الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ليلى والذئاب: الفصل الحادي عشر/ 3

دلور ميقري

2019 / 11 / 11
الادب والفن


بينما امرأته تعمل في حجرة الخياطة، أو تعلّم تلميذاتها هنالك إتقان التطريز والحياكة، كان عليكي آغا الصغير يمارسُ تجارته بمعونة أخيه غير الشقيق. في صبيحة ذلك اليوم، الموافق للفاتح من كانون الثاني/ يناير عام 1900، أخذ باستعادة صورٍ من القرن المنصرم تواً، الذي شهد ربعه الأخير قصة عشقه لمن أضحت قرينته. تعامله تجارياً مع بعض نصارى المدينة القديمة، خصّه بنوع من التميّز عن أقرانه في الحارة لناحية الوعي بالمناسبة الفريدة. ابتسمَ حين تراءت لعين خياله صورةُ قريبه، زعيم الحي، الذي كان يمقت أي مناسبة غير إسلامية. هذا، مع أن الأخير دأب عاماً تلو العام على إحياء عشيّة النيروز في إيوان منزله، يستقدم فيها منشداً مع قيثارته كي يغني إحدى ملاحم العشق الكردية. لما سأله مرةً عن ذلك، لم يزِد الحاج حسن عن القول: " سَمِيُّكَ أميرُ المؤمنين، الإمام علي، هوَ من حلل هذه المناسبة الوثنية. ذلك أنهم قدموا له يوماً حلوى فارسية، قائلين له أنها حلوى النيروز؛ فقال لهم: نورزونا كل يوم! ".
لكن تاجر الماشية، كان أكثر وعياً من الآخرين في الحي لناحية أخرى؛ وهيَ الشعور القوميّ. شريط ذكرياته لهذا اليوم، مرّ على صور لقاءاته والعم أوسمان مع ذلك الأمير البدرخانيّ في حي سوق ساروجة. الأمير، لمحض المصادفة، توفيَ في نفس العام الشاهد على رحيل صديقه. لما اجتمع مع ابن الأمير، صالح بك، فاجأه هذا بأن والده كان أيضاً يعاني في أواخر حياته من تشمّع الكبد نتيجة إدمانه على الكحول. صلة عليكي آغا الصغير مع الابن، كانت قد بدأت في سنته الدراسية الأخيرة. أحياناً، كان يرافق الفتى إلى منزل خالته في ذلك الحي؛ وكانت كما علمنا قد أخذت ترعاه بعيد طلاق الأم. اتفاقاً كذلك، أنّه في فترة اعتقال الأول من قبل الجندرمة بغيَة العمل في السخرة، كان الثاني قد أوقف على ذمة التحقيق بشبهة توزيع منشورات معادية لجلالة السلطان.

***
وهيَ ذي إحدى نسخ المنشورات، الأحدث عهداً، بين يديّ عليكي آغا الصغير يتصفحها خلسةً في حجرة أعماله. استرعى انتباهه عمودٌ كامل، خُصص للحديث عن تحركات أحد البدرخانيين في موطن الأسلاف وذلك بدعمٍ من الروس. عبد الرزاق بك، وهوَ اسم الرجل، تم إسباغ هالة من التهويل على نشاطاته وكما لو كان من شخصيات الأساطير. إنه يتنقل مثل وعل جبليّ حر على حدود الدولة العلية وفارس، ومن ثم تراه بعدئذٍ حطّ في القوقاز لملاقاة الداعمين من أتباع القيصر. الصحافة الموالية للسلطان في الآستانة ـ وفق معلومات النشرة السرية هذه ـ كانت تصف عبد الرزاق بك بعدو الدولة رقم واحد، وأنه جاسوس يعمل تارةً لصالح الروس وأخرى للبريطانيين. حوادث إطلاق نار على جنود السلطان، ثمة على حدود تلك الدول اللدودة، نسبتها الصحافة ببساطة إلى عصابة يقودها هذا الرجل الغامض.
" إنه من جيل الشباب البدرخانيّ، المنفتح على فكرة استقلال كردستان، ومَن رفضَ التعامل مع القصر مع كل ما بُذل له من إغراءات الوظيفة والثروة والجاه "، هكذا علّقت النشرة السرية بشأن نشاطات عبد الرزاق بك. وكم تمنى عليكي آغا الصغير أن يكون حمّوكي حاضراً، ليسمعه هذه المعلومة عن خيانة بعض أبناء عشيرته: " الخيالة الحميدية، وجلّهم من عشائر الملّية كما هو معروف، أخذوا على عاتقهم مطاردة عبد الرزاق وعصابته المزعومة. إلا أنهم لما عجزوا عن تتبع أثره الموهوم، قاموا بنهب قرى بني قومهم وقتل من وقف بوجههم "، بحَسَب كلام النشرة السرية. ثم أردفَ كاتب المقال، موضّحاً، " في حقيقة الحال، أن عبد الرزاق يقيم غالباً بين ظهراني عشيرة الشكاك، بفضل صداقته مع زعيمها، وقد تعاونا معاً على إنشاء مدارس كردية وغير ذلك من الأمور المعرفية والثقافية. هو لم يحمل السلاح ضد الباب العالي، وأصلاً قد انتقل إلى داخل حدود بلاد فارس خشيةً على حياته. ولكن الأتراك يعدون اللغة الكردية أخطر سلاح، يُمكن أن يُجرّد ضدهم! ".
صالح بك، كان إلى العام المنصرم ما يزال في دمشق، وقد استقبل صديقه أكثر من مرة في منزل أسرته بسوق ساروجة. ولكن مَن زوّد عليكي آغا الصغير بالنشرة الأخيرة، السرية، كان من جماعة البك. آنذاك أعلمه هذا، أن الأخير قد انتقل بحُكم الوظيفة إلى مدينة قيصرية في الأناضول.

