الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في معرض الصديق جهاد العامري

باسل سليم

2006 / 5 / 24
الادب والفن


لا أنطلق في حديثي عن معرض الصديق الفنان جهاد العامري من خبرة في النقد الفني وإنما من شغفي بالفن وبأعمال الصديق جهاد العامري ...
فالفرصة المهمة التي أتاحتها لي معرفة الفنان ، واطلاعي على بعض اعماله التي زينت معرضه ، وقدرتي المحدودة على ادعاء قراءتي لتجربته تبرران هذه المحاولة ..
إن المشاهد العادي مثلي لمعرض الفنان جهاد العامري في جاليري الاورفلي لا بد وأن ينطلق من الاشارة اللفظية التي قدمها الفنان لنا كمفتاح لقراءة معرضه حين يقول على الوجه الأبيض لغلاف كاتالوج معرضه " إلى أبي ...وحدك تعلم سر الحقل " ، وهو حقل كانت كلماته السوداء الصغيرة تؤكد على انه حقل متسع باتساع المساحات البيضاء في لوحات جهاد ، وهو حقل وإن كانت تمظهراته في المعرض تظهر أنه حقل جهاد العامري وحقل أبيه الذي كان وحده القادر على قراءته ومعرفة اسراره، إلا إنه حقل المشاهد أيضا ومساحات التفجر الذاتي لديه لدى لحظة المشاهدة .
إن هذا التقديم الذي وضعه جهاد العامري لثيمة معرضه يضعنا في شك مريب أن أية محاولة للمشاهدة لدينا والقراءة ممنوعة ومستحيلة إلا بعد بذل جهد فائق ، فالأسرار البصرية الكامنة في حقل جهاد العامري قصية وصعبة كمثل أسرار حقل أبيه ، ولا أمل لنا بإدراكها إلا اذا اسقطنا ما نراه في حقولنا الخاصة والذاتية على ما قدمه لنا جهاد من حقله الثر ...
فالسر الكامن في الحقل ، مضى مع والده في رحلة الموت ، ولكأن جهاد العامري في هذه المفارقة يقول لنا أنه يضعنا في طريق آخر طويل ، طريق معرفة ما عرفه والده الذي كابد مشقة الأرض والذي كانت الشمس الساطعة باللون الذهبي في لوحات جهاد ساعته الابدية لمعرفة الوقت ، لكأن جهاد العامري في ذلك الذهول الذهبي في احدى لوحاته يكشف عن بعض مما تكشف لوالده في علاقته الابدية مع الارض ولكأنه يقول لنا أن علائم الدهشة لن تتبدى لنا نحن أبناء المدينة السوداء وأننا بحاجة الى الكثير لنصل إلى سر لا يدركه إلا من غادر وأصبح جزءا من تراب الأرض واختلط بعناصرها وشابه لونه لون حقولها.
أما توظيف جهاد لعلاقات الابيض والاسود فهو تعبير عن علاقة لا تهدأ بين مكنونات الارض وعناصر الجو والهواء ، فالتلازم الدائم بين الابيض والاسود والخروقات العشوائية لكل من اللونين للآخر ،- وإن كان الابيض لديه هو بياض الخلفية – لتعبير شعوري وعاطفي مكثف عن علاقة حب خصبة ... فالأسود منسدل على الابيض وطافح وطائش ورغباتي إلى اقصى حد ، حتى لكأنك تكاد تسمع صوت تأوهات أنثوية صاخبة وتشتم رائحة المطر لحظة أول هطول ...
أما الابيض الذي لا لون له ، فهو تعبير قصي لدى جهاد عن نفس مفعمة ، ومساحة بيضاء ريفية قابلة ومقبلة على التلقي الناضج باستمرار ومثابرة .
والأسود لدى جهاد العامري ، مطر مدهوش ومعبر عنه بتلونات وتفجيرات مفاجئة وكأن المطر ، رمز الخصب والحياة سواد داهم وليلي ودليل على ابدية الحياة والموت وهو لون التجربة نفسها ولون فعل الانسان وتمرسه في الدورة الابدية للكون ، وانعطافات متدفقة من فعل الطبيعة ، وتعبير عن سواد حاد وادراك لأبدية الموت وسطوته ، وهو لون الحركة في اللوحة ، فهو تارة تعرجات حادة، وهو تارة انتثار عشوائي في المساحة وهو تارة نقط متبعثرة هنا وهناك كحبات العرق ، وهو زاخر بالتفاصيل حد الدهشة، لكأن الأسود لونه المفضل حد النهاية .
إن جهاد العامري الذي اخذ الأبيض والاسود الى حدود التعبير القصوى في لوحاته ، لا يخاف من أن يفاجئنا في بعض لوحات المعرض بتنويعات مدهشة أخرى وإن كانت خرجت عن ثيمته الاساسية في المعرض ...
فالذهبي عام ومنسفح كشمس الاغوار ، وهو ممتد على مساحات اللوحة ، و جهاد قادر على استخدامه بتنويعات الأصفر وكأن اللحظة التي يدخل فيها الى اللوحة هي لحظة اختراق لا تدع مساحة لأية ألوان أخرى ...
وهو قادر على استخدام الرمادي بعفوية فذة ، فهو هناك في اقصى المساحة وكأنه خلفية لوحة طبيعية صينية ، هاديء وسرمدي ، وعليه تمتد مساحات الصخب المفاجئة ...والأحمر في لوحة اخرى توقيع بالدم على الصخب العنيف وحقيقة الحياة ، والأخضر في لوحات أخرى متمكن وحقيقي كربيع مفاجيء ، والأزرق طاغي كأبدية الموت وهو قطع من امتداد السماء لحظة فجر ، وليس من الغريب أن تكون ألوان الأحمر والأخضر والأزرق تفصيلات وخلفيات للوحات أصغر حجماً. في حين أن الأصفر الذهبي والرمادي دخلا كخلفيات وكتفصيلات في اللوحات الممتدة. فجهاد لم يرد لغير تشكيلات الشمس المتمظهرة في الأصفر ولغير تمظهرات الغيم المجسدة في الرمادي أن تكون طاغية وهو تأكيد آخر على حضور عناصر الطبيعة المتبدلة والمتغيرة كالشمس والغيم في بيئة حقله.
ولا بد أن بعض مشاهدات جهاد لم تقاوم نفسها وافلتت على المساحات الواسعة للوحاته ، فتارة ترى نخلة فارعة في اصطخاب العلاقات بين الابيض والاسود ، وتارة تندهش لاكتشافك العجلة من جديد وهي وحيدة هناك في طرف المكان ، وتارة تحس باندفاعة الحديد في أرض السواد والبياض التي اعاد خلقها ، وتارة تحس بآثار قماشية وكأنها مزق خلفها من نزف العرق في الارض ... وهي كلها رموز لم تظهر بواقعية فجة ، بل باتساق وقدرة على إثارة فرحة المشاهدة بالاكتشاف لتفاصيله الصغيرة...
كما أن تعبير العامري جهاد عن مساحات الفراغ وعلاقات الاسود في هذا الفراغ تعبير عن تمازجات عنيفة ، فالأسود الهابط يلتقي مع الاسود الصاعد في صراع محموم تنتج عنه انفجارات ، وكتل السواد الداهمة تندفع من أطراف اللوحة لتلتقي في لحظة قصف وملامسة متناثرة ، وهو حدس لا شعوري لدى الفنان عن عناصر المفارقة والصراع في الطبيعة معكوسة بقوة على مساحة البراءة البيضاء لديه ، وكان ذاته المتلقية للحدث في الحقل امتصت جميع عناصر التناقض والتبدل الدائم فيها.
لا بد من القول أيضاً ان بعض التعبيرات أفلتت من العفوية التي امتزجت لديه مع التمكن من الأدوات ، فنرى بعض المقاطع التجريبية التي لم تنسجم مع الكل في المعرض ، وإن كان الأمر مفاجئا وصادما للعين التي اتسقت مع الثيمة الممتدة على مدى لوحات كثيرة إلا ان القطع في الرؤية وامتداد التلقي إلى مساحات التجريب لدى الفنان لدليل كبير على جرأة الفنان على مفاجئتنا بغير ما كنا نتوقع وهو دليل كبير أيضا على أن جهاد لا يني يبتكر في مساحات لم يطأها أحد من قبل.
إن المفارقة المدهشة في عمل جهاد العامري هو قدرته على استخدام اشد التقنيات صعوبة في التعبير عن أكثر الكينونات البصرية بساطة ، وفي ذلك قدرة واضحة لديه على طرح اشكالية تضعنا امام خيار صعب في اعادة النظر في كيفية رؤيتنا لأكثر الأشياء اعتيادية، وهي اشكالية قدمها جهاد العامري المفعم بالضحك و بحب الأغوار وامتدادات النظر إلى بيسان وفلسطين ، ليثبت في معرضه الاول على أنه اعاد خلق حقله الخاص واهتدى لأدواته الخاصة التي لا تثير فينا إلا الأمل في ان تكون خطواته التالية أكثر عمقا وابداعا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. موريتانيا.. جدل حول أنماط جديدة من الغناء والموسيقى في البلا


.. جدل في موريتانيا حول أنماط جديدة من الغناء والموسيقى في البل




.. أون سيت - لقاء مع أبطال فيلم -عالماشي- في العرض الخاص بالفيل


.. الطفل آدم أبهرنا بصوته في الفرنساوي?? شاطر في التمثيل والدرا




.. سر تطور سلمى أبو ضيف في التمثيل?? #معكم_منى_الشاذلي