الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عالم يتهاوى تحت الديون

كيفي امين

2019 / 11 / 10
مواضيع وابحاث سياسية


حسب مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا. بلغ الدين العالمي رقما قياسيا، حيث وصل إلى 188 تريليون دولار ما يفوق بنحو ضعفي الناتج الإجمالي العالمي.
هذا يعني ان كل شخص على كوكب الأرض عليه دين بنحو 24500 دولار، أي ما يعادل نحو ضعفي متوسط دخل كل فرد في العالم.

السؤال هو لمن نحن مدينون بكل هذه الأموال؟ من أين جاءت هذه الاموال والى اين ذهبت؟

الجواب: ليس لأحد بعينه. فالأموال جميعها تخلق من العدم على شكل ديون. وهي تنهي دورتها في السوق لتموت في حسابات البنوك العالمية الكبرى، وتتحول إلى أموال "ممنوعة من الصرف" اذا جاز التعبير. او انها تتراكم لدى حفنة من أصحاب الثروات الفلكية. نحن في الحقيقة مدينون لبعضنا البعض.
خلق المال من العدم على شكل ديون، يشبه كثيرا ربط جسد شخص ميت سريريا بجهاز قلب صناعي. منظومة السوق الرأسمالية ميتة سريريا. وسأحاول ادناه ان اخوض قليلا في معنى هذا الكلام.

ما هي أزمة الديون؟
لكي نفهم ازمة الديون علينا ان نفهم الآليات الاساسية لعمل المنظومة الرأسمالية والتي دفعت بها للتحول الى النظام المصرفي والمالي الحالي، والقائم على الديون.

فما هي هذه الآليات؟

دورة الرأسمال:
دورة الرأسمال في اقتصاد السوق يمكن تبسيطها بأن أصحاب المشاريع يستثمرون في بناء مؤسساتهم الاقتصادية ويوظفون العمال وينتجون البضائع والخدمات للسوق. ويحتاجون إلى بيع ما ينتجونه لأجل عمل الأرباح. المستهلكون يشترون البضائع من الأموال التي معهم. والتي يحصلون عليها من العمل لدى أصحاب المشاريع. نحن نعمل، نحصل على مال، نشتري البضائع والخدمات، واصحاب المشاريع يحققون أرباحا من هذه العملية.
العمال والموظفون لهم دور اساسي في دورة الرأسمال. فهم يذهبون للسوق مرتين. مرة لسوق العمل، لبيع قوة عملهم العضلية او الذهنية. ومرة لشراء حاجاتهم من الأموال التي حصلوا عليها نتيجة بيع ساعات حياتهم على الأرض لأحد المستثمرين عندما ذهبو للسوق في المرة الاولى..
يجب ان أذكر هنا بأن ما يميز الرأسمالية عن باقي المنظومات هو ليس السوق ولا الملكية الخاصة. لان الاسواق والملكية الخاصة كانت موجودة في جميع المنظومات السابقة للرأسمالية. ولكن ما يميزها هو العمل المأجور. حيث يجري إنتاج وتوزيع وتبادل البضائع والخدمات وتراكم الثروات من خلال السوق بفضل العمل المأجور. بدون العمل المأجور لن تكون هنالك رأسمالية. لذلك فإن أصحاب المال اذ هم يسعون الى الاستغناء عن العمال الأجراء باستخدام التكنولوجيا. فإنهم لا يستطيعون الاستغناء عنهم كمتسوقين لكي يشتروا منهم بضائعهم. أصحاب المال يحلمون بأن ينتجوا أكبر قدر من البضائع بأقل عدد من العمال. ويحلمون ايضا بطوابير من المتسوقين لمنتجاتهم.

وهنا نصل الى الآلية الثانية.

التكنولوجيا:
في سعيهم للمنافسة ولزيادة الأرباح، يقوم أصحاب المال بالاستثمار بالتقنيات الحديثة ويتم التعويض عن العمل البشري بالآلات والبرمجيات. وبهذا تتضاعف الطاقات الانتاجية بسبب التكنولوجيا بينما تتدهور الطاقات الشرائية بسبب البطالة التكنولوجية. تتكدس البضائع ويحصل ما يعرف بالكساد. عندما تخلق آليات المنظومة وضروراتها أسباب موتها فاننا نتحدث عما يسمى بالازمة البنيوية. والتي هي عبارة عن معادلات ورياضيات لا تقبل جدلا فكريا او اخلاقيا لمعرفة صحتها.

هنا تدخل منظومة الديون في المشهد.
خلق النقود على شكل ديون من العدم ليست مؤامرة كونية. بل عملية ترقيع للازمة هذه. وتفرضها الضرورة على أسياد المنظومة وعلى اصحاب المال. حيث ان خلق المال من العدم على شكل ديون ضروري لكي يواصل المجتمع اقباله على الشراء. وهو ضروري أيضا بالنسبة للدولة. لكي تستطيع عبرها خلق فرص العمل من العدم واعادة الحياة لدورة الرأسمال. اذا اوقفنا نظام الديون اليوم ستكون لدينا بطالة تتجاوز 40% في اليوم التالي. آخر مرة كان لدينا كساد عظيم. كان عام 1929. حينها كانت البطالة في الدول الصناعية الكبرى قد بلغت 25% فقط.

التراكم الرأسمالي:

كلما تطورت التكنولوجيا، كلما تضخمت حجم الاستثمارات والرساميل اللازمة لبناء وإدارة المشاريع. وبهذا يخرج المستثمرون الصغار من السوق ويستولي المستثمرون الكبار على حصصهم في السوق. حتى اصبحت لدينا شركات وبنوك عملاقة تجمع الثروات بين ايديها. التراكم الرأسمالي ادى الى تحول حفنة من اصحاب المال الى ثقوب سوداء تمتص جميع أموال المجتمع ولكن عبر استخدام أقل قدر من العمل البشري. هذا يعني ان الاموال لا تعود لـ المجتمع على شكل اجور. الأمر الذي يؤدي بدوره إلى توقف دورة الرأسمال. حيث الأموال تسير باتجاه واحد. البنوك مليئة بالأموال. والناس لا يملكون المال لشراء حاجاتهم.
شيء ما أشبه بدورة المياه في الطبيعة. تخيل فقط لو ان المياه تبخرت باستمرار ولم تمطر أبدا.
ما هي الديون؟
الديون هي أموال تحصل عليها الآن وتتعهد بدفعها مستقبلا. وبالنسبة ل 99% من السكان، فان عليهم ان يدفعوا ديونهم من بيع عملهم المستقبلي. أي أن الديون هي عمليا أجور تحصل عليها الآن وتتعهد بان تعيدها من عملك المستقبلي. انت تبيع جزء من عملك المستقبلي. ترهن حياتك للبنك.
أما ديون الدولة، فإنها عبارة عن أجور العمل المستقبلي لجميع سكان الدولة وللأجيال القادمة حتى الذين لم يولدوا بعد.
الديون تحل مشكلة تبخر الاموال من الأسواق بشكل وقتي ولكن عندما يبيع الجميع غالبية ساعات عملهم المستقبلية سواء عن طريق ديونهم الشخصية أو ديون الدولة، ستتدهور قدراتهم الشرائية تدريجيا وسنعود الى النقطة التي بدأنا بها نظام الديون لأجل انقاذ دورة الرأسمال، و سيفقد هذا الحل السحري للأزمة مفعوله.
خلال عقود من الزمن لجأت البنوك الى تخفيض الفوائد على الديون بهدف التشجيع على المزيد منها. وهي اصبحت فوائد سلبية أحيانا. والهدف كان دائما تأجيل انفجار فقاعة الديون. ولكن هذه رياضيات لا تعمل استنادا الى رغباتنا. يوم ما سينهار كل شيء . تنفجر الفقاعة، فقاعة الديون. وتغلق الشركات أبوابها وتفلس المصارف، ويفلس السكان لعدم قدرتهم على دفع ديونهم، و تتفشى البطالة، ويكون لدينا كساد عظيم. هذا بالطبع اذا لم نقم بتغيير جذري على المنظومة بأسرها.

هل هنالك طريقة لمنع انهيار الامور؟
نعم. بالإمكان تجنب الانهيار. وذلك عبر اعادة بعض الثروات المتراكمة لدى اصحاب المال إلى المجتمع بطريقة اخرى غير الديون. اي انه يجب ان يعطونا أموالهم (على شكل منح وليس ديون) لكي نشتري منهم. سواء عن طريق الدخل الأساسي الثابت. او عن طريق الإلقاء به من هليكوبتر. وهو التعبير المستخدم مجازيا والذي يقصد به اعادة المال للمجتمع.

بالطبع هذه الحلول تعني عمليا انتهاء المنظومة الرأسمالية. لان الراسمالية بامكانها ان تكون اي شيء اخر سوى ان تعطي المال لأحدهم دون مقابل لكي يشتري. تخيل انك تذهب للبقال، وهو لا يدينك مال بل يمنحك المال لكي تشتري منه. لا يبدو ذلك عملا سويا بمقاييس اقتصاد السوق. أليس كذلك؟

اذا أردنا تبسيط الامر يمكننا ان نقول باختصار بأن ازمة الديون هي ازمة دورة الرأسمال وهي أزمة سببها التطور التكنولوجي والتراكم الرأسمالي. وهي ازمة بنيوية لا يمكن تجنبها بدون تغيير قوانين اللعبة الحالية والتي كانت سائدة منذ الثورة الصناعية الاولى وحتى يومنا هذا.
ان كل ما يجري في عالمنا من ثورات وحروب وأزمات ومعاناة وانحطاط على جميع الأصعدة مرتبط بكوننا نعيش عصر أفول منظومة وولادة اخرى جديدة.

للحصول على بعض الحلول المطروحة، ارجو الاطلاع على طروحات جيرمي رفكن حول الثورة الصناعية الثالثة. وكذلك طروحات نعومي تشومسكي وغيره حول التعاونيات الانتاجية.
في الحقيقة فإن أية حلول لا تتضمن تجاوز العمل المأجور والملكية الخاصة ولو بشكل جزئي هي مجرد مسكنات للآلام لمريض بالسرطان.

ستوكهولم ٢٠١٩








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الديون أعراض خطيرة
فؤاد النمري ( 2019 / 11 / 11 - 12:51 )
الباحث عالج موضوعاً في غاية الخطورة بمقاربة ليست علمية
الإقتصاديون البورجوازيون يمتنعون عن الإعتراف بانهيار النظام الرأسمالي في السبعينيات رغم علامات الإنهيار الكثيرة
لو لم ينهر النظام الرأسمالي في السبعينيات لما اضطر العالم للإستدان كل سنة 5 ترليونات من الدولارات


2 - من هو العالم ؟
عبد الحسين سلمان ( 2019 / 11 / 11 - 17:33 )
تعليق رقم 1
.............لما اضطر العالم للإستدان كل سنة 5 ترليونات من الدولارات

من اين يستدين العالم ؟ ومن هو العالم ؟


3 - تحية للسيد كيفي امين
عبد الحسين سلمان ( 2019 / 11 / 11 - 17:51 )
تحية للسيد كيفي امين
وشكراً له على هذا التوضيح العلمي و المقاربة العلمية لأزمة الديون في العالم بشكل سلس وبسيط و بعيد عن الشعارات الديماغوجية و الضجيج الفارغ الاجوف


4 - مقال مهم
صباح كنجي ( 2019 / 11 / 11 - 19:58 )
مقال مهم بلغة سلسة تساعد القارئ على استيعاب ما يجري من تطورات عاصفة في الاقتصاد العالمي وانعكاساته السياسية والاجتماعية .. يتطلب من الباحث مواصلة الكتابة عبر حلقات قادمة .. خاصة فيما له علاقة بالاسطر الاخيرة من بحثه والتنويه لجيرمي رفكن واطروحاته في مجال الاقتصاد التشاركي وايضا لما له علاقة بمفاهيم الثورة الصناعية الثالثة والرابعة وانعكاسات التطور التكنولوجي على القاعدة الاجتماعية للرأسمالية وافرازاتها في مجال الصراعات الاجتماعية والطبقية ومتطلبات خوض الصراع وآلياته بوسائل جديدة .. اننا نواجه مرحلة جديدة تتطلب المزيد من الدراسات الاقتصادية المرافقة لتشخيص الوسائل الملائمة لمواجهة التوحش الرأسمالي ولا يجوز الركون للمفاهيم والمعادلات التي تجاوزها الزمن .. وما يحدث الآن من احتجاجات في عدة دول في العالم يرتبط شئنا ام ابينا بهذه التحولات التي تواجهنا في هذا العصر .. تحية للكاتب ونأمل منه ان يرفدنا بالمزيد من البحوث المهمة في هذا المجال .. مع مودتي صباح كنجي

اخر الافلام

.. الجزائر: لإحياء تقاليدها القديمة.. مدينة البليدة تحتضن معرض


.. واشنطن وبكين.. وحرب الـ-تيك توك- | #غرفة_الأخبار




.. إسرائيل.. وخيارات التطبيع مع السعودية | #غرفة_الأخبار


.. طلاب بمعهد ماساتشوستس يقيمون خيمة باسم الزميل الشهيد حمزة ال




.. الجزائر: مطالب بضمانات مقابل المشاركة في الرئاسيات؟