الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ليلى والذئاب: الفصل التاسع/ 1

دلور ميقري

2019 / 11 / 3
الادب والفن


رحيلُ الحبيبة، كان ضربة قوية لقلب عليكي آغا الكبير، وكانت الضربة من الممكن أن تغدو قاصمة لولا أنه من النوع المنفتح النفس على الحياة. ولكن نفسه كانت ما تنفكّ نهبَ عواطف متناقضةٍ، وذلك في أعقاب انقضاء اليوم المشئوم، ليسَ بالوسع تهدئتها بأي شكل من أشكال المواساة. المنزل الكبير، أضحى أضيقَ من سجنٍ. وبصفته، كدركيّ، كم أُشبِهَ السيدُ نيّو بشخصية السجّان. صوتُ وقع حذاء هذا الأخير ليلاً، فوق أرضية الفناء المبلّطة، كان يصدى في سمع الابن وهو في حجرة نومه، المسدل على نافذتها ستارةٌ ثقيلة تزيد من العتمة والوحشة. كانت خطى مضطربة، تعكس حال إرادة الرجل، المتردد في دخول حجرة الابن الأرمل واحتواء ما أمكن من حزنه الجامح، العصيّ على العزاء.
في نهار اليوم التالي، أفاق على صوتٍ أليف هذه المرة. إنها إحدى حمامات السطح، تصدحُ وراء النافذة مثلما اعتادت أن تفعله في حياة ربّة الدار، التي كانت ترعاها وصويحباتها. قدّرَ عليكي آغا الكبير أنّ الطيور جائعة، بما كان من إهمالها غير المتعمّد في خلال اليومين المنصرمين. فكّرَ وقد اجتاحته الشفقة، الممزوجة بذكرى امرأته الراحلة، أن يستهل الصباحَ بإطعام الطيور، كونه في هذا اليوم متحرراً من عبء الذهاب إلى العمل. عقبَ فراغه من الاغتسال في المطبخ ( كان يُستعمل أيضاً كحمّام حال أغلب بيوت الحارة زمنئذٍ )، صعدَ إلى العلّية، أين يوجد برج الحمام. مع أنّ الوقتَ شتاء، استطاعت أشعة الشمس الدافئة أن تجد لها منفذاً خِلَل السُحُب، السابحة في السماء مثل طيور رمادية حائرة.
ثم انتهى إلى حيث أسطوله الجويّ، الهامد في مكانه بلا حركة، وكما لو أنه تُرك فريسةً للمسغبة. ريشُ الطيور، الملوث بالذرق، كان متناثراً هنا وهناك، مُضافراً في رثاثة المكان. إلا أنّ لمسات ربّة الدار الراحلة، المشهود لها بشدة الحرص على النظافة والأناقة والترتيب، كانت ما تفتأ ظاهرةً سواءً قي الكوخ أو الحديقة المعلّقة، المشكّلة قاعدته. الهديل، ما عتمَ أن تصاعد رويداً من مناقير الحمام مع ثبات عيونها على حركة صاحبها. ها هوَ يمد يده إلى كيس المئونة كي يُخرج منه حفناتٍ من الذرة، المتلألئة كحبيبات ذهبية تحت أشعة الشمس. انتبه من ثمّ إلى وجود عدد من الإناث، وهن في حالة احتضان للبيض، ما دفعه لنثر الذرة باتجاههن. حينَ انزاحت إحداهن، تناول بيضتها وراحَ يتأملها في شغف متماهٍ بالشَجَن: سلمى الحبيبة، حرمها القدرُ مما حظيت به أيّ حمامة هنا؛ حرمها من أمنيةٍ وحيدة، كانت تعادل لديها الدنيا كلها.

***
ليلو، كانت ولا شك أكثر نساء العائلة افتقاداً للمرأة الراحلة. في كل صباحٍ، غبّ توجه رجلها إلى عمله مع أخيه، كانت معتادة على أن تطل على سلمى لتشرب لديها القهوة، المعبّقة بنكهة الهيل. وهيَ ذي في الصباح نفسه، الذي تركنا فيه زوج صديقتها الراحلة يُطعم الحمام، كانت ما تنفكّ تتنهّد بحسرة فيما الدموع لا تكف عن الرقرقة من عينيها. وكانت دموع الحنق والغضب، أيضاً. لقد انفجرت مجدداً في نفسها، نزعةُ التحرر من عبودية العادات والأعراف؛ بيد أنها غدت الآنَ غير شخصيّة، بل تشمل كل بنات جنسها. هذه العبودية، أخذت تتجسّم في صورة زعيم الحي، الحاج حسن، الذي تسببت نصيحته، المبرمة كفتوى، بفقدان إنسانة لروحها وكانت بعدُ في شرخ الشباب: بعدَ مضيّ عقدٍ من الأعوام، ستتذكّر هذا اليوم الحزين، المنعكسة فيه الصورة المنفّرة للرجل.. تذكّرته، وذلك حين تقدّمَ صاحبُ الصورة كي يخطب ابنتها نازو لولده البكر موسي.
" كان عليّ العهد بالأمر إلى العم أوسمان، لأنه منفتح التفكير وفوق ذلك صار إنساناً ورعاً لا يتخلّف عن فريضة "، قالت لسارة حينَ استقبلتها في وقتٍ آخر من النهار. هذه الأخيرة، أدركت أن ليلو تحمّل زوجيهما مسئولية فقدان سلمى حياتها. لم تشأ الدفاع عن رجلها، كونها أساساً مقتنعة بذنبه، فقالت مبرئة الآخر: " قد يكون عليكي آغا الصغير انشغل بموضوع مرض والدته، ولم يكن متعمداً إهمال نصيحتك بضرورة التكلم مع أخيه بشأن الطبيب "
" بل إنهم كلهم سواءُ، فيما يتعلق بتحدي التقاليد السائدة، والتي يعتبر الزعيمُ نفسَهُ المخوّل بحمايتها بتكليفٍ من الله عز وجل "
" استغفر الله العظيم "، تمتمت امرأة الزعيم وهيَ تضرب يدها على ظاهر كفها. ثم ما لبثت أن قالت بنبرة تسليم، " لن يهرب الإنسان من أجله المكتوب، بوجود الطبيب أو عدمه. رحمها الله وغفر لها ".
ما لم تكن تعلمه أيّ منهن، أنّ صحة العم أوسمان كانت من السوء، لدرجةٍ يُحتمل فيها أن يلحق قريباً بالمرأتين الراحلتين. نحوله، كان قد أخذ بالتفاقم حتى تحوّل إلى كومة عظام محشوة في معطفٍ شتويّ. ومن المؤكد أن امرأته لا تعلم بحقيقة حاله، وإلا لكانت أفضت بالأمر لربيبتها ليلو. شملكان، كانت في تلك الآونة مشغولة بحمل جديد، واعتادت على القول بأنها ستنجب بنتاً هذه المرة.

* مستهل الفصل التاسع/ الكتاب الثاني، من سيرة سلالية ـ روائية، بعنوان " أسكي شام "








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شاهد .. حفل توزيع جوائز مهرجان الإسكندرية السينمائي


.. ليه أم كلثوم ماعملتش أغنية بعد نصر أكتوبر؟..المؤرخ الفني/ مح




.. اتكلم عربي.. إزاي أحفز ابنى لتعلم اللغة العربية لو في مدرسة


.. الفنان أحمد شاكر: كنت مديرا للمسرح القومى فكانت النتيجة .. إ




.. حب الفنان الفلسطيني كامل الباشا للسينما المصرية.. ورأيه في أ