الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سارة في توراة السفح: الفصل الأول/ 1

دلور ميقري

2019 / 11 / 25
الادب والفن


برغم أنها سيرة حقيقية أكثر منها متخيّلة، لكن الحالَ يلوحُ معكوساً لو تعلق الأمرُ بمصادفات يُمكن ألا يُصدقها عاقلٌ؛ قارئاً كانَ أو مستمعاً فضولياً. مع ذلك أفترضُ أنه قارئ، وأنه أيضاً قد تابعَ سيرتنا من مبتدئها. فأقول بقليل من الشك، المستوحى من شيمة الكاتب كشخصٍ موضوعيّ، أن ميلاد سارة جدَّ في نفس العام، الشاهد على مولد ليلى. ليتَ المصادفة، على غرابتها، وقفت هنا؛ إذاً لأعفيتُ نفسي من استباق الأحداث، وقدمتها في تسلسلها الزمنيّ ـ كما تسير حياتنا يوماً بعد يوم، وعاماً بعد الآخر، وفقَ مشيئة ما تنفك مجهولة، ملغزة، سرّانية.
لعله عبثاً، أمرُ استعادة فتنة عام 1860 ( أو طوشة الشام )، ما لم تكن معقدَ الإزار فيما يخص ولادة بطلتنا. مع أن الحدثَ، كان مغايراً من حيث المكان؛ على الأقل في مستهله. هذا، لو شاء قدرُ سارة أن يكون حدثُ ميلادها صورةً مكررة عن ولادة مَن ستضحي، مستقبلاً، امرأةَ عليكي آغا الصغير. إننا اقتفينا فيما مضى آثارَ الأقارب، المتورطين بأحداث الفتنة وذلك بحَسَب شمول الاتهام السلطانيّ، الرسميّ، أغلبَ حارات الشام الإسلامية ومنها صالحية الأكراد. سيكون إضاعةً للوقت، إذن، تقليبُ صفحاتِ كناشِ هذا وذاك من مدوّني أحداث الفتنة، الذين سبقَ أن حظينا بمعرفة بعضهم واستلفنا منهم المعلومات المطلوبة. بيد أن سيرتنا هذه، ستضطر للتوقف ملياً في تلك السنة المذكورة، ( 1860 )، كونها مدخلاً لحدث ولادة سارة، المتأخر عنها عقداً من الأعوام. في المقابل، سندخل إلى السرد عبرَ شخصيّةٍ مذكّرة، تمتّ بصلة الدم لبطلتنا مثلما تتصل بقصتنا سنةُ الفتنة.

***
رمضان آغا، ما كان بحاجةٍ لزج نفسه وسط الأخطار المستطيرة، كالتي واجهها عامئذٍ آخرون من أبناء حيّه الكرديّ لدى توغلهم في حارة النصارى لأجل سرقة قطعة أثاث ثمينة، مصنّعة من خشب نادر ومطعّمة بالصدف مع خيوط فضية ـ أي على شاكلة المرآة المعتلية البيرو، وكنا صادفنا مثيلها في مكان آخر من السيرة، قد احتفى بها أحدُ المنازل البائسة في زقاق الحاج حسين. لكن نار الفتنة، في نهاية المطاف، وصلت إلى طرف عباءة الآغا، المذهّبة الأكمام والياقة. كان يقيم آنذاك في منزله المنيف، الكائن في أحد أزقة جسر النحّاس. في حقيقة الحال، لم تكن تعنينا العباءة، لولا أنّ صاحبها هوَ جدّ سارة لأمها، وذلك بحَسَب حوليات سلالتنا، المسجّلة هذه المرة على الورق بخط زوجها العتيد؛ زعيم الحي. لأيام ثلاثة، إذن، كان رمضان آغا يقفُ في كل مرةٍ على السدة الحجرية، المشكّلة إطلالة أرض الديار على الحديقة، كي يُتابع بعينيه خطَ الأفق من ناحية الحي المنكوب، الذي صبغته بالألوان الحمراء لنيرانه والرماديّ لدخانه، ريشةُ الإثم والعدوان. مثل الآخرين أيضاً، عليه كان فيما بعد أن يفزع من ردة فعل الدولة على الأحداث، برغم أنها هيَ مَن وقفت خلفها، تحريضاً وشحناً، ومن ثمّ إيغالاً بدم أولئك النصارى الأبرياء. مع أن الباب العالي، وفق شيمة تعود لأيام أسلافه، اعتاد أن يصبّ غضبه في هكذا حالات على الرعية الأكثر فقراً، إذا بممثله عالي المقام يستهل المحاسبةَ بالرؤوس الكبيرة من الأعيان؛ وجهاء الحارات ورجال الدين وقادة العسكر. لم تكن تلك بدعة جديدة، لسلطانٍ عُرف ببدع الإصلاحات المؤملة اللحاق بركب دول الكفّار المتطورة، بل لأن هذه الدول بالذات مَن ضغطت على ممثله في سورية كي يتبع ذلك السياق. وكان قناصلُ تلك الدول محقين إلى حد ما، طالما أن معظم أولئك الأعيان قد تورطوا فعلاً بالفتنة بدعم من الباب العالي نفسه. كذا كان الحالُ عقبَ أسبوعٍ مرّ على الأحداث، وكان الوضع في دمشق يتدهور مثل عربةٍ جمح خيلها. عندئذٍ فكّر رمضان آغا بضرورة التواري عن الأنظار، ريثما تنجلي السحابة السوداء عن أفق المدينة.
" علينا مغادرة الشام، مؤقتاً أو أبداً، وذلك بحَسَب ما يفرضه سيرُ الوضع إن كان حسناً أم سيئاً "، قال لوكيل أعماله باللهجة الشامية. ثم أوضحَ بعد لحظة صمت، " الأحوال مستقرة في مصر، ولن أكون أول من يلجأ إلى حمى حاكمها، المعروفة سلالته بسوء العلاقة مع الدولة "
" لو أننا، يا سيّدي، نتريث قليلاً في مكانٍ آمن قبل الشروع بمغامرة كهذه؟ "، اقترح وكيل أعمال الآغا. كان الوكيل شاباً غريباً عن الحي، لكنه متعلمٌ وحائز على ثقة سيّده. هذا الأخير، رمق وكيله بنظرة ملية قبل أن يتساءل بدوره: " أيّ مكانٍ آمن، تعني؟ "
" في بلدتنا، الزبداني.. "
" أتريدني أن أختبئ في كهوفها، مثلما فعل بعض الرعاع من أهل الحارة حين هُرعوا لتسلق جبل قاسيون خوفاً من ملاحقة السلطات لهم؟ "، قاطعه الآغا بنبرة ازدراء.
" لم الاختباء أصلاً، والبلدة نائية في بر الشام؟ لديكم مزرعة كبيرة هناك، مع مسكن مناسب. وجودكم في الزبداني لن يثير ريبة أحد، بالنظر لكونكم اعتدتم على قضاء جانبٍ من الصيف فيها كل عام "، أجابَ الوكيلُ وكانت لهجته طبيعية توحي بالاطمئنان. صمتَ الآغا، وعاد يشردُ بعيداً بأفكاره.
بينما أخذَ الرجلُ وقته لحسم أمر الرحيل، يتعيّن علينا في الأثناء الإشارة إلى شيء كان يقلقه أشد القلق: امرأته الشابة، وكان وضعها الصحيّ يتفاقم سوءاً على أثر ولادة عسرة. لحقَ المولودُ سريعاً بأشقاءٍ توفوا في مثل سنّه تقريباً، دونَ أن يكون لهم حظ الابنة الوحيدة ذات الأعوام العشرة.

* مستهل الفصل الأول/ الكتاب الثالث، من سيرة سلالية ـ روائية، بعنوان " أسكي شام "








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شاهد .. حفل توزيع جوائز مهرجان الإسكندرية السينمائي


.. ليه أم كلثوم ماعملتش أغنية بعد نصر أكتوبر؟..المؤرخ الفني/ مح




.. اتكلم عربي.. إزاي أحفز ابنى لتعلم اللغة العربية لو في مدرسة


.. الفنان أحمد شاكر: كنت مديرا للمسرح القومى فكانت النتيجة .. إ




.. حب الفنان الفلسطيني كامل الباشا للسينما المصرية.. ورأيه في أ