الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة للمشهد السياسي البرازيلي ودور اليسار في رسم ملامحه

عبد الرحمن بلحداد

2019 / 11 / 19
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


قبل العدوان على العراق في سنة 2003 كنت في مجلس الشيوخ البرازيلي لأمارس عملي كمترجم للسفير العراقي، حيث كنت مترجما لسفارة جمهورية العراق حينذاك. وكانت دهشتي أنني كنت أسمع سياسيين برازيليين من بعض الأحزاب اليمينية في مجلس الشيوخ ببلدهم يدافعون بحماس شديد يساوي أو يفوق ذاك الذي كان لدى الرئيس الأمريكي جورش بوش نفسه. لقد دافعوا وبشدة عن العدوان على العراق وكانوا يعرفون تماما أنه عدوان مباشرعلى الشعب العراقي وليس على نظام الرئيس صدام حسين، فالشعوب هي الطرف الضعيف في كل حرب...
وفي الطرف الآخر، كنت أشاهد وأتابع تدخلات بمجلس الشيوخ صادرة عن ممثلين ليساربرازيلي بمحتلف توجهاته واختلافاته فيما بينه، لكنه كان متحدا ومتوافقا في مسألة رفض العدوان الأمريكي على العراق، فندد به ثم اجتهد وكد كي يُقنع ويضغط حتى لا يحدث العدوان، خاصة أن هذا تم حينما كان زعيم اليسار البرازيلي، لويز إناسيو لولا دا سيلفا مُمسكا بدفة الحكم في سنة حكمه الأولى.
إنه نفس اليمين، في جانب كبير منه وليس كله، الذي كنت ولا أزال أراه يدافع عن مصالح أمريكية في البرازيل وعن مصالح كبريات الشركات والمصارف البرازيلية، ضدا في مصالح عامة الشعب ومصالح البرازيل القومية. وهو اليمين البرازيلي ذاته الذي استمر إلى غاية سنة 2002 وكان كاتب هذه السطور، وبحكم عمله في سفارة قطر، يقرأ المذكرات الرسمية الصادرة عن وزيره في الخارجية بشأن العراق مكررا الخطاب الرسمي الأمريكي ذاته، في مطالبته لعراق صدام حسين بأن يتخلى عن أسلحة الدمار الشامل والتي ثبت أن العراق كان خاليا منها.
وأما ظهور اليمين المتطرف في البرازيل فلامعنى له في بلد مكون أصلا من أبناء مهاجرين من أوربا، واليابان ومن العرب وممن تم استرقاقهم واستجلابهم بالقوة من افريقيا جنوب الصحراء... إن بوادر ظهور اليمين المتطرف في البرازيل هي الانتخابات الرئاسية البرازيلية لسنة 2010 والتي استثمر فيها اليمين خطابا دينيا محافظا، فجا ومنافقا ولا يناسبه كما لا يناسب الثقافة البرازيلية أصلا، وذلك كي يهزم مرشحة حزب العمال التي كانت متفوقة عليه حيننذاك، حسب كل استطلاعات الرأي آنئذ... انهزم اليمين في انتخابات سنة 2010 رغم ما بذله من جهد في استثمار الخطاب الديني بتوجيه تهمةا لإلحاد لمرشحة حزب العمال ديلما روسيف، ثم انتظر ذلكم اليمين أربع سنوات أخرى كي يكرر تجربته في استثمار خطاب الكراهية بهدف الإنتصار على حزب العمال في الإنتخابات الرئاسية لسنة 2014، لكنه لم ينجح للمرة الثانية، ورفض الشعب البرازيلي حيلة إقحام الدين في السياسة في بلد يحكمه نظام ديمقراطي علماني ثم فاز حزب العمال في انتخابات سنة 2014. وكيف له ألا ينجح وقد منحته تجربة الحكم الناجحة وإنجازاته الإجتماية والإقتصادية الهائلة نفسا جديدا وقوة، خاصة إبان فترتي الحكم للرئيس العمالي السابق لويز إناسيو لولا دا سيلفا؟!
ومن جهة أخرى، انبثقت على جوانب اليمين البرازيلي أصوات متطرفة كانت على هامش السياسة وضعيفة، بل ومنبوذة فانتزعت من اليمين المعتدل يافطته وقضيته وكانت تبحث لها عن رمز يمثلها، فلم تجده إلى أن وجدها هذا "الرمز"، الذي لم تقبله بداية إلى أن حدث الزواج بينهما. وهذا "الرمز" هو الرئيس الحالي جايير بولسونارو الذي كان منتسبا للجيش و لا يجد حرجا في الدفاع عن عودة النظام العسكري للحكم...