***
كان عليكي آغا الصغير يستحضر ذكرياته، وإذا بسلسلة المصادفات تقف هذه المرة عند حضور حمّوكي بالذات. أودع الصحيفة السرية في درج الطاولة، ثم أطفأ الشمعة مُكتفياً بنور السراج، المعلق على الجدار. الوقت أمسى ليلاً، وقد غادر شريكه مقر العمل منذ ما يزيد عن الساعتين. على الأثر، تصاعد عبق الشمع المنطفئ ممزوجاً برائحة تبغ ملاحظ نواطير البستان. قال عليكي آغا الصغير لضيفه، عقبَ رد تحيته: " تلوح علامات الاهتمام على وجهك، فهل من خبر جديد؟ "
" ليسَ جديداً كل الجدّة، ما دام الخلق يتزوجون كل يوم! "
" هه، ومن تزوج أخيراً يا صديقي الفيلسوف؟ "، سأل تاجرُ الماشية وقد أخذ يرفع عن الطاولة بعض الأوراق ليحفظها أيضاً في الدرج.
" ربما ستُدهش، لو سمّيتُ لك العريس: إنه حمّاد، وكان إلى اليوم البارح يتغنّج مثل فتاة عذراء، مؤكداً أنه لن يتزوج "، قالها بشيءٍ من الاشمئزاز.
" إنك صهره، ومن المفترض أن تفرح لفرحه. أم أنه سيقترن هذه المرة من عشيرته ويحرجك؟ "، استفهمَ عليكي آغا الصغير وهوَ ينهض من مكانه. لاقى حمّوكي هذه الحركة بنوع من الامتعاض؛ مثلما ظهر على سحنته. ربما لذلك كان رده حاداً، " لن يحرجني لو فعلها، بل كانوا سيطردونه من الكرم الكبير، تماماً كما يفعلون مع الثعلب . ثم أردف من فوره: " إنه بسبيله للاقتران بابنة عم المرحومة زوجته، هذا الأعرابيّ القذر! "
" إنك تستعمل تعبيراً شائناً، قديماً، يُنسب لحَمي الرجل. مع أنّ محمد آغا غيّر من معاملته لصهره، وها هوَ سيعطيه ابنة أخيه ـ كما تقول؟ "، قال ذلك مختتماً بضحكة ساخرة. جعّد حمّوكي وجهه علامة على الشعور بالقرف، ثم قام ناهضاً بدَوره عن كرسيه: " سيبقى هذا رأيي فيه، ولو تزوج من ابنة ابراهيم باشا الملّي، قائد الخيالة السلطانية وصديق الباديشاه شخصياً! "، عقّبَ بنبرة الواثق من نفسه والراضي عليها كل الرضا. شاءَ صديقه أن يضربه بنبأ اشتراك خيالة عشيرته العتيدة بقمع أبناء قومهم، ولكنه أجّل ذلك خشيةَ أن يتأخر عن بيته. ليلو، كانت آنذاك في شهر حملها الأخير، ويمكن أن تضع المولودَ بين لحظةٍ وأخرى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شاهد .. حفل توزيع جوائز مهرجان الإسكندرية السينمائي


.. ليه أم كلثوم ماعملتش أغنية بعد نصر أكتوبر؟..المؤرخ الفني/ مح




.. اتكلم عربي.. إزاي أحفز ابنى لتعلم اللغة العربية لو في مدرسة


.. الفنان أحمد شاكر: كنت مديرا للمسرح القومى فكانت النتيجة .. إ




.. حب الفنان الفلسطيني كامل الباشا للسينما المصرية.. ورأيه في أ