي.
قرأْتُ كثيرًا من أشعارِ المناصرة سابِقًا، ولكنْ بعْدَ قراءتي للمرايا النقدية، دَخَلَتْ أشعارُهُ في مدارِ روحي وأفعَمَتْني!
ومن أجمل ما قرأْت، عن العواطف والمعاجِم والشرائعِ اللغويّة، حِوارًا بينَ الثّراءِ الوِجداني والثّراءِ اللغوي:ص135: "وأزعُمُ أنَّ انصِهارَ العاطِفة مَعَ تفاصيلِ المقام يُلغي الأعراف والشرائعِ اللغَويّة، وتُصبِحُ اللغة شيفرة تستَمدُّ رموزَها من حرارةِ العاطِفة وحدَها لا من بُطونِ المَعاجِم".
أمّا عن "شتاء ريتا الطويل" فالمرآة النقديّة فيها كانت إعادة خيال وإعادة تكوين وإعادة إبداع!
في الحديث عن مُبدِعٍ آخر، وليد جرّار، قرأْنا عن ظاهرة الاستعارة من قصيدة إلى أُخرى وِفْقَ المضمون وتموُّجاتِ العاطفة. وفي قصيدة الرثاء أظهَرَتْ المرآة النقديّة "مشاهِدَ تُحوِّلُ الخِطابَ الشعري إلى لوحاتٍ فنّيّة استعاريّة بهَدَف إعادة تشكيل مظاهِرِ الوجود... فتزولُ الحواجِز بينَ ما هوَ مادّي وذهني". وفي هذا السياق، يقول بروفيسور عتيق: "حقيقةُ ما في النّصّ هي حقيقةُ ذاتِ الشاعِر الذي يحاوِلُ أن يُعبِّر عمّا في نفسِهِ، لكنَّهُ بالتأكيد لا يقولُ كلَّ ما في نفسِهِ!!"ص155.
وفي ديوان "ما وراءَ ديمة" هناك تتبُّع "للجينات النفسيّة" و "العناقيدِ الوِجدانيّة" قبلَ اللغة ومبنى الأوزان، ويتتبّع الجمال بكل أشكالِهِ في الفضاء الدلالي للقصائد. وهنا أيضًا، كما في "مسروق السماء" و "نشيد...وآخَر" تتعالى أفكارُهُ في سماواتِ النصوص لتلتقي بكلِّ ما التقى بِهِ خيال وفِكْر المُبدِعين.
ويستمِرّ حتى نهاية الفصل الثالث عشر ويتحدّث عن المَجاز والعَبَقِ الكنعاني في "بتول لُغَتي" وعن الآفاقِ الدلاليّة في "آخِرِ الماء" وعن الخصوبة الدلاليّة في "قوافِلِ الظَّمَأ" وعن المستوى الإيقاعي والمستوى الفنّي الاستعاري في "بيان الطفلِ الفلسطيني الثائر".
وأخيرًا، هنيئًا لنا بكَبروفيسور عتيق، وهنيئًا لكلِّ من تجلّى إبداعُهُ/ها بينَ يّدَيْك، فأنتَ تبُثُّ حياةً في كلِّ نصٍّ تُعالِجُهُ وكأنَّ لسانَ حالِ النصّ يقول: سوفَ أحيا..لِمَ لا أحيا وفي قلبي وفي عيني حياة!
أيُّها الأديبُ الناقد والناقدُ الأديب عمر عتيق، مباركٌ قَلَمُكَ وفِكرُكَ!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا