الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فاتح ماي: مسرحية علي بابا و الأربعين حرامي

عبد الحق لشهب

2006 / 5 / 22
الحركة العمالية والنقابية


يعتبر فاتح ماي محطة يخلد فيها العمال ذكرياتهم النضالية ويستعرضون فيها منجزاتهم الذاتية والموضوعية . واستنادا إلى الدور التأطيري الذي تلعبه النقابات خلال هذا اليوم فإن كل نقابة تحترم هذه الرسالة، مطالبة وهي تهيئ لتظاهرة من حجم فاتح ماي، وقفة تأمل تستحضر فيها النجاحات والكبوات، وهذا هو الأصل في هذه الذكرى لما كان العمل النقابي في عصره الذهبي، حيث المصداقية كانت سيدة المواقف. غير أن المطلع اليوم على واقع تنظيم هذه التظاهرة، لن يجد أدنى صعوبة في اكتشاف المسخ الذي وصلت إليه النقابات خلال هذا اليوم، والتي كثرت أسماؤها، وتفسخت أهدافها، وانتفت مكاسبها وتجبر قادتها، وتشتت قلوب قواعدها، فتفرقت وحدتها وسهل اختراقها وإخضاعها لعمليات تبييض على شكل فسيفساء فئوية لا تستطيع المراهنة على حسم أي صراع لصالحها، يوم فاتح ماي كانت الصورة معبرة عن هذه الميوعة والخذلان.
تبدأ عملية التهيئ لتلك التظاهرة فتستنفر القواعد العمالية للتعبئة، تعلق الملصقات وتكتب اللافتات، وتدفع تصاريح تنصيب المنصات حتى يخيل إليك أن هذه حشود إعلان عن حرب مباشرة ضد الدكتاتوريات والإقطاعيات الغاضبة لحريات العمال وحقوقهم، وأنها ستفضي إلى هزيمة المشغلين على يد المشغلين في مبارزة بين الطرفين. يوم فاتح ماي ستكون ساحة المعركة في الشوارع كما هزمت البروليتاريا في الاتحاد السوفياتي سابقا قيصر الروس . فهل لنين هناك هو أموي – المحجوب هنا ؟ وفي إطار التهيء توزع بيانات بعناوين مكتوبة بنفس العبارات التقليدية، حيث اجترار التنديد اليائس والاستنكار المحبط، مضامينها أسئلة معلقة في حقائب المتحاورين على الملف المطلبي، تتبعها بلاغلات إخبارية موقعة وصادرة عن مرسلين ينتمون إلى بقايا الزمن النقابي المنهك بجراح الانتهازية وبيع ملفات العمال على طاولات الحوار الاجتماعي مقابل امتيازات تمنح هنا وهناك .
أما المرسل إليهم، جماهير فاقدة للثقة حتى في نفسها تسببت المؤامرات التي حيكت ضد قضاياها العادلة من قبل النخب السياسية إلى إحباطها نهائيا، وبالتالي فهي تعرف أن تلك البلاغات ليست سوى كلام عابر، وفي يوم ما قبل فاتح ماي توزع أوراق تسمى ( نداء محلي ) تكشف بحق الإفلاس التام الذي وصلت إليه الفروع النقابية والتي أصبحت تختزل رصيدها النضالي السنوي في هذا الصك الصغير ( نداء محلي ). أما ما بين فاتح ماي وآخر تقفل المقرات النقابية وتختم بالشمع الأصفر طيلة السنة كأنها معروضة للبيع في المزاد العلني والمصيبة العظمى أن أصحاب هذه النداءات يدعون أنها تتضمن نظرة شاملة عن الأوضاع الاجتماعية المحلية، في حين أنها لا تحتوي إلا على جمل قصيرة مبتذلة لا تبلغ حتى القيمة المالية لتلك الأوراق التي تحملها . ومع كل هذا تستمر لعبة الأقنعة بين كل الأطراف المشاركة والمساهمة في إنجاح مسرحية فاتح ماي التي ستمثل على خشبة الشوارع العمومية ورغم فضاحة الصورة وعريها، توزع تلك الأوراق ( بلاغات، بيانات، نداءات، ملصقات ) من قبل اللجن التنظيمية للتظاهرة، إلا أن من بين أعضاء هذه اللجن من يدسها في الرفوف ويتخلص منها خلسة عن الأنظار وكأنها من الممنوعات التي يحرم توزيعها أو أنها سموم قد تتسبب في قتل الجماهير، وعقاقير لتنويم المتلقن لها في جناح العبودية .غير أنه في كل مساء من أيام التهيء لليوم المشهود حيث تعرض الأزياء النقابية، تبدو تلك الوثائق والمنشورات ملقاة على الأرض تدوسها أقدام المارين، كأنها سلع أصابها الوبر ويجب إحالتها إلى قمامة الأزبال، الشيء الذي يحز في النفس أحيانا هو أنها قد تحمل صور بعض شهداء النضال العمالي، إلا أن العهدة هنا على من أقبر الممارسة النقابية بالمصالح الذاتية .
ففي صبيحة اليوم المعلوم يبدأ العمال البسطاء في ساحة المدن والقرى تشييد المنصات التي ستنطلق من فوقها مهزلة فاتح ماي ، فترى العمال يحملون الأعمدة ويعقلون اللافتات والملصقات تحت حرقة الشمس وجوههم شاحبة أجسادهم نـحيفة، ولو سألتهم عما يروج حولهم لوجدتهم أبعد عما يلوك من حولهم علما أنهم منظمين في تلك النفايات عقودا من الزمن، وبعد أن تفرغ القواعد العمالية من تهيئ المنصات، ينزل القادة من سيارات فخمة ومكيفة، ببدل ناعمة فيرفع العمال الشعار المعروف ( يا فلان يا رفيق لازلنا على الطريق)، هنا نتسائل معكم كيف يكون هؤلاء العمال البسطاء الذين تظهر عليهم بصمات الفقر ملازمة لهم كخطاطيف الوقت، رفاقا وإخوة لأولئك القادة الذين تعلوهم علامة الرخاء والاسترخاء كالسلاطين والأمراء؟
أم أن علاقة التابع والمتبوع في هذه الوضعية النقابية لا تنظر لهذه الشكليات طالما أن الكل أبناء الجلدة الواحدة، والنقابة الواحدة ، فليس عيبا أن يستفيد هذا ويحرم ذاك . وقبل أن نستعرض معكم " أوبرا " فاتح ماي .
لا بد من الذكرى وإن كنتم تعلمون أن أعداد نقاباتنا لا تحصى فهي متوفرة أكواما أكواما والحمد لله، مقراتها منتشرة في كل المدن والقرى والمداشير جنبا إلى جنب مثلها مثل المخادع الهاتفية والمقشدات التي تسوق الحلويات والأجبان، وبذلك فإن نصوص الكلمات التي ألقيت في تلك الصبيحة متعددة بكثرة المنظمات النقابية متلونة بتلون القادة واختلاف عقدهم المزاجية التي تعتريهم وهم يخاطبون الجماهير على الخط المباشر، فمنهم من يبدأ بقراءة الفاتحة والصلاة على إمام المرسلين، وينتهي بالاستشهاد بمقولات ماركس وستالين، ومنهم من كثرت أخطاؤه النحوية واشتدت فيه هواجس سخونة الرأس فخرج عن النص المكتوب فراح يوزع التهم حتى افتقدت لديه الخيوط الرابطة وضاعت في كلامه القضايا الرئيسية ومنهم من كان لسانه على قدر ذراعه، فاكتفى بالحمد والشكر لما فيه العمال من اضطهاد فيدعونهم للصبر والسلوان، فالدولة في نظرهم تعيش الاكراهات والتحديات ، غير أن القاسم المشترك في خطب هؤلاء القادة في ذلك اليوم أنها تفتتح بالاستنكار لما تعيشه الشغيلة من مظاهر الإقصاء والسخط ضد أصحاب القرار الرسمي لكن الدهشة الكبرى أنها تنتهي بالمحاباة والمجاملة والتماس العذر لمسيري شؤوننا. غير أن الأمر سيصبح لك عاديا إذا عملت أن ذلك أعظم مشهد في مسرحية الخدع والنفاق، ومهما اختلفت هذه الخطة في بعض الشكليات الطفيفة فهي مطبوعة بمنطق ميتافزيقي أحادي يبرر الأزمة ويسرد الإخفاقات الموضوعية ويغضون طرف النظر عن المآزق الذاتية وانعدام الديمقراطية الداخلية، وفي كل وقت مستقطع ترفع شعارات تائهة من قواعد ترى وتسمع ولا تفهم، وبين هذه الرسائل المتبادلة من القواعد إلى القادة تنسج خيوط الهزيمة وتضيع الحقوق وتغيب المكتسبات وتأجل النقط العالقة في الملف المطلبي إلى تظاهرة أخرى في عيد آخر . وتبدو الميوعة على أعلى مستوى في الخطب التي يلقيها ممثل الأجهزة النقابية الإقليمية والمحلية، والتي تستغل لتصفية الحسابات مع القواد والباشوات ورؤساء الجماعات وتختتم بإشارة شبه منعدمة لمشاكل العمال . بعد فصل الخطب ينزل القادة من فوق المنصات بمساعدة حراسهم، لأنهم شاخوا وهرموا، ومع ذلك لن يبرحوا مواقعهم عن رأس هذه المنظمات، ولن يكرهوا أن يديروها من قبورهم، وعوض أن يكونوا معالم قوتها وعنفوانها أصبحوا من دائها ومرضها. ينطلق المشهد الثاني والأخير في هذه المسرحية الدرامية حيث تتحرك الحشود في مسيرات ترفع فيها شعارات من كثرة تكرارها أصبحت تمر على السامعين كالفزاعات والأصوات المزعجة الثقيلة على الصدور تزيدك تصدعا ومللا وتدجينا وتكتمل محاور هذا المشهد الفلكلوري عندما تتوقف المسيرات أمام الجالسين في المقاهي لتحميسهم وإدانة سلبيتهم فتنقلب الآية رأسا على عقب ويتحول المركب كله فرجة تستهوي هؤلاء المشاهدين الجالسين بالمجان، وتستمر الشعارات في تصاعدها فيقع الصدام بين الراديكالية منها والمعتدلة، بين المنظمين والمشاركين وتبدأ الملاسنات والمشاحنات وتختلط الأصوات فيتحول فاتح ماي من محطة للتضامن إلى حلبة للمقارعة الفارغة وتكريس التمزق والتفكيك إلى أن ينتهي المسار ويسدل الستار معلنا نهاية مسرحية فاتح ماي ولا تبقى إلا حقيقة واحدة :
لا زالت أوضاع الطبقة العاملة على حالها








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. محامون ينفذون إضرابا عاما أمام المحكمة الابتدائية في تونس ال


.. إضراب عام للمحامين بجميع المحاكم التونسية




.. توغل صيني في سوق العمل الجزائري


.. واشنطن بوست.. اتحاد طلبة جامعة كاليفورنيا يأذن بالإضراب في أ




.. تونس.. نقابة الصحفيين تتضامن مع الزغيدي وبسيس