الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حين يؤسس الخيال مكاناً خارج السلطات

روزا ياسين حسن

2006 / 5 / 22
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


"جورة حوا" رواية لمنهل السراج
ثمة ألوان متبدلة للأرقام، ألوان للشهور، وألوان للأيام. ألوان تحيطنا على طول صفحات الرواية، الرواية الجديدة للكاتبة السورية منهل السراج، التي تدأب، في محاولة حثيثة، لتأنيث اللون، وإعطائه ما يستحق من قدرة، لا تمتلكها إلا أنثى، على تمييز الأشياء، الأفعال، وعلى تغيير للون كلما تغيرت التجربة. أعتقد أن المقصود لم يكن تأنيث اللون فحسب بل تأنيث النص أيضاً، حين يتجلى ذلك في الغرق بالتفاصيل، عدم هيمنة المطلق، وتدوير المصائر المتبدلة للشخصيات.
في وقت تهاجم الألوان أنثىً ما، تصرخ: لا التزام، لا واقع، لا قوانين، لا آلهة. في مجتمع مغلق يحاصرها، مجتمع بلون واحد كـ "جورة حوا"، إحدى حارات مدينة حماة القديمة، وهو عنوان عمل جديد للكاتبة منهل السراج، صادر عن "دار المدى"، سيكون مصير تلك الأنثى كمصير مي الرسامة، المتنقلة من أبجدية اللون إلى مراهقة اللون إلى محاولات لتلوين رتابة حياة في مجتمع متفرغ لقمعها، لا يرى في البرتقالة الأرجوانية إلا تقشيرها، وفي أخضر البقدونس إلا التقطيع. يفعلون ذلك ثم يلتهمون كل الأشكال والألوان، بعد أن يطحنوها ويحولوها طعاماً. لا يرون من الألوان إلا الطعام واللباس والرتابة. هذا يحصل، فيما مي أنثى تصبو إلى تلوين الحب والعشق حين حضور الحب شيء سموي، رملي، متمهل، حلمي، زاهد، أبيض، أزرق، صافٍ، شفاف وعميق. ملوّن بألوان خاصة كألوان قطعة الحلوى.
بلغةِ راويةٍ كلية المعرفة، تتحكم بشكل ديكتاتوري واضح بمصائر شخصياتها، عارفة بأدق التفاصيل المخفية، ستحوك الروائية ثلاث حيوات لثلاث إناث: تتباينَّ باطراد، تتحدن، ومن ثم تنفصلن. حيوات ثلاث أهم ما فيها هو وجودها في مدينة حماة بعد الأحداث (أحداث الثمانينات على ما أعتقد)، التي عملت على المماهاة بين الدين ومعارضة السلطة المستبدة. أحداث حماة ستبقى خلفية واهية على طول الرواية. على هذا، سيصبح الأب وإخوة كوثر الثمانية، الذين اعتقلوا بعد الأحداث، أبطالاً غائبين طوال الرواية، حاضرين في كل نأمة، جعلتهم السلطة يدفعون، ككثيرين غيرهم، أثمان كونهم من حماة، وكونهم غير سلطويين أيضاً.
جورة حوا - المكان الثابت المتبدل، ستتغير معالمها بعد الأحداث، وستتحول ساحة العيد القديمة الملونة إلى بقعة متربة مغبرة. جورة حوا نفسها التي شكلت مي، ستشكل الرسامة كوثر أيضاً، لتجعلها مصوّرة لقطط بلا رؤوس. ذلك أن معلمتها الشيخة لا تفتأ تنبهها أن رسم مخلوق كامل شبيه بالكفر، فلا أحد قادراً على خلق شيء كامل إلا الله. مسجونة في أفكارها المغلقة، وفي غرفتها المغلقة، وفي حياتها المغلقة، تتخبط كوثر حيث لانهائية المكان والزمان في لوحات رفيقتها مي، ستقابلها أسوار مصمتة في لوحة كوثر، كانعكاس مباشر لخيالها المصمت المقتول. تحكم كوثر اللطخة المتخيلة السابحة على مساحة جبينها الضيق. لطخة وهمية تغدو هي الحقيقة بكليتها، وكل شيء دونها هو الوهم. ربما كانت لطخة تخبطها وتبعيتها، أو لطخة شهوة الأنثى التي تتملك كل ذرة من أقاصيها، وهي تنوء تحت ذنبها ولا تستطيع فكاكاً. الحديد المصهور سيسكب في الأذن لحظة القيامة، والحب قذارة. وربما كانت لطخة الرغبة بالمعرفة، فيما يناديها رجال الدين، "نساء الدين"، كيلا تعرف، أن تسلم فحسب: لا تتدخلي في السياسة وأمور الدولة ولا تكثري من قراءة الكتب، إذا كان الحبر يسوّد بياض الورقة فكيف يفعل ببياض القلوب. لأن التسليم يتقوض بالمعرفة، كان على كوثر أن تقهر جسدها قهراً. تقع منهل السراج في المباشرة المبالغ بها، والتأويلات المعروفة لعدد من الرموز والإزاحات، لكنها مع ذلك تحاول التملص في نهاية الرواية، وقت تنجح كوثر في رسم طريق "ديني" خاص بها. أما مي، ملكة اللون، التي لم تكن لتستطيع ذلك لولا شجاعتها، فستصل في النهاية إلى الهلاك "الموقت"، ثمن الصدق، لأن أهالي الحارة يصطادون توقها للفضاء وغرابتها، كما تصطاد أيّ فريسة مغايرة، بالسمعة السيئة - المقتل الأساسي لكل امرأة مختلفة. تنفيذاً لمقولة ريمارك: الإنسان أسير رتابة الحياة تغيّره أدنى نسمات الحرية، ولأن ألوان الكسوف ستغريها بأخذ مكان الشمس المكسوفة، ستخلع مي ملابسها - قيدها، وترقص رقصة بدائية احتفالية بتنصيبها على عرش الشمس. هنا ستقوم القيامة عليها وتبدأ الأقاويل، مما يجعلها، أو يجعل أهلها، يبعثونها إلى السعودية، حيث قد يستتر كل عيب في الأرض الحرام، ويزوجونها هناك من عبد الرزاق. لكن اللوحة لا تخلص إلا لمن يخلص لها فحسب. وحين ستخون مي قدسية اللون، قدسية الفن، وتمارسه كحالة مكملة من حياتها العفنة في السعودية، وتصبح اللوحة مكملة للذة الشوكولا والزواج والتسوق، ستتأبى على ألوان مي وتخونها. كتامة اللوحة توغل في تقزيمها.
حتى هذه الفقرة، ما من جديد على المصير الذي قد يكون متوقعاً لهذه الشخصية. لكن أن تبقى قادرة على العشق في الأرض الحرام فهذا ما يثير الدهشة، وتعود منهل السراج من جديد إلى نمطية الشخصيات حين يتخلى ربيع، وهو عشق مي الخاطئ والجديد عنها، كما يتخلى كل رجل "شرقي" عن عشيقته "الفاجرة". الشخصية الثالثة ريمة، الغارقة في النمطية هذه المرة أيضاً، ستبدأ بكل ما هو متوقع، وقد يستطيع القارئ دون كثير تعب أن يتكهن بنهايتها. ستبدأ زوجة وصولية، مبذرة، ومدعية، تهتم بالمظاهر فحسب، وتنتهي كما هو متوقع، مطلقة وقد فارقتها الثروة عقاباً.
بلغة منسابة رشيقة، عملت منهل السراج على سبك مجموعة أنثوية تتألف من ثلاث كاراكتيرات: مي المتمردة، كوثر المتدينة، ريمة المدعية. أحياناً يخيّل للمرء أنها لا تحيد إنشاً واحداً عما هو معروف، كأنها معدة سلفاً لذلك. حتى حين تحاول منهل السراج أن تكسر تلك الرتابة في مصائرهن المتعاقبة المنسابة: عقاب ريمة المتحذلقة، تلمّس كوثر لطريق عقيدتها الخاصة، وعودة مي إلى الطيران لكن بتروٍّ. وهي إذ تجهد في تقديم المستقبل بلسان عرافة في آخر الرواية، فإنها لا تستطيع تماماً أن تنأى بالسرد إلى مناطق بكر.
الرواية حلم بمكان نؤسسه كما نحلم، حلم بحماة مغايرة، نصلي لها في الصباح والمساء، يخرج رجالها ونساؤها في الربيع بدل اختبائهم في الجحور، يغنون أغاني حموية ومصرية ولبنانية وفرنسية وصينية. يتسامحون مع المنكرات. حماة جميلة ومتخيلة: رقص وجنون وتوهان. والأهم لافتات ممزقة ممزقة. تخرج منهل السراج من صفحات روايتها الثلاثمئة وهي تؤسس في خيالها لمكان خارج سطوة الدين والسياسة والأعراف الاجتماعية. مكان يشبهنا لا نحن من نشبهه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روسيا تعلن بدء مناورات تشمل أسلحة نووية تكتيكية قرب أوكرانيا


.. إسرائيل ترد على طلب الجنائية الدولية بهجوم على الضفة الغربية




.. السعودية وإسرائيل.. وداعأ للتطبيع في عهد نتنياهو؟ | #التاسعة


.. لماذا جددت كوريا الشمالية تهديداتها للولايات المتحدة؟




.. غريفيث: دبلوماسية قطر جعلتها قوة من أجل الخير في العالم