الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


توظيف السيرة و الاسطورة في القصة القصيرة قصص -باندورا - للكاتبة -بان الخيالي - نموذجاً

عبدالله بير

2019 / 11 / 9
الادب والفن


"يقولون إن العالم كان خالياً تماماً من الشرور قبل ان تُفتح الجرّة، وإن الجرّة احتوت على الالم و البغض و الجبن و الحسد و الحزن و المرض و كل الشرور التي لم تكن في العالم" جرّة باندورا ص 24.
"باندورا " مجموعة قصصية للكاتبة العراقية (بان الخيالي) و التي صدرت من قِبَل دار نينوى للدراسات و النشر و التوزيع لسنة 2019، وتتألف المجموعة من "30" قصة قصيرة .
القراءة فعل ذاتي مكمل لفعل الكتابة ، و إذا لم تكن هناك قراءة تبقى الكتابة مجرد خربشات، و الافكار سجينة صفحات الكتب و أروقة المكاتب ، أي ان عملية تحويل الاصوات إلى رموز لا تكتمل إلا بإعادة تلك الرموز إلى اصوات مرة اخرى ، وهي العملية معقدة و مهمة لنقل الافكار و الرؤى من انسان إلى اخر. القراءة هي عملية تحريك و تدمير لأي نص كان ، فإثارة الاسئلة أثناء عملية القراءة هي بالضبط تفكيك منظم لروابط النص واعادة تشكيل افكاره من جديد ، فكل " لماذا ، اين ، كيف ، ماذا ، متى و اين ...الخ " معاول تحفر النص عميقا لمعرفة ما في أعماقه وسبر اغواره ، و اخراج ما فيه من كنوز و افكار ليكون مواد اولية لإنتاج نص جديد مكمل و مواز للنص الاصلي . و متى كان النص محملاً بأكثر عدد من الاسئلة كان النص اغنى و اجمل ، وفعل القراءة يصبح عند ذلك امتع ، لذا ارى ان اللذة تزداد كلما استطاع النص إثارة اكبر قدر ممكن من الاسئلة في نفس القارئ.
النص الحي هو النص الذي يستمر في انتاج الاسئلة ، و يستطيع تحمل تأويلات و تفسيرات كثيرة ، لأنه بذلك يكون مصدراً مهماً لإنتاج نصوص اخرى جديدة . و هذا ما اجده في مجموعة "باندورا" حيث تم التمازج بين جنسين ادبيين وهما الاسطورة و السيرة في كتابة القصص. و الاسطورة باعتبارها " محاولة لفهم الكون بظواهر متعددة ، او هي تفسير له ، إنها انتاج الخيال و لكنها لا تخلو من منطق معين و من فلسفة اولية " ( ميرسيا الياد ، مظاهر الاسطورة ، تر، نهاد خياطة ، ص10) أي ان الأساطير هي اجوبة لأسئلة الإنسان في الوجود و ما بعد الوجود ، في الموت و ما بعد الموت ، لذا توظيف الاسطورة في بناء القصص يضيف لها بعداً اخر ، و يزيد من اثرائها ، فالكاتبة استطاعت في مجموعة "باندورا " و بجدارة توظيفها في قصصها ، ولم تتوقف عند هذا الحد ، إنما جدلت الاسطورة مع جنس ادبي اخر و هو السيرة على شكل مذكرات فأنتجت من هذا التمازج نصوص ابداعية و لوحات لغوية في منتهى الروعة تحمل في طياتها اسئلة كثيرة ، و عمقا فكرياً ، و تحليلا دقيقا للنفس الانسانية ، فاتحة الباب على مصراعيه امام تأويلات عديدة .
نبدأ قراءة القصص من العتبة ، اختارت الكاتبة اسم اسطوري وهو " باندورا" كعتبة رئيسية للمجموعة القصصية ، وهو اسم اول امرأة خلقت من قِبَل الالهة في الاساطير اليونانية و يقابلها اسم "حواء " في الاديان الشرقية ، فأول ما يلفت النظر عتبة المجموعة ، وهي رسالة تعود بنا الى الوراء لألاف السنين ، متوغلين في صفحات غابرة للتاريخ الانساني للتعرف على "باندورا" ، و دورها في الحياة والتاريخ البشري . وهذه العتبة بحد ذاتها موضوع يحفز لكثير من القراءة و التمعن و يثير الكثير من الاسئلة، لماذا اختارت الكاتبة هذا العنوان لمجموعة قصصية؟ هل فعلا أن الصراع الانساني بدا مع وجود اول امرأة في الحياة كما هو موجود ايضاً في الاديان السماوية (ادم و ابليس ، هابيل و قابيل " قاين")؟ وهل اختارت الكاتبة هذا العنوان كتعبير عن وجودها الحقيقي في هذا العالم؟ أي: الاّ ينظر إليها كمكمل بل كشريك حقيقي في الحياة؟. ثم تأتي عتبات القصص و نجد انها اختارت ايضاً بعناية و دراية دقيقة و ملفتة لانتباه القارئ فمنها ما يشير إلى التراث الشعبي و الاساطير الشعبية ، ومنها ما يشير إلى ضمائر مثل ( جرّة باندورا ، الارملة السوداء ، قصتي ، الاله و النهر ، وجهها في مرآتي ، بانوريا .. الخ) فهذه العتبات تعبر عما ارادت الكاتبة ان توصله للقارئ ، او ان فهم العتبة يمكن ان يحل عديد من الشفرات الموجودة في متن القصص . فمثلا في " جرّة باندورا " تقول الراوية :
) نعم هكذا كان في بداية الخليقة، كانت هناك ارواح سماوية شفافة (فوق)، وعلى الارض اخرى من الطين تسمى الرجال....)
فمسالة استرجاع الاحداث ، من جماليات العمل الفني ، وهنا ترجع بنا القصة الى بدايات الحياة على هذا الكوكب. و كيف وظفت الاسطورة اليونانية و جدلتها بسيرة ذاتية للبطلة الساردة للقصة في بناء محكم يلفت الانتباه و الفضول لمعرفة نهاية الاحداث.
وفي قصة "الارملة السوداء" تقول الراوية :
)في ذاك الصباح كن ارتب اوراقي في حديقة الجامعة استعداداً للمحاضرة الاولى حين اقتربت مني قدمان حذرتان و حين رفعت راسي كان هناك عصفور يزقزق في قلبي رغم تقطيبتي الواجمة)
نرى هنا ضمير المتكلم يروي لنا ما حصل لحظة اللقاء . وهناك امثلة اخرى كثير تدل على براعة الكاتبة في المزج بين الاساطير و السيرة في بناء قصصها التي تدل على عمق الافكار الموجودة فيها .
يجد القارئ ان نقط الارتكاز في " باندورا" هي الخوف و الهروب من المجهول ، و هو بالضبط الموجود في الاساطير اليونانية الأصلية. استطاعت الكاتبة الغوص عميقا في اعماق النفس الانسانية من خلال شخوصها ، لإيجاد مصدر ذلك الخوف الذي يلف كل شيء ، وهذه المغامرة تثير في نفس القارئ سلسلة غير منتهية من الاسئلة ، منها هل ان الخوف من سمات النفس الانسانية ؟ أي هل ان الخوف احد محركات الاستمرار في الحياة و البحث عن الامان؟. او بصيغة اخرى هل ان الخوف من المجهول احد محركات تاريخ الانسانية ؟ و هذا السؤال يعتبر جوهري في الفلسفة و الفكر. و هناك نقطة اخرى تعود في مسارها الى النقطة الاولى وهو الخوف من المجهول ، الحلم ‘ حيث استطاعت الكاتبة بإبداع رائع ، دمج وجهي الحياة ، اليقظة و الحلم معاً ، حيث لا ندر ايهما حقيقة ، فتثير هنا سؤالا مهما ، هل ان الحلم جزء مكمل للحياة و اليقظة كما قال فرويد ؟ و ما هي علاقة الاحلام بالواقع ؟ و هل فعلا إن حياة انسان مزدوجة بين اليقظة و الحلم؟ أي هل هناك حياة عميقة في نفس الانسان قد تخرج في أي وقت كان و ربما يكون ذلك في الاحلام متزامنة مع حياة اليقظة؟ . "باندورا" محاولة متواضعة في التعبير عما يجول في نفس كل الانسان ، و كيف ان كل انسان مستعد في التضحية من اجل لحظات السعادة.
تحاول الكاتبة و عن طريق هذا المزج في قصصها تحفيز القارئ لدفعه إلى اعمق نقطة في عملية التفكير، وإثارة اسئلة بحاجة إلى الاجابة، و تلك الاجوبة تكون اساساً لرؤى و افكار لم تكن موجودة سابقاً لديه. في قصة "اكسر كاسك يا نيكولا" تقول الرواية :
(ابقي معي يا حبيبتي صرخت الشاحبة بوضوح اكثر بينما كانت تسحبها النساء و تحشرها في السيارة (ابقي معي ..)، صوتها لم يغب حتى بعد ان ساد السكون، ابتعدت السيارة بحملها العزيز، انصتت الجثة للهدوء الجاثم، وكم تمنت لو تفيق.)
فالمشهد يحمل كثير من الدلالات التي يجب وقوف عندها في قراءة القصة.
فمن الاسئلة التي قد تصادف القارئ خلال القراءة القصص، متى تشعر المرأة بالأمان؟ و متى تشعر بالخوف؟ هل هناك تهديد لوجود المرأة في ظل العادات و التقاليد الموجودة؟ هذه الاسئلة و غيرها من الاسئلة قد يدفع بالقارئ الى السباحة عكس التيار في الحياة و المحاولة للوصول إلى مصادر نهر الحياة و معرفة اسسها، و هذه عملية في منتهى الخطورة، لأنها لابد ان تنبش في المقدسات و المحرمات للحصول على اجابات لأسئلته السابقة. في قصة " الصورة" تقول القصة :
(ولو اردت نصيحة اخيرة رقعي ثقوب روحك بقلة الامل، ستمتلئين حينها بالضوء كما تتمنين، و انفخي نار صمتك اكثر، و تأملي جواهر الاشياء و مآلها لتقدري نعمة الموت الذي تسبحين في، ثم لتفهمي انه لا مقيل لعثراتك سواك.)
روح ممزقة، كاتبة ما في نفسها، تنتظر الموت كأحسن حل، لا وجود لمساعد او رحيم ، الا يكون هذا كافيا للتهرب من الحياة و الانطواء على الذات.
ولكن في هذه الحالة السؤال الجوهري: ما هي الدوافع التي تدفع بالمرأة للجوء إلى الكتابة؟ هل الكتابة تمنحها_ في ظل الظروف التي تعيشها_ الطمأنينة و الهدوء؟ هل تؤسس الكتابة هوية مستقلة للمرأة الكاتبة؟ فالمرأة في مجتمعات بطريركية شيء هامشي، لذا تلجا إلى الكتابة كهروب من الواقع الموجود، وخلق واقع ممكن، تجد فيه الحرية الكافية، لفعل ما تريد.
إن قصص "باندورا" من نوع القصص التي تتطلب من القارئ الدراية و التمهل في طرح التأويلات و التفسيرات و اتخاذ القرارات، بشان ما توصل إليه، لان هذه القصص متعددة البنى، فالقصة كجنس ادبي مستقل مبني على جنسين ادبيين وهما السيرة و الاسطورة، ولكل منهما مساحة كبيرة لحمل الدلالات و المعاني التي قد تجعل من الصعوبة على القارئ الاحاطة بكل الافكار المطروحة فيها، فكل اسم و كل ضمير و كل فعل يملك دلالة معينة في موقع معين و يتغير في اللحظة التالية إلى دلالة اخرى، لذا كان التمهل و التمعن ملزمان في قراءة هذا النوع من القصص، وخصوصا لو كان الكاتب (ة) بارع(ة) في الكتابة مثل كاتبة "باندورا" .
ابدعت "بان الخيالي " في كتابة قصصها، لتكون سيرة ما لكل قارئ، قد يجد في نفسه احد الشخصيات او مرّ علية حدث من الذي ذُكر في هذه القصص. في حياته اليومية، او بمعنى اخر استطاعت الكاتبة ان تفسح لقصصها موضعاً معيناً في نفس كل من يقرأها، وترك اثر معين عليه عند الانتهاء من القراءة، وهذا هو عين الابداع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الممثل الباكستاني إحسان خان يدعم فلسطين بفعالية للأزياء


.. كلمة أخيرة - سامي مغاوري يروي ذكرياته وبداياته الفنية | اللق




.. -مندوب الليل-..حياة الليل في الرياض كما لم تظهر من قبل على ش


.. -إيقاعات الحرية-.. احتفال عالمي بموسيقى الجاز




.. موسيقى الجاز.. جسر لنشر السلام وتقريب الثقافات بين الشعوب