لو احتفظنا بمسافة عن المشهد السياسي البرازيلي كله وأردنا توخي الموضوعية أو نصيبا منها(فكل متابع مهتم إلا وينحازبالضرورة لطرف، حتى ولو ظن عكس هذا، وكيف لا ننحاز، كعرب، لتجربة حكم العمال في البرازيل وقد كانت لصالح العرب وقضاياهم، داخل البرازيل وخارجه...!)، أستأنف القول بأنه لو احتفظنا بمسافة عما يحدث لقلنا إن لدى اليسار البرازيلي عطش لاستمرار السلطة بين يديه. ولا ريب أن هذا الأمر كاف لعرقلة كل تجربة ديمقراطية كما أنه يسيء لسمعة اليسار البرازيلي بوجه عام. لكن هذه التجربة بدأت مع اليمين البرازيلي نفسه وذلك سنة 1998، أي حينما كان في سدة الحكم بزعامة الرئيس السابق فرناندو هنريكي كاردوزو (عالم اجتماع كان يساريا ثم تحول إلى وسط اليمين)، بحيث عمل الأخير على منح امتيازات لأحزاب وسياسيين كي يصوتوا على مشروع قانون سمح له بإعادة ترشيح نفسه، فحكم البرازيل لسنوات أربع تالية، أي إلى غاية نهاية سنة 2002. لكن اليسار تحت زعامة لويز إناسيولولا دا سيلفا تمادى في الأمر، بحيث حكم هذا الأخير لثمان سنوات ثم دفع بمرشحته العمالية ديلما روسيف ومكنها من النجاح ثم حكم البرازيل لمدة ست سنوات أخرى. مما يعني أن البرازيل قد حكمه حزب العمال عبر ائتلاف حكومي يساري ـ يميني لمدة 14 سنة. حيث أنه بدون ائتلاف من هذا النوع يصعب على حزب العمال الذي كان حاكما من قبل التوفر على أصوات كافية من أجل المصادقة على مشاريعه بمجلسي الشيوخ والنواب. وويُشار إلى أن "شجع" حزب العمال لم ينته عند هذا الحد، بل إنه لا يزال يرغب في العودة لسدة الحكم وكل المؤشرات تظهر أنه في الإنتخابات الرئاسية القادمة، إما أنه سيفوز ببعضها أو أنه سياتي في المرتبة الثانية، وسيظل الأمر على هذا الحال لعقد آخر أو أكثر.
إن أمرا مثل هذا لا يساعد على منح التجربة الديمقراطية نفسا جديدا ودماء أخرى تجري في شرايينها. لكنها أمريكا اللاتينية التي إن تركها اليسار لليمين، باعتها الأحزاب اليمينية في المنطقة لأطماع خارجية وللشركات العابرة للقارات ولكبريات الشركات والمصارف البرازيلية. إن تركها اليسار لليمين، أي إذا لم يرشح اليسار نفسه عبر من يمثله في الإنتخابات، فإن الأحزاب اليمينية ستقوم بما بدأت فيه الآن بعد وصولها للسلطة: إجراء تعديلات غير شعبية في قوانين العمل والتقاعد وفي البرامج الإجتماعية وستضرب أكثر فأكثر الصناعة المحلية لصالح مصالح مصانع وشركات أجنبية... هناك وطنيون بالأحزاب اليمينية البرازيلية، لكن أصواتهم خافثة وهم قلة، ولهذا فإن ضرب اليسار في البرازيل معناه العودة إلى ما قبل حكم لولا دا سيلفا في البرازيل، بل وأبشع منه، حيث تمت خصخصة شركات برازيلية وطنية كثيرة وهامة إبان حكم اليمين البرازيلي إلى غاية نهاية سنة 2002، أي في عهد الرئيس البرازيلي السابق فرناندو هنريكي كاردوزو.
وعلى الرغم من الإقرار بأنه لدى حزب العمال ، كمتزعم للأحزاب اليسارية البرازيلية، تعطش للسلطة ورغبة في العودة للحكم، لكننا نتذكر أن الطبقة السياسية البرازيلية نهاية سنة 2010 والشعب البرازيلي وحتى قطاع بالإعلام المحلي كانوا مستسيغين فكرة إجراء تعديل دستوري يُبقي على الرئيس لولا دا سيلفا في الحكم لفترة رئاسية ثالثة، لكن الأخيرلم يدفع بهذا الإتجاه وترك كرسي الحكم بشعبية بلغت نسبة 85% وكان هذا تعبيرا عن ارتياح عام شعبي مهيمن من تجربة حكمه وكان هذا كافيا للجم أفواه كثيرين ثم دفع الإعلام المحسوب على اليمين إلى التراجع عن انتقاد الحكومة العمالية خلال تلك السنوات، حيث أن التحولات الإجتماعية والأرقام الإقتصادية خلال سنوات حكم لولا دا سيلفا كانت لصالحه ولصالح اليسار البرازيلي كله.
لكن الرئيس البرازيلي السابق لولا دا سيلفا فضل حيلة أخرى لا تطعن الديمقراطية من الخلف ولا تغير فاصلة واحدة في الدستور: ذلك أنه عرض على الشعب البرازيلي مرشحة عمالية للانتخابات الرئاسية في أكتوبر من سنة 2010، وهي الرئيسة البرازيلية السابقة ديلما روسيف، رغم أنها كانت مجهولة لدى غالبية الناس. فعمل الرئيس السابق والعمالي، لولا على دعمها إلى أن تمكنت من الوصول لسدة الحكم في نهاية سنة 2010 لتمارس عملها بداية سنة 2011، بعد أن صارت رئيسة للبرازيل. ولم يكتف دا سيلفا بهذا، بل دعمها، أيضا، في انتخابات سنة 2014 التي فازت بها للمرة الثانية لكي يبقى حزب العمال في الحكم لأكثر من 14 سنة، أي إلى غاية منتصف سنة 2016، لكن عبر ائتلاف حكومي يساري ـ يميني، هيمن فيه حزب العمال، كحزب حاكم، مما مكنه من تطبيق برامج اجتماعية منسجمة مع فكره وتطلعاته ومبادئه... استمرت التجربة الثانية لحزب العمال البرازيلي عبر ممثل ثان عنه في سدة الحكم إلى غاية نهاية شهر أغسطس من سنة 2016 حيث نجح انقلاب أبيض قاده تحالف بين اليمين واليمين المتطرف وكنائس إنجيلية وبعض كبريات وسائل الإعلام، وهو التحالف ذاته الذي نصب فخا للرئيس البرازيلي السابق لولا دا سيلفا كي يقطع عنه طريق ترشيح نفسه لانتخابات سنة 2018 فأعد له هذا التحالف ملفا قضائيا أدخله السجن وأمكثه به لمدة 580 يوما. لكن المحكمة الإتحادية العليا البرازيلية جعلته في حالة سراح كي يدافع عن نفسه، خاصة بعد انكشاف وظهور تسريبات كثيرة بأن ملف اتهامه قد أعده كله ونسق أموره وتفاصيله القاضي الفيدرالي سيرجيو مورو، الذي كافأه الرئيس الحالي بأن جعله وزيرا للقاضي بعد إزاحة لولا دا سيلفا من السباق الرئاسي مع رئيس البرازيل الحالي، جايير بولسونارو. وكل المؤشرات توحي باستعادة أجواء التوثر بين اليسار البرازيلي، ممثلا بحزب العمال وزعيمه التاريخي لولا دا سيلفا واليمين المتطرف الذي وصل للحكم في البرازيل وضعفت شعبيته كثيرا.
يُشار إلى أن مظاهر التطرف التي طفت على المشهد السياسي البرازيلي هي ظاهرة، بدأت بشكل خفيف سنة 2010 واشتد عودها منذ سنة 2016، لكنها قد لا تستمر لوقت أطول، خصوصا وأنها لا تنسجم مع الثقافة والشخصية البرازيليتين. يُضاف إلى هذا أن خطاب الكراهية الذي يحمل شعلته يمين برازيلي متطرف لا ينسجم في شيء ولا أنه يتماهى مع غيره في بلدان أخرى، بل إنه حالة برازيلية فريدة، قد توظف بين الحين والآخر أحداثا دولية لصالحها كي تشحن همم جماهيرها وتوجهها، لكنها، كحالة سياسية برازيلية، تنطلق من واقعها الذي ما إن حكمه يسار اعتنى بالمناطق الفقيرة، خصوصا بالشمال الشرقي البرازيلي، وبفقراء البرازيل كلهم وبالمرأة وبالبرازيليين من ذوي الأصول الإفريقية وبالهنود ـ الحمر حتى انقضت عليه أحزاب وأوساط و وسائل إعلام تمثل مصالح الشركات والمصارف الكبيرة. وطبقة سياسية متعفنة...

باحث وأكاديمي مغربي وبرازيلي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس وإسرائيل.. محادثات الفرصة الأخيرة | #غرفة_الأخبار


.. -نيويورك تايمز-: بايدن قد ينظر في تقييد بعض مبيعات الأسلحة ل




.. الاجتماع التشاوري العربي في الرياض يطالب بوقف فوري لإطلاق ال


.. منظومة -باتريوت- الأميركية.. لماذا كل هذا الإلحاح الأوكراني




.. ?وفد أمني عراقي يبدأ التحقيقات لكشف ملابسات الهجوم على حقل -