الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-سيرة أبو شمام-

سيد طنطاوي
(Sayed Tantawy)

2019 / 11 / 1
الادب والفن


جاء في سيرة "أبو شمام"، أن رجلًا ضاقت عليه الدنيا، فأخذ مركبًا في البحر، وسار هائمًا على وجهه، وكان معه ثلاثة رجال، الأول عرف نفسه بأنه سمّاع، يسمع الهمس، والثاني شواف، يرى جناح البعوضة في غرفة ظلماء، والثالث سبابًا للدين، وبينما همّ في الطريق كان كل شيء روتينيًا، فطلب صاحب الرحلة من السماع والشواف أن يقولا شيئًا، فقال الشواف: "أرى على بُعد 50 ألف ميل ابنة ملك كبير تحِيّك فستانها يدويًا، فقاطعه السماع قائلًا: صدقت، لقد سقطت إبرة الحياكة من يدها وسمعت رنتها، فاستشاط صاحب الرحلة غضبًا، ولم يعجبه الأمر فطلب من سباب الدين، أن يطلق صرخاته السبابية لعل المركب تغرق، ويرتاح الجميع.
ذُكر ذلك في إحدى مخطوطات سيرة "أبو شمام"، التي أطلع عليها أحد الحكام، فأعجبته وظيفة سباب الدين، وقرر استحداثها ليستخدمها ضد معارضيه، وكان موفقًا في ذلك، إذ اختار رجلًا يجمع كل التناقضات في بوتقة واحدة، يبكي ويضحك، يقول إنه ملحد ويحافظ على الصلوات الخمس، يحُث الناس على الفضيلة، لكنه غارق مع أبنائه في شد الفواحش، يشيد بالناس ثم ينقلب عليهم، يقول إنه شارك اليساريين نضالهم، ثم يذكرهم بانتصاراته عليهم مع الليبراليين، يرتمى في أحضان الفاشية الدينية، ثم يتفاخر بانتصاراته التنويرية عليهم، ويدعي أنه يشرب النار ماءً، ولا يرويه إلا الفحم المشتعل، حتى احتار الناس في أمره، وتساءلوا من يحمي سباب الدين؟.
البعض كان سؤاله استفهاميًا، والبعض الآخر استنكاريًا، أما من قرأ سيرة "أبو شمام" جيدًا، فعرف السر والمغزى.
كان سباب الدين مطيعًا طاعة الكلب، ينبح أينما وكيفما وُجه، لم يكن هناك حصانة لأحد إلا هو، فظهرت لديه رغبات جامحة في اللعن الجماعي العلني، فأخذ يخرج للناس ويناديهم، ويصرخ: "أيها الناس، سأسبكم وأسب آبائكم وأمهاتكم، وسيصرخ أبنائكم لأرحمكم ولن أُبالي، ومن سيعترض من أبنائكم سأزج به في السجن.
هرب الناس من حيث تجمعوا، وذهبوا إلى الحاكم يشكونه كرامتهم، ناسين أنه هو الذي قرأ السيرة وصنعه، فقال لهم: "من هو؟، ووعد بأن يسأل مستشاريه عن هذا الشخص، لأنه لا يعرفه، وصرخ فيهم: لا أحد فوق القانون، ولو عرفته سأقطع رأسه، فذهب الناس مسرورين، وظنوا أنه يمكن لـ"الحداية" أن تأكل أبنائها، ونسوا أو ربما تناسوا -من مشاغلهم- ما تعرضوا له من إهانات سابقة انتهت بالتناسي.
مرة أخرى، عاد سباب الدين، ليدعو الناس منفردين، كل أصحاب مهنة بمفردهم، النجارين والحدادين والحطابين ورعاة الغنم والطبالين، والجنود، ويسبهم أيضًا، وادعي عليهم فضلًا لم يقدمه لهم، وأخبرهم أنه سيّد كل المهن التي امتهنوها، وأن شيوخ المهن التي سبها، كانوا يقتاتون منه، وأنه تفضل عليهم ببصقاته، فذهب الناس مرة أخرى يشكونه لحاكم المدينة، فقال لهم إنه سيعاقب مستشاريه لأنهم لم يعرفوا منّ الذي يسب الناس، وسيعرفه، ولم يحدث شيئًا.
احتار الناس في أمره، لأنه كان وصل لدرجةٍ جعلت الجميع يظن أنه لن يوقفه إلا إله الخير القادر على إراحتهم منه، لكن جاء المدد من إله الخير بطريقة مختلفة، إذ هدى الشيطان سباب الدين، ليسب الفلاسفة، فلعنهم ظنًا منه أنهم سيحتارون فيه، ثم تحداهم بأن قال لهم إنه زامل أرسطو، وعدل نظريات أفلاطون، ولولاه ما عرفوا شيئًا عن الفلسفة ولا المنطق، وأنه قادر على كسر أرجلهم لو فكروا في الشكوى.
استشاط الفلاسفة غضبًا، غيرةً على أنفسهم وفلسفتهم، فدقوا طبول الحرب، فقال "سباب الدين" إنه قادر على منعهم من كتابة النظريات، إن لم تكن مدحًا لسبابه وتطاولاته، وما ساعده أنه مع كل فئة يشتمها، كان ينضم إليه بعض أفرادها يسبحون بحمد بذاءات لسانه، اتقاءً لشره، وتحقيقًا لمنفعة الفتات الساقط منه.
توحد الفلاسفة، خلف رجلٍ "كامل" كـ"البدر"، "حفيظ" للأدب، وبحثوا في هذه الحالة، حتى وقع في أيديهم ملخص سيرة "أبو شمام"، فجمعوا قرطاسًا وقلمًا، وكتبوا رسالةً له، نصها: "نحن أرباب القلم والفلسفة، إن أيدنا أقمنا الصلاة، وإن عارضنا نقضنا الوضوء، وإن لم يفلح معك هذا ولا ذاك وتماديت، سنغلق غطاء قلمنا على سنه، وسنفعل به ما فعله فيك الصول زكريا".
ما إن قرأ المخطوطة، حتى ذهب إلى سيده مبتل البنطال، فقال له: "أنت غبي، وأنا لازم أحدد إقامتك، فاختفى وتوارى".
عَلِم الفلاسفة أن فيلسوفًا منهم هو الذي أخبر "سباب الدين وسيده" بضرورة الهروب، فعقدوا العزم على أن يستمر في الخفاء، وإن عاد فإراقة الحبر هنا واجبة، وللفلاسفة –فيما بينهم- حساب مؤجل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس


.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل




.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة