الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يوميات الحرب والحب والخوف (5)

حسين علي الحمداني

2019 / 11 / 23
الادب والفن


كان يجب أن انتظر حتى عودة وجبة المجازين كي أتمتع بالإجازة،هذا هو المعتاد في الوحدات العسكرية،لكن ناصح كان له رأي آخر،قبل عودة المجازين بيوم قال لي حضر نفسك ستذهب في إجازة،فرحت كثيرا أبدلت ملابسي وهيأت الحقيبة التي حشوت فيها ملابسي المتسخة وقلت له أنا جاهز،ناولني نموذج الإجازة وقال تبدأ من تاريخ بكرة،وتعود إلينا صباح اليوم التالي لنهاية ألإجازة.
قلت له وكيف سأذهب أنا لا أعرف الأماكن،ضحك وقال أعرف هذا،فهذا الأمر يحصل دائما مع الجدد مثلك،أخذ يشرح لي كيفية الوصول لكراج بغداد،الأمر ليس صعبا فالمدينة تكتظ بالجنود الذاهبين في إجازاتهم والعائدين منها،وصلت الكراج عصرا،ثمة وقت طويل حتى نصل بغداد،ليس هنالك زخم في الكراج،صعدت السيارة التي إنطلقت بعد نصف ساعة لأجد نفسي ليلا في بغداد،كراج النهضة.
الطريق من البصرة لبغداد كان عبر الناصرية طريق صحراوي ممل جدا،وجدت نفسي في بغداد قبل منتصف الليل،كانت في الجانب الثاني من الشارع سيارات أجرة هنالك من ينادي بعقوبة،وهنالك من يقول خالص خالص،سمعت كركوك،قطعت الشارع مسرعا قلت أين سيارات الخالص،اشر لي أحدهم صوب سيارة صغيرة قال لي ضع حقيبتك في الصندوق وأصعد، وجدت حقائب موجودة وضعتها معهن وصعدت السيارة.
تحركت السيارة كأنهم كانوا ينتظرونني،كنت بحاجة للنوم لكن لم استطع ذلك،شعرت إن الذي بجانبي نام،رأسه على كتفي، لكن استيقظ عندما شعر بذلك،قال عفواـ قلت له براحتك،قال الطريق طويل من البصرة،قلت له نعم ،ساد الصمت كما هو الظلام السائد في الشارع.
أقل من ساعة كنت في الخالص في مدخل شارع محلتنا،كل شيء هادئ،فكرت كيف أطرق الباب،رغم إن الجو صيف وربما الجميع في نوم على السطح وهذا ما يجعلهم يسمعون طرقات الباب،كما توقعت أول طرقة كان هنالك من يصيح(منو)قلت له(آني)وهي الكلمة التي تقال في هكذا موقف وعليهم أن يميزوا من الصوت،ثم سمعت صوت يقول جاء حسين،لم أميز القائل وعرفت بعد حين إنه من الجيران.
البيوت المتداخلة لها ميزة إنها تبدو بيتا واحدا،أبي من فتح الباب وأمي كانت تترقب شكلي وأنا قادم من البصرة،قرأت الفرح في عيونهما وشعرت حينها كم نحمل آبائنا أعباء عندما نكون بعيدين عنهم،أول شيء قدم لي مجموعة من المجلات والرسائل كانت قد وصلت في الفترة الماضية وضعت في غرفتي كما لو إنني موجودا،قبل أن أغير ملابسي سلمت أبي ما عندي من نقود استلمتها من وحدتي،سألني من أين لي؟ضحكت وقلت له منذ أربعة اشهر لم استلم رواتبي العسكرية وهي مجموعة،رفض أن يأخذها بالبداية لكنني وضعتها في يده بينما كانت أمي تعد لي العشاء أو الفطور الصباحي.
اعاد لي بعض منها وقال هذه لك،قلت له غدا سأذهب للتربية أستلم راتبي،لكن رفض أخذها،هي في كل ألأحوال تنفعني في إجازتي الأولى هذه.
لم أجد من شلة ألأصدقاء إلا القليل جدا منهم،وهذه ضريبة بتنا ندفعها لأننا كنا دائما نحلم أن نكبر بسرعة ولم نكن نعرف إننا سنتفرق وربما لا يرى بعضنا البعض إلا نادرا.
ورغم إنني قضيت نصف النهار في التربية للحصول على راتبي الذي أعاده المدير قبل أيام مما يتطلب بعض الإجراءات الأصولية،قبل أن استلم الراتب من موظفة الخزينة قالت لي في المرة القادمة أجلب معك كتاب تأييد من وحدتك العسكرية كل شهر هكذا هي التعليمات.
عرفت إن سبب ذلك يكمن في وجود حالات هروب من الخدمة العسكرية وكتاب التأييد دليل عدم الغياب الطويل أو الهروب،لم يخطر ببالي أن أهرب من الجيش،حتى لو فكرت في ذلك لن أجد مكانا اختبأ فيه وعلى العموم هي فكرة بعيدة جدا ولا يمكن التفكير بها مطلقا.
مضت أيام الإجازة روتينية في ظل تبعثر الشلة وصعوبة تجميعها،قضيت هذه الإجازة في القراءة وكتابة ردود على الرسائل التي وردتني دون أن أنسى إن أخبر الأصدقاء الذين أراسلهم إنني الآن في البصرة البعيدة وهي جبهة قتال.
انتهت الإجازة وكان يجب أن اغادر البيت ليلا كي أصل في صباح اليوم التالي للبصرة،وهذا ما حصل بالفعل في طريق العودة كنت أفكر في الحرب،وهؤلاء الجنود الذين تزدحم بهم سيارات النقل الكبيرة تنقلهم صوب جبهات عديدة تمتد على إمتداد الحدود الطويلة ما بيننا وبين إيران،حدود كان قدرها أن تشتعل،من أين يأتون بالجنود لينشروهم على أكثر من الف كيلو متر،هل كان قدر الأمهات أن تلد لهم جنودا،فكرت بهذا وفي داخلي إن الحل الوحيد لنهاية هذه الحرب التي مضى عليها ثلاث سنوات إلا قليلا أن لا تنجب النساء بعد اليوم ويضرب الرجال عن الزواج فيضطر حاكمي البلدين وقت إطلاق النار لأنهم لا يمكن أن يرسلوا أبنائهم للحرب.
تفكير مخيف جدا الذي حاولت دخوله مع نفسي ونحن نقترب من العمارة لأن السائق كان يسلك طريق عمارة – بصرة،عندما توقفت الحافلة في منتصف الطريق لم أنزل فضلت النوم والسيارة متوقفة،أخذت هذا القرار دون الرجوع إلى من يجلس بجانبي الذي فضل هو الآخر البقاء في مقعده.
مع خيوط الشمس الأولى كنا في البصرة التي مرت عليها ليلة من القصف كانوا يسمونه في البيانات العسكرية قصف المدنيين،كانت المدينة صاخبة كعادة كل مدن الحرب،وصخبها سببه الجنود القادمين من عدة مدن،بين ذاهب وقادم،فكرت بتناول الفطور من نساء يفترشن الأرض وأمامهم صواني قيمر وخبز حار وشاي،ربما لأنهن نساء يكون الفطور أمامهن من ضروريات الجنود الذين يتعطشون لرؤية إمرأة حتى وإن كانت غير جميلة،المهم إنها إمرأة،شعرت بهذا وأنا أتابع نظرات بعض الجنود وهم يتناولون فطورهم بنصف دينار من نسوة يبعن القيمر بوجوه مبتسمة،تناولت الفطور ودخت سيجارة ورحت أبحث عن وسيلة تقلني لنهاية العشار حيث(الطبكة)وهي باخرة صغيرة بدائية تنقلنا من هذه الضفة للضفة الثانية لشط العرب،طبع في ذهني صورة بائعة القيمر التي كانت توزع الإبتسامات للجميع مجانا أو ربما بنصف دينار،أنا بطبعي أخاف جدا من النظر لأية إمرأة أو بنت عندما كنا في دار المعلمين كان بعض الأصدقاء يعاكس البنات،كنت اذهب بعيدا عنهم وإحيانا أوبخهم،اليوم فكرت أن لا أتناول القيمر من هذه المرأة أو غيرها،وجدت الجميع يتناول،شيء ما أوحى لي أن اقرر ذلك،لا أدري إن كانت بائعة القيمر البصراوية هذه ستزول صورتها من ذاكرتي أم تبقى عالقة؟.
دخلت وحدتي العسكرية كان اليوم جمعة،البعض لازال نائما،أبو أحمد كالمعتاد يصحو مبكرا جدا،استقبلني بسلام حار وتحسس حقيبتي كأنه يبحث عن شيء،ضحكت وقلت له فيها دجاجة،وقالب كيك وكليجة،ضحك وقال والله تسلم يا أبو علي،فتحت له الحقيبة أفرغت ملابسي ووضعت الدجاجة وقالب الكيك أمامه،قال أترك الدجاجة للظهر واعمل لنا شاي لنشربه مع الكيك.
أكل من الكيك وقال والله أمك تعرف تسوي كيك مو مثل عجايزنا. ضحكنا وعلى صوت الضحك نهض ناصح من فراشه يدمدم كأنه يقول ناموا.
كانت الشمس عالية نوعا ما،نظرت لشخص ما ينام هو ليس مهندا قد يكون علي عارف أو صالح،وشخص آخر يدخل للقلم يحمل بين يديه شوربة،نظر إلي وقال أنت حسين،أهلا أنا صالح،عرفت حينها أن النائم هو علي عارف.سألت عن كريم فجة،قال لي ناصح نزل لأهله في البصرة ويأتي عصرا.
عرفت إن آمر الفوج مجاز والنقيب هو الوكيل،اقترب من غرفة القلم جندي استفسر عن عريضة قدمها،قال له أبو أحمد الساعة عشرة نقدم البريد ونرى ماذا يقول النقيب،عرفت إنه قدم طلب مساعدة،عادة ما تكثر طلبات المساعدة عندما يكون الآمر مجازا أدركت هذا فيما بعد،الجندي هذا سألني لماذا لا تأتي تحلق عندي؟أنا طارق الحلاق،قلت له أن شاء الله مستقبلا،ضحك وقال لا تنسى أن تجلب معك الموس.
أضفت اسم طارق لقاموس الأسماء التي ظلت في ذاكرتي،شاب يمكنه أن تحبه،ظريف صاحب نكته،وأحيانا يمتلك جرأة في إبداء الرأي،هو حلاق الوحدة العسكرية يمكن أن يؤدي مهمته في أي مكان وشرطه الوحيد على الزبون أن يجلب معه(شفرة الحلاقة) لا أعرف ما السر في ذلك،لكن طارق عندما ذهبت إليه ذات مرة لحلاقة شعر الرأس وناولته(الموس) قال تعرف ليش؟قلت له لا،قال حتى لا يقولون طارق يستخدم شفرة مستخدمة أكثر من مرة.
يبدو إنه محق في ذلك،حاولت أن اضع مبلغ بسيط جدا في يد،رفض ذلك بشدة وأبتسم وسمعته يقول أنتم أهل القلم نحتاجكم كثيرا.
لم أفهم قصده،شكرته وذهبت صوب مكان يسمى حمام،أي مكان استحمام،لا تتوفر فيه مقومات المكان،وماء البصرة لا يصلح للاستحمام لأن الصابون لا يشتغل معه،لهذا لم أتعب نفسي كثيرا في هذا ألأمر أردت فقط التخلص من آثار الحلاقة.
بطبيعتي يمكنني أن أندمج بسرعة وأتكيف مع أي واقع ممكن أن يفرض علي أو أجد نفسي جزء منه،لهذا وجدت نفسي أندمج مع العسكرية وأكيف نفسي على هذا الواقع خاصة وإن وجودي في قلم الفوج ربما أفضل من غيري.
قدومي لقلم الفوج كان بداية تغيرات ربما كانت ستحصل بمجرد قدوم أي شخص مهما كان،صالح كان ينتظر هذا لينقل نفسه للسرية الأولى أو الثانية لا أعرف بالضبط،حركة الإجازات تحتم أحيانا تمتع أثنين بالإجازة،الجنود كانوا مقسمين خمس وجبات أي كل خمس وثلاثون يوما،ونواب الضباط أربع وجبات أي كل ثمان وعشرون يوما،يحصل هذا أن يكون ناصح وكريم في موعد إجازة متزامن.
وفي حال مسك الفوج لقاطع يكون مهند أو كريم هنالك في المتقدم،هذا يعني الحاجة قائمة لتعزيز كادر قلم الفوج،لهذا محظوظ من يجيد القراءة والكتابة أو خريج وينقل لفوج كهذا سيأخذ مكانه الذي يتمناه.
عدد الخريجين في عموم الوحدة العسكرية قليل جدا،أغلبهم في أقلام السرايا أو الإعاشة والمشاجب التي تتطلب مسك سجلات.قد تكون أغلب وحدات الجيش بهذه الصورة،وبالمقابل نجد هنالك شبه استهزاء بالخريج من قبل ضباط الصف وهم الحلقة الأكبر وأحيانا تكون صاحبة القرار في أمور عديدة خاصة في مراكز التدريب،والمطلوب أن تستعد لضابط الصف أي العريف ونائبه وصولا لرئيس العرفاء،أما النائب ضابط تأخذ له تحية قوية.
أما في الوحدات المقاتلة أي وحدات الجبهة المعاملة تختلف هنالك علاقات إنسانية حتى بين الجندي والضابط وهم يتشاركان موقع واحد وقصعة واحدة،لكن هذه الأمور تظهر حتى لدى الوحدات القتالية عندما تكون في حالة تدريب أو إعادة تنظيم،يصبح هنالك ضبط وربط كما يقولون.
كان الفوج يتجمع كل صباح في ساحة كبيرة،الكل يكون هنا،يستثنى من ذلك خفر واحد في القلم والإعاشة والآليات،أما البقية يحضرون الساعة الأولى فقط ثم يعودون لأعمالهم،الذين لا يخرجون هو المطبخ،لم أكن يوما من الأيام من خفراء القلم،ومع هذا لم أتذمر،هي ساعة ليس إلا وتنتهي،إلا إننا في القلم لم نكن نكلف بواجبات الحراسة ليلا مهما كانت الظروف.
كان هنالك تدريب بسيط هرولة وتفكيك السلاح وتركيبه شيء يشبه إلى حد قضاء وقت ومحاولة إشغال الجندي.
بعض الجنود كان يتذمر من هذا التدريب،الكثير منهم كان يفضل أن يستلم الفوج قاطعا،ليرتاحوا من هذا التدريب الممل والأوامر الكثيرة وأحيانا الأشغال التي لا تنتهي،كالعادة رئيس عرفاء الوحدة من الناصرية،المدينة التي يقال إنها بلد المليون عريف،مبالغة كبيرة طبعا،لكنها تعكس حقيقة مهمة إن الناصرية هي الأم للجيش العراقي منذ أن أسس،وجود عدد كبير من المطوعين فيه من الناصرية دليلا على إن هذه المدينة لها فضل كبير في بناء القوات المسلحة،لكن الناس تحاول عكس الصورة،بالمقال الموصل منها أغلب الضباط.
لهذا هنالك ثنائية الناصرية والموصل بين ضباط الصف والضباط،لكن لم يحصل تصادم بينهما بقدر ما إن ضباط الموصل كانوا بأشد الحاجة لضباط الصف من الناصرية.
دفعني فضولي الجهوي أن اسال ناصح هل هنالك من ديالى؟ضحك وقال أنتم أهل ديالى مو عنصريين.قلت له يعني لا نمتلك ذلك ولكن مجرد فضول،قال ذاك الواقف جنب ألإيفا وهي سيارة نقل عسكرية،قلت له أبو كرش قال نعم هذا أبو حسن من بعقوبة نائب ضابط مسؤول الآليات،وعندنا واحد بالسرية الرابعة من بلدروز وأنت فقط.
موقف صعب أن لا تجد من محافظتك سوى أثنين فقط في فوج يصل تعداده أكثر من خمسمائة بين ضابط وجندي،لهذا تمشيت صوب الآليات سلمت على الرجل وقلت له أنا من الخالص،أبتسم وقال أهلا وسهلا،رجل في بداية الأربعينيات وجهه بشوش،قال أنا من بعقوبة وأنت في أي سرية؟قلت له أنا بقلم الفوج،قال(كلش زين)أي شيء تحتاجة أنا موجود،قلت له أشكرك وأحسست أنه مشغول لهذا تركته وعدت للقلم.
بحثت عن ستار الخياط،وجدته قلت له أين أنت يا رجل؟ضحك وقال موجود،سألني هل أنا مرتاح في القلم؟قلت له جدا رغم إن شغله كثير لكن لا يهم،هل لديك نية النزول للعشار غدا بعد الظهر؟قلت له لا أعرف سأطلب ذلك أو على ألأقل أجلب لك عدم تعرض تنزل به،فهمت غايته إنه يريد النزول،قلت لأبو أحمد عن رغبتي بالنزول مع ستار لم يعترض وهو يؤكد لي إن العدم في درج مكتبه سيطيعني إياه في الغد والثاني عندما يأتي كريم مساء اليوم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية


.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي




.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب


.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?




.. قصة غريبة عن أغنية أنساك لأم كلثوم.. لحنها محمد فوزي ولا بلي