الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فاطمة -رب أخ لم تلده لك أمك-

اخلاص موسى فرنسيس
(Eklas Francis)

2019 / 11 / 21
الادب والفن


هل يمكن للنفس الإنسانيّة أن تتجلّى في شخص واحد؟ سؤال لم أستطع أن أجد له إجابة وافية شافية.
مبعثرة أنا بين البشر، أحاول أنْ أجمع شتاتي مع شخص واحد، أرتّب معه رؤاي، أسمع منه الأفكار، أرى اللهفة في نبرة الصوت، الصدق في العيون التي تتوهّج ببراءة الطفولة، النبض الإنسانيّ والصفاء، الروح التي تصهل بالجمال والبهاء.
عرفتها منذ فترة طويلة، لم تكن الأولى التي عرفتها من خلال الشاشة الباردة، كانت تحمل عينين تائهتين في كتابات كثيرة، رأيتها تقتبس لون الحياة في كلّ كلمة تنشرها، أثارت بي الدهشة والترقّب، لم أتجرّأ في البداية أن أطلب الصداقة، كان التردّد قائدي هنا، كم أخاف الصدمات، لا أحبّ الخيبات والمفاجآت، لذا كان اتّخاذ القرار بطيئًا جدًّا، لا أريد أن أتورّط في صداقات وعلاقات أندم بعدها بل أريد الجانب الآمن فيها، كسل منّي ربما أو جبن، ولكنّ الفشل والصدمات تؤلمني.
الأمر هنا اختلف عندما تابعت ما تنشره، لذا كانت الجرأة، وكانت الصداقة الافتراضية، وكانت الحوارات،
والتعليقات وتبادل الآراء.
نمت الصداقة، وترعرعت، وأنا أرى هناك نجمًا نابضًا يشعّ بين كلماتها، أراها تتنزّه على الصفحات الافتراضيّة، تنشر الفرح والصدق، كانت تشبع فضولي بهذه المصداقية، وترفعني إلى ذرى صنّين والأرز في بلدي، كنت أرى ما تخفيه تحت تلك الصور، وأسبر الأعماق، وأرى الجذور التي لم تخنقها تربة العالم المزيّف، والحرب ورائحة العفن في النفوس الميتة، كنت أرى فيها مرآة طفلة صافية لدرجة أنّي تحيّرت فيها، وطلبت اللقاء بها، كان يجب أن أضع نهاية لهذا السؤال الذي شغل فكري، أردت أنْ أقنع روحي بأنّ ما أراه حقيقة، أردت أنْ أؤكّد لنفسي أنّ هناك بشرًا بهذه الشفافية والصدق في الحياة.
لم أستطع أنْ أخفيَ عن نفسي اضطرابي من يوم اللقاء، خفت أن تنتهي هذه العلاقة قبل الولادة أمام حقيقة العين المجرّدة، فهذا العالم الافتراضيّ لا أمان له، لذا كان لا بدّ من لقاء على أرض الواقع يجزم ويحزم ويحسم ماهية هذه الإنسان.
وكان اللقاء، وشاء أن يكون في وادي النيل، حيث الفنّ والحضارة العريقة، حيث الحياة هناك لا تنام، حيث الكرنك وعبد الوهاب، أمّ كلثوم وعبدالحليم، فريد الأطرش والفنّ العريق، أنغام المساء، رائحة الصحراء، عراقة الأهرامات وثباتها في وجه الطبيعة والزمن.
بنتا الأرز والفنيق تتواعدان على اللقاء في أحضان النيل، وبين أعمدة هياكل الأقصر، حملت معها رائحة الأرز، حفرت في صورة تاريخية لصداقة أرادت لها التخليد، أعدّت حقائبها، حملت معها عبق الهيل والزعتر وحلوى طرابلس، وصور وصيداء وحرف بيبلوس، ويمّمت شطر القاهرة، وأنا بدوري حزمت حقائبي، لا أحمل معي إلّا الأمل واللهفة للقاء إنسان الحلم، تخبرني عن بلدي، وكيف أمست به الحال، وكنت قد غادرته منذ تسع عشرة سنة تقريبًا، تغيّرت معالمه، ماذا حلّ بشجرة الصنوبر التي كنت أهرب إليها، وأختبئ بين أغصانها، أجدل من حفيف الريح بين إبرها شقاوتي، وأرسم على جذعها صورة فارس أحلامي، وأكتب قصائدي على تراب الأودية في ضواحي قريتي. كانت تحمل رائحة لبنان بلد الحرف والأرجوان، وتحمل في جعبتها ألوان الفرح الخلّابة، ألوان الحياة الخضراء مثل غصون الأرز، فارعة الطول، سمراء البشرة، ثاقبة العين، بحّة الصوت، لهفة اللقاء، بشاشة الروح، كلّها بدّدت كلّ خوف اللقاء، وكانت رهبة اللقاء وفرحه، وكأنّي أعرفها منذ الطفولة، ترتّب أحلامي، وتشاركني بها، مشينا معًا إلى طريق العين، نملأ الجرار من عذوبة الأدب والشعر والجمال، كنا كأنّنا ربّينا معًا على شواطئ صور، وغرفنا معًا من حرارة الشمس وألوان الشفق ورائحة الغروب .
كم كان اللقاء بهيًّا حرًّا من أيّ سلاسل وقيود مرئيّة وغير مرئيّة، وكم أصبح الخيال وجهًا لوجه مع الوجه الحقيقيّ الكامن خلف تلك الحروف، أمام حقيقة الواقع المجرّد من كلّ شيء إلّا من رقصات الروح التي نهضت من بين رماد العالم الافتراضيّ، ليكتب بحبر الواقع هذا اللقاء على بوّابة مطار القاهرة.
لم يتوقّف الأمر هنا بل هطلت أمطار الحنين، وأرعدت الصدور بمكنوناتها، وراحت السماء تقصّ علينا حكاية التكوين، وأصول العوالم الإنسانيّة والنفسيّة.
كان لا بدّ من جلسات تحت القمر، نختبر فيها الوجع الممزوج بالفرح، الدمع بشهقات الابتسام، اللذة المشوبة باللهفة، الكلمة التالية والابتسامة التالية، لم نعد غريبتين، بل تفرّعت أغصاننا من نفس الشجرة، وأصل الشجرة يعود إلى تربة لبنان الخصبة التي أنجبت جبران ونعيمة ومطران، بلد عشتروت وأدونيس، بلد الأرجوان، تلك التربة التي توالى عليها جحافل الغزاة والمحتلّين، تلك الأرض التي نالت استقلالها يومًا بدم كثير، حتى اصطبغ البحر الأبيض المتوسط بتلك الدماء الزكية النابضة بأرواح الذين ماتوا من غير ذنب سوى طمع الغرباء بأرضنا، أولئك الغرباء الذين فرضوا على الكثيرين ترك الوطن إلى الغربة والهجرة، وفي النهاية كان التهجير سيّد الموقف، وتفريق أبناء الوطن الواحد.
مع إطلالة فاطمة أطلّ الوطن عليّ من نافذة عينيها، كنت أرى موج البحر فيهما، وهياكل بعلبك في حضنها، وثلج صنين في نقاء روحها، وأرى النورس المهاجر في خصلات شعرها، وأرى القرى الممتدّة على طول الجبل مرسومة في أصابعها، ومن بين شفتيها سمعت الحرف الأول، الأبجدية الأولى، في ثوانٍ أعادتني إلى وطني، والحنين والجوع للزعتر والزيت والكنافة والشنكليش، وصهيل القمر فوق قبة الكنيسة في ضيعتنا.
لم يعد لي متّسع من التنهّد، استنفدت كلّ زفرات صدري، وكلّ عبرات عينيّ، أجهش بروعة اللقاء، جرح لذيذ، ووجع تمنّيت لو أنّي قابلتها من قبل.
لقد نبتت لي أجنحة بسرعة البرق، ورحت أحلّق فوق الجنوب من بلادي، وأتسلّق موسيقا الربيع، وأغاريد الطير في المروج، وأصوات القواقع والضفادع في بركة الضيعة، وأرى القمر يشعّ وأنا مستلقية فوق سطح دارنا، أسمع إيقاع الشهب في السماء، وأتسابق مع خيوط الفجر، إلى كروم العنب والتين، إلى الينابيع العالية.
هل يمكن أن يتجسّد الوطن في إنسان؟ هل يمكن أن تولد الإنسانيّة على شكل إنسان؟ رغباتي تتصارع، أحاسيسي ومشاعري تتضارب.
أيّتها الصداقة التي هبّت عليّ الآن من هذه الإنسان، نهرٌ من المحبّة يصبّ في روحي، وفرح لا ينتهي، يضوع عبيره في أرجاء الغربة، وطن وإنسانيّة ها هنا. جفّت أقلامي، والحبر مات في يراعي، وها أنا أكتب نشيد الإنسانيّة من دمي ودم فاطمة، في صومعة التاريخ نسجّله مجدًا متوّجًا بالمحبّة، ورباطًا مقدّسًا من الصداقة.
أيتها الحياة، لك أنحني، لأنّك وهبتني فاطمة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس


.. بحضور شيوخ الأزهر والفنانين.. احتفال الكنيسة الإنجيليّة بعيد




.. مهندس الكلمة.. محطات في حياة الأمير الشاعر الراحل بدر بن عبد


.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد




.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا