الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


انسان مع وقف التنفيذ ..رواية....12..

خالد الصلعي

2019 / 11 / 24
الادب والفن


كل ذلك وأكثر . الانسان حين تهجم عليه المشاكل وتحاصره جدران الحياة ، يتحول الى مرجل من الاسقاطات . ينهار ، يحاول أن يرمي بأثقاله كلها في جهة ما . لكنها تأبى أن تفارقه .
نادى عليها حميدو :
- ألن تأتي ؟
لأول مرة يحدث ان ينسى مدمن ، وهنا مدمنة ، لحظة الذروة . سمية نسيت قضية البورصا . ربما لأنها ساهمت بنخوتها رغم ظروفها القاهرة والصعبة ، ووضعها القاهر والمزري في تلبية رغبة حميدو الذي وقف معها ، ولو بكلمات عابرة ، لا تأثير لها الا على نفسيتها المنهارة . تقبلها في وضعها الحرج ، وطلب أن ترتب فراشها الى جانب فراشه ، وتعاطف معها ، وتمنى لو يمتلك سلاحا يفرغه في أجساد اولئك الأجلاف الذين طردوها من حجرتها ، رغم أنها كانت تؤدي واجباتها الشهرية .
اقتربت اليه ، جلست بمحاذاته تماما . غطى كليهما بغطاء من قماش مهترئ ، واستسلما لعادتهما السيئة .
بعد انتهائهما من استنشاق تلك المادة الملعونة ، نزع حميدو عنهما ذلك الوشاح المتسخ . قالت له سمية :"علي البحث عن سكن ، لا أستطيع أن أتدبر أمري والطفل معي " .
نظر اليها حميدو وابتسم ابتسامة خبيثة ، وكأن الجواب كان معدا عنده مسبقا .
-لماذا لاتتسولين به ؟، انه كنز بالنسبة اليك .
لم تصدق اذنيها . ماذا يقول حميدو ؟ ، هذا الملعون يحرضها على ابنها لتجعله أداة للتسول ، لايزال جسدها يدر عليها بعض المال .
لم تتقبل الفكرة . كان الطفل في عينها أغلى من ان تعرضه كأداة للتسول . رفضت الفكرة ، وانكرت عليه التتفكير بهذه الطريقة :
-كيف تصورت اني سأرضى بعرضك السخيف هذا ؟ ، أخي حميدو ، نعم أنا مدمنة وجانكية وعاهرة ، لكني لن أتسول بابني . ثم دخلت في نوبة بكاء شديد .
اخذ حميدو يربت على ظهرها ويستسمحها ، وهو مقتنع أنها في النهاية ، في يوم من الأيام ستقوم بنفس ما أشار عليها به .
الناس هنا أصبحوا يتسولون بآبائهم وأمهاتهم . عيسى مثلا ، ذلك الصياد القديم الطراز ، الذي كان يعتمد في صيده على الاطار الداخلي لعجلة التراكتور ، أخذ في يوم من الأيام صينية ،وراح يجول بها في السوق المركزي ، يجمع المال بحجة توفير مصاريف جنازة أبيه الذي كان لا يزال حيا يرزق . شاب في الثلاثينيات من عمره قادم من نواحي المغرب العميق ابتكر طريقة مخزية للتسول ، حيث يحرق ساقه اليمنى بالماء الدافء ويملأه بالبيتادين ، ثم يعرضه في الشارع العام على المارة . بل أصبح كل من له عاهة يخرج بها الى الفضاء العام ليتسول بها .
عادت به الذكريات الى الأيام الأولى لانحرافه . ماكان لهذين الشابين أن يتجرآ عليه . لم يكن يعرف التراجع أو الهروب . قبل خمسة عشر سنة فقط ، كان حميدو بامكانه أن يصارعهما هما الاثنين في آن واحد . كان منبسط الجسد ، قوي العضلات ، شجاع لا يخاف أحدا .
تذكر تلك الأيام الخوالي بحسرة شديدة . شيئا ما وخزه في صدره . سقطت دمعتان من عينيه . وكأنه ندم على ما آل اليه . ربما يكون الندم . ربما يكون وضعه الذي هو عليه الآن . او تلك الحالة البئيسة التي كان عليها والشاب القوي يسبه ويهدده .
ويكاد يلطمه أو يلكمه .
ظهرت سمية التي ذهبت التي عادة ما ترتاد شارع الرباط ، حيث تقف عند نقط اشارات المرور ، تطلب من السائقين و الراكبين مساعدتها كأنثى خانتها الحياة .
.
ظهرت وهي تجر ابنها الذي عادة ما تتركها عند السعدية التي تعتاش من بيع السجائر بالتقسيط . نظرت الى البتول التى توكأت على حائط الخزينة العامة ، وهي في حالة بئيسة ، واضعة يديها على وجهها ، ترتعش قليلا .
التفتت الى جهة حميدو ، وحين رأته في تلك الحالة أحست أن شيئا خطيرا قد حدث للتو في المكان .
بعض المدمنين منتشرين في محيط المكان ، وكأن الطير على رؤوسهم . اقتربت من حميدو وسألته :
-ماذا هناك ؟؟
-لا شيئ ، لاشيئ . رد عليها حميدو بنوع من اللامبالاة ، وكأنه لا يريد أن يتحدث . ابتعدت عنه وتقدمت نحو البتول سألتها هي أيضا :
-ماذا بك أختي البتول ؟
رفعت البتول عينيها ، نظرت الى الطفل الصغير ، تأملته جيدا ، ثم انهارت بكاء مرة أخرى .
دق قلب سمية ، بينما الطفل الصغير يتابع باستغراب ما يقع .
-أخبريني ، ما بك أختي البتول ؟
-لقد أمسكوا بي أختي سمية بالجرم المشهود . هنا ، خلت أنني نجوت بالهاتف ، لكنهم تبعوني الى هنا . ولكمني أحدهم في وجهي ، ألا تنظرين انتفاخ وجهي ؟
-أنت منحوسة ومسخوطة ، قلت لك أكثر من مرة أتركي عنك السرقة ، لكنك لا تستمعين .
-وماذا اصنع أختي سمية ؟ ، من اين آتي بثمن البلية ؟ ، حتى الجسد خانني ، لم يعد يغري أحدا . ضعت أختي سمية ، لقد ضعت . لن اسامح عبد السلام أبدا ، هو السبب ، هو السبب .
سمية تعرف قصة البتول ، وكيف وقغت ضحية معاقرة الكوكايين . فقد تم اغواؤها عبر زوجها عبد السلام . وبعد أن أصبحت مدمنة ، لفظها كما يلفظ البحر زبده .
الآن فقط أدرك حميدو حقيقة وضعه . وعلم انه لم يعد يساوي شيئا غير هذا الجسد الضعيف ، وهذا المكان الموبوء ، وهؤلاء الأصدقاء والصديقات الضائعين مثله . تذكر صراخاته في المدمنين ، فعلم انهم يهابونه لعلو صوته ، ولسيرته القديمة التي أنفق كثيرا من سنينها في السجون ، أيضا لأنه ابن المنطقة . وتأكد ان الناس الذين يصرخ في وجههم ، منهم من يتجنب التورط في أشياء تافهة ، فهو حقيقة ، مجرد تفاهة ، وهو يعي تفاهته جيدا ، ولا يحتاج أحدا ليذكره أو يخبره بها . أو لأنهم يحترمون أمه .
أحس بكآبة شديدة تخنقه ، ضيق تنفس ، حرارة جسده ، دقات قلبه المتسارعة .استسلامه لحقيقته .
تمنى لو انشقت الأرض وابتلعته ، لكن هيهات ان تنشق الأرض .
تمنى لو تحدث معجزة وتعود اليه صحته وعنفوانه . لكن هيهات ، ثم هيهات . تمنى لو يجد نفسه في أرض غير الأرض وفي مكان غير المكان . لكن قدرك يا حميدو ان تمضي ما تبقى لك في نفس المنطقة .
لم تتصور يوما مصيرك هذا ، لكنك تعلم علم اليقين أنه لم يبق لك غير هذا المصير .
رضوان كأول مدمن في أرض الدولة ، غيرت أمه دمه أربع مرات ، ثم انتفخ ، ومات . هو صديق حميدو، ابن حيه .
الشريف كان من امهر تجار المنطقة ، وصار اليوم مجرد بائع صغير . ابن الملياردير "استيتو" ، نفسه لم تنقذه اموال أبيه الهائلة ، ومات هنا في بني مكادة في أحد الأحياء المهمشة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو


.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب




.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث