الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مْباركة فيلم يرصد المهمّشين ويغوص في قاع المدينة المغربية

عدنان حسين أحمد

2019 / 10 / 31
الادب والفن


يُعدّ "مْباركة" رابع فيلم روائي طويل للمخرج المغربي محمد زين الدين بعد "يقظة"، و"واش عقلتي على عادل؟"، و"غضب". وربما يكون القاسم المشترك لهذه الأفلام الأربعة هو الفضاء الهامشي الذي يفضّله المخرج على الفضاءات المخملية، والأحياء المترفة. وقد وجد ضالته هذه المرة في بلدة مغربية نائية تحتوي على معمل للفوسفات ينفث سمومه على المدينة ويسبب لأبنائها مشكلات صحية لا حصر لها.
تنتعش في المدن الهامشية والمجتمعات الفقيرة عمومًا مِهن مثل السِحر، والشعوذة، والطب الشعبي فلاغرابة أن نرى مْباركة "فاطمة عاطف" التي لم تحظَ بقسطٍ وافر من التعليم أن تُصبح مُداوية بالأعشاب ومختصة بالطب الشعبي تعالج كل الأمراض فهي تُجبّر الكسور بالحنّاء والبيض والقصب، وتداوي مرض الجدري بزيت الخروع، وتدهن الأكزيما بمستحضر العقارب المقليّة، وتنصح بتفريش الأسنان كل يوم، ونتيجة لذلك كسبت احترام الجميع، وأبعدت عنها أنظار المتطفلين على حياتها الشخصية التي ظلت مخبأة طوال الفيلم الذي بلغت مدته 102 دقيقة. لم ينبش المؤلف أوليفييه بومباردا الذي اشترك مع المخرج زين الدين في كتابة السيناريو بماضي مْباركة وإنما قدّمها لنا كشخصية راهنة تعيش في الوقت الحاضر وقد تبنّت عبدو "أحمد المستفيد" وعاملته معاملة الأم الرؤوم لكنها لم تُحسن تربيته وتعليمه فيتجه صوب القمار، والسرقة، والتلصص على الأم التي لم تنتبه إلى مفاتنها الجسديّة الصارخة التي تستثير رغباته الإيروسية المكبوتة، وتُحرّك فيه كل غرائزه الجنسية دُفعة واحدة فينحرف مسار الفيلم صوب "زنا المحارم" لكنه لم يقع في المحظور رغم أنه كان يُدلِّك قدميها بالماء فتغمض عينيها مسترخية وكأنها تشعر بنشوة خفيّة ثم تطلب منه أن يجففهما بالمنشفة لتعود إلى واقعها المجدب الذي يخلو من الرفقة الزوجية.
وذات يوم يُصاب شعيبة" مهدي العروبي"، الشاب الثلاثيني بمرض الأكزيما فينصحه صديقه عبدو بالمجيء إلى أمه كي تعالجه بالطب الشعبي وحينما تدهن له ظهره تشعر بالانجداب إليه. تتطور العلاقة بينهما فيجلب لها قميصًا شفافًا، ثم يقفز من النافذة فيمارس معها الحُب، ويطلب منها أن تقرأ مستقبله لكنها تصرّ على قراءة الماضي بحجة أنّ منْ لا يعرف ماضيه لا يمكن أن يعرف مستقبله بالضرورة فتحسم النقاش بالقول:"أنا مستقبلكَ!" رغم فارق السن بين الطرفين.
يتحرّك الفيلم في ثلاثة مسارات في أقل تقدير: الأول بين شعيبة ومْباركة، والثاني بين عبدو ونعيمة، والثالث يتمحور على المجنونة التي يعُدّها المخرج شاهدة على الجميع أو رمزًا للذاكرة الجمعية خاصة وأننا رأيناها تحمل السجِّلات التي تؤرشف لأحداث البلدة ووقائعها، ولعل هذه الأرشفة تمتد لتغطي قسمًا من ماضي البلد برمته. وبما أنّ شعيبة بدأ يتململ من هذه العلاقة ولا يجد حرجًا في التهرّب من مْباركة رغم ما توفره له من متعة جسدية فلاغرابة أن تلجأ إلى السحر حيث تقطع خصلة شعر من رأسه وتخلطها مع مواد أخرى تخضّبها بدمها ثم ترميها على ألواح الصبّار وبعض النباتات الأخرى المحاذية للبلدة، تُرى هل سيعود إليها بتأثير السحر الذي صنعتهُ أم بفعل الحاجة المادية أو الجسدية لها؟
لا يعرف المُشاهِد شيئًا عن عبدو سوى قصة تبّنيه من قِبل مْباركة التي آوتهُ وربّته بالطريقة التي تعتقد أنها صحيحة ومناسبة لكنه في واقع الحال ظلّ جاهلاً وأميًّا كما انحرف قليلاً وبدأ بسرقة الأشياء الصغيرة من المنزل، ولعْب القمار لكن علاقته بنعيمة "حنان القباني" ستعيد تأهيله بعض الشيء، وسوف تعلّمه القراءة والكتابة كخطوة أولى لقراءة الرسائل ثم التوغل في قراءة الكتب، والتعرّف على المناخ الثقافي المغربي خاصة والعربي بشكلٍ عام. وربما تكون حكاية "السندباد" من قصص "ألف ليلة وليلة" هي المفتاح الأول الذي سيفتح له باب الأدب والفن والثقافة رغم عزوفه عن تعلّم اللغة الفرنسية التي تجيدها نعيمة. تتطور العلاقة العاطفية بين عبدو ونعيمة لكنها تظل في إطارها البريء حيث يعلّمها ركوب الدراجة الهوائية على سطح المنزل، ويضرب لها المواعيد العاطفية التي لا تُفضي إلى نتيجة ملموسة، فهو منغمس في التلصص على مفاتن أمه غير البيولوجية، كما بدأ يغتاظ من العلاقة التي تطورت بين أمه وصديقه شعيبة خاصة بعد أن اكتشف مخلّفات الطعام الذي أعدّته له، وأعقاب السجائر التي تركها غِبّ تناول الطعام. يهرب عبدو من المنزل غاضبًا إلى بيت مهجور ثم يعود إلى المنزل ليحطم الثلاجة ويبيع مكوناتها المعدنية إلى بائع الخردة مقابل ثمن بخس. وفي الوقت ذاته يُعرِّج شعيبة على منزل مْباركة ليسرق منها المِسبحة والنقود التي وضعتها في كيس قماشي وظنّت أنّ السارق هو ابنها وليس عشيقها شعيبة الذي اتخذته خليلاً لها.
تتصاعد درامية القصة السينمائية حينما يدخل شعيبة في شجار عنيف مع الشرطة ويجرح أحدهم فيصعد إلى أعلى نقطة في الجامع ملوحًا بسكينٍ يُهدد فيه كل منْ يرتقي إليه. وما إن ينفضُّ الناس المتجمعين أمام الجامع حتى ينزل شعيبة ويقصد مْباركة مباشرة حيث تُعد له الطعام، وتُعطيه ثوبها المورّد الذي يبدو فيه غريبًا ومثيرًا للسخرية. عند هذه النقطة بالذات تبلغ الأحداث ذورتها الدرامية حيث يأتي عبدو إلى البيت، ولم يذهب إلى محطة القطار ليهرب مع نعيمة عند منتصف الليل إلى جهة مجهولة، لكنه سيكتشف وجود شعيبة هناك ثم يتشاجران في أثناء الأكل ولعْب القمار حتى ينتهِ به خاتمة المطاف إلى تقييد شعيبة بعمود معدني ويبقيه أسيرًا في هذا المكان. وبينما كانت أمه تحمل مطرقة حديدية ضربته بالخطأ على رأسه فخرّ صريعًا في الحال الأمر الذي دفع شعيبه إلى الصراخ: "لقد قتلتِهِ!" وطلب منها أن تفكّهُ وتحرره من جامعة اليدين بينما كان يُذكِّرها باللحظات الجميلة التي عاشاها معًا. تدخل مْباركة إلى الغرفة وتأخذ أكثر من نَفَسٍ من سيجارتها المهدِّئة لتخرج بعدها إلى الحارة صارخة مولولة:"ساعدوني، شعيبة قتل ولدي. وا عباد الله قتل ولدي"، بينما كانت نعيمة تنتظره في محطة القطار رغم مرور الوقت المحدد للقاء. أما المسار الثالث فيتمثل بالمجنونة التي رأيناها غير مرة على مدار الفيلم وهي تراقب مجمل الأحداث من بينها حدث القتل الأخير الذي كانت شاهدة عليه إضافة إلى شعيبة، وقد رأيناها في مَشاهد شديدة الدلالة وهي تؤرخ لكل شيء تقريبًا. وفي المَشهد الأخير نراها تتطوّح ماشية في قلب الطبيعة الجدباء إلاّ من بعض الأحراش المتفرقة.
حينما نضع هذه الشخصيات الخمس والأحداث التي تفاقمت وأفضت إلى قتل مْباركة لابنها عبدو نخلص إلى موضوعة الشخصيات المهمّشة التي لفظها المجتمع المغربي وقذفها إلى هذه المدينة النائية التي يمكن أن تكون "واد زم" مسقط رأس المخرج أو خريبكة أو غيرها من البلدات المغربية التي تعاني من الفقر والبطالة والتخلف رغم غناها بالثروات الطبيعية، واللافت للنظر أن هذه الثروات قد تحولت إلى طامة كبرى لأن المواطنين لا يجنون منها سوى السموم والمشاكل والأمراض، تمامًا كما في هذه المدينة الموحشة التي لم يُسمِّها المخرج لكي يُعمم دلالتها على غالبية المدن والبلدات المغربية.
لم يحقق هذا الفيلم النجاح لولا تؤازر المصور البارع لوكا كواسين، والموسيقى الصافية التي اختارها المخرج محمد زين الدين، ومونتاج إلينا كابريا التي قدّمت لنا فيلمًا سلسًا خاليًا من الزوائد والتورمات آخذين بنظر الاعتبار الرؤية الإخراجية الواضحة لمحمد زين الدين الذي ذيّل الفيلم باسمه، وعبّر عن أفكاره ورؤاه الفنية التي تلامس المحرمات الثلاثة من دون أن يتورّط فيها كليًا. وعلى الرغم من الأداء الجيد لغالبية الشخصيات الرئيسة إلاّ أن الممثلة فاطمة عاطف كانت أكثرهم إبهارًا في تقمّص الشخصية المُسندة إليها ولهذا استحقت عن جدارة جائزة أحسن ممثلة منحها مهرجان مالمو للسينما العربية في دورته التاسعة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